لا أحبذ الكتابة والتحدث – عادةً - خارج مصر، عبر وسائل الاتصال الجماهيري والصحافة، عن بعض مسائل الشأن الداخلي الجاري ذات الحساسية المجتمعية أو السياسية الخاصة، إذا صح هذا التعبير، حتى لا يفسر البعض من أهلنا الكرام كلامنا أحياناً على غير مراده. ولكن «للضرورة أحكام» كما يقولون؛ وقد تراكمت لديّ أعمال عدة لا أجد لها منفذاً للنشر، برغم كرم مؤسسة «الأهرام» القاهرية، إذ تنشر مقالاتي بصفة متكررة، بين حين وآخر. وها هي «الأخبار» البيروتية الغرّاء، بكرمها المعهود أيضاً، تقوم بنشر مقالاتي على الجمهور العربي الكريم، ولو كانت عن مصر بصفة خاصة.
ثم أنه قد مضى الزمن الذي كانت تعتبر فيه الكتابة عن الشأن الداخلي لقطر عربي ما شأناً داخلياً، إذْ في الحقيقة من الأمر كلنا في الهمّ عرب... وفي الفرح والترح أيضاً، وبخاصة لذوي الاتجاه العربي القومي الصميم.
والحق أن المجتمع المصري في الوقت الراهن - كما المجتمع العربي الكبير عامة إلى حد كبير - يشهد نوعاً من التحلل التدريجي البطيء لعدد من منظومات القيم والعلاقات الاجتماعية التقليدية التي حافظت على الكيان المجتمعي العربي – الإسلامي عبر التاريخ. ويتسارع مدّ التغير السلبي راهناً تحت تأثير متغيرات عديدة أبرزها: السقوط المدوّي لبعض جماعات الإسلام السياسي، وما خلفه ذلك من شعور مطبق بالسأم – إن لم نقلْ اليأس - من إمكان الاعتماد على «التدين السياسي» كرافعة حياتية. وقد شهدت الحقبة الممتدة من مطلع السبعينيات إلى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، مع بزوغ شمس ثورة يناير التاريخية 2011، تعاظم الدور المجتمعي للإسلام السياسي في مختلف حقوله الفكرية والحركية، من الدعوة إلى أداء الشعائر، ومن أعمال ضبط السلوك الشخصي في أجواء التقليد لموجات التحديث الغربي (وبخاصة في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة) – رغم عدم هبوط معدلات الجريمة الجنائية في ما يبدو – بما شمله ذلك من تحوير أنماط الثقافة التقليدية وخاصة في مجال الزيّ النسائي بالذات.
يضاف إلى ذلك، نشاط إسلاموي فائر - خلال الحقبة المذكورة - في مجال دعم شرائح من الطبقات الفقيرة، سواء بالإعانات النقدية المباشرة (خصماً من وعاء الزكاة والصدقات) أو من خلال الإعانات السلعية المقدمة من الجمعيات الأهلية والخيرية الإسلامية، ومنظومات تقديم الخدمة الصحية والتعليمية في المستشفيات والمدارس الخاضعة لإشراف الجمعيات الإسلامية، المشتغلة في جانب أساسي منها لحساب التيارين السلفي والإخواني داخل الإطار العريض للإسلام السياسي.

أهمية خلق بديل
على الصعيد الفكري والثقافي لمشروع
الإسلام السياسي

وقد جاء تفجّر «القلب المركزي» للحركة السياسية الإسلامية في مصر بالذات – وبخاصة خلال فترة حكم الإخوان المسلمين 30/6/2012 - 30/6/ 2013 وما بعدها - لتمثل علامة فارقة على اضمحلال مشروع كبير بكامله هو «المشروع السياسي الإسلامي» الممتد ظله الوارف أو الثقيل طوال نصف القرن الممتد منذ عدوان يونيو/ النكسة عام 1967 حتى عام 2011.
تشاء المقادير التاريخية أن منظومات الحياة السياسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي خلال نصف القرن الموسوم، حكمتها ثنائية شبه حديدية من «الإسلام السياسي/ أنظمة الحكم التسلطية». وأن هذه الثنائية لم تكن ثنائية تناقض عدائي في جميع أوجهها، وإنما عكست في جانب منها تناقضاً عدائياً يستهدف الصراع على حيازة واستعمال علاقة «القوة» في المجتمع، بما فيها السلطة، وتناقضاً آخر لم يزد في الحقيقة عن كونه «اختلافاً» يسمح بتوزيع الأدوار حيناً وتبادل المنافع السياسية حيناً آخر.
تحت الظل الثقيل لمزدوجة «الإسلام السياسي/ أنظمة الحكم» لم تفلح الحركات السياسية الأخرى، من ليبرالية ويسارية تقليدية ومحدثة وقومية ناصرية ووطنية - تقدمية حيثما وجدت، في اختراق ستار الركود السياسي، فعانت من ضعف شديد مزمن، وكانت النتيجة أن سقوط مشروع «الإسلام السياسي» في مصر بمنظوماته المختلفة، أعقبه فراغ سياسي وعقائدي هائل لم يملأه أحد حتى الآن. لذا، من بين أسباب أخرى، أخذنا نشهد علامات على حدوث تحلل تدريجي وبطيء في منظومات القيم والعلاقات الاجتماعية التقليدية كما أشرنا. فهذا سبب أول للظاهرة.
السبب الثاني أن الاقتصاد المصري، وسائر الاقتصادت العربية المتأثرة بالانتفاضات الشعبية عقب يناير 2011، أخذت تعاني من «موجة ركودية» أو «دورة كساد» Recession cycle متوسطة الأمد في ما يظهر.
وقد تمثلت علامات دورة الركود الراهنة (يناير 2011 -...) في انكماش حركة المتغيرات الاقتصادية الإجمالية على الصّعُد التالية:
أ ــ معدل النمو الاقتصادي العام، بمعنى النسبة المئوية للزيادة في الناتج المحلي الإجمالي خلال سنة.
ب ــ معدلات الاستثمار والادخار الكلي.
ج ــ ميزان الدخل والإنفاق العائلي.
د ــ حجم المعاملات والصفقات التجارية.
هـ ــ مظاهر «ركود الأعمال» من خلال معدلات الإفلاس والتخارج،

اتباع حزمة سياسات
اقتصادية موجهة للعلاج
المباشر لآثار الركود
وتصفية الشركات، ومستويات الطاقة الإنتاجية التشغيلية، والإغلاق الجزئي أو الكلي للمنشآت بفعل التعثر المالي أو تدهور مستويات الطلب أو التقادم التكنولوجي أو عدم تعويض التقادم في الآلات والمعدات أو غير ذلك.
وــ عجز الموازين المالية أو الأسمية، من الموازنة العامة وميزان النقد الأجنبي (والاحتياطي من العملات الأجنبية) وميزان المدفوعات.
ز ــ أخيراً ولكن ليس آخراً، انخفاض مستويات التشغيل أو ارتفاع معدلات البطالة.
وقد أثرت موجة الركود الاقتصادي بنسب مختلفة، ودرجات وأشكال متباينة، على الطبقات والشرائح الاجتماعية، وكان أشدها تأثيراً على «الفلاحين» من العمال الزراعيين والمستأجرين ومُلاك الأراضي الصغيرة ومتوسطة الحجم، بالإضافة إلى الشرائح المتعطلة كلياً أو جزئياً في المدن من سكان ما يسمى بالأحياء العشوائية، وعمال وموظفي القطاع الحكومي، والعمال والموظفين في شركات قطاع الأعمال العام ولاسيما في مجال «الغزل والنسيج والملابس الجاهزة».
وقد أدت الآثار المتلاحقة للموجه الركودية الى التآكل المتسارع للدخول تحت وطأة التضخم النقدي، برغم محاولات الحكومة لإحداث زيادات تدريجية منتظمة في فاتورة الأجور وفي التعويضات الاجتماعية خلال العامين الأخيرين. وتجلت هذه الآثار بصفة مؤكدة في الأرياف تحت وطأة ما تمليه محاولات تغطية فجوة العجز في الموازنة العامة للدولة في مصر من نقص الدعم الحكومي الموجه للطاقة ومدخلات الإنتاج الزراعي من البذور والأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية... وانسحاب الدولة ولو جزئياً من عملية التسويق النهائي والتزود بالمدخلات الوسيطة لبعض المحاصيل الأساسية خاصة البطاطا والقطن.
وقد أدى السباق غير المتكافئ بين الدخول النقدية وموجة الغلاء السعري، في نهاية الأمر، الى تدهور - نسبي وموقت في ما نتوقع - في مستويات معيشة سكان الريف، شمال الوادي وجنوبه، موئل التوسل العقدي تقليدياً بالدين، وكذا في البادية - بادية سيناء والصحراء الغريبة.
ونزعم أن انخفاض مؤشرات مستويات المعيشة الاجتماعية للمزارعين والموظفين والمتعطلين كلياً أو جزئياً في المدن من سكان ما يسمى بالأحياء العشوائية، قد أثر سلباً في منظومات القيم والعلاقات الاجتماعية، كما ذكرنا غير مرة، في الريف والحضر كليهما.
ومن أشكال التأثير السلبي على منظومات القيم، ما تدل عليه المشاهدات – تلك التي تحتاج إلى أدلة رقمية من واقع استطلاعات ميدانية مدققة - من انخفاض المظاهر الدالة على التعاضد والتكافل المجمعي على المستوى القاعدي، و»انفلات» نسبي في ميزان العلاقة بين الفتيان والفتيات، وبين الرجال والنساء عموماً ولو من خلال الظاهرة المسماة في المواقع الحضرية بالتحرش. وأما على صعيد العلاقات الاجتماعية، فيلاحظ الضعف النسبي لمنظومات القرابة، والزّمرة الاجتماعية («الشلة» من الزملاء والأصدقاء أو رفاق العمل والمهنة والجوار الجغرافي) ووهن مفعولاتها الإيجابية عبر الزمن، ما انعكس في استمرار تزايد معدلات العنف الأسري والجريمة الجنائية حتى بين «المعارف»، وارتفاع وتيرة «تجنيد» أفراد من الفئات المهمشة ضمن فصائل ممارسة العنف والعنف الجسدي والدموي الإسلاموي.

ماذا بعد؟

لقد يثور التساؤل عما بعد... ونرى أن مواجهة المرض الوبيل، ليست بمجرد تقصّي وتتبع «العرَض» وإنما علاج «السبب». وليس علاج الأسباب بالأمر السهل، ولسنا من دعاة «القول السهل» بأن «المدخل الأمني» غير كافٍ مثلاً، أو اتباع نهج «إطفاء الحرائق مثلاً. تلك الأقوال السهلة غير مجدية، وغالباً ما تذكر في سياق «المكايدة السياسية» كما يقال أو «المعاندة» فحسب، ومحاولة اتّقاء اللوم، وإلقاء التبعة على الآخرين، مع تجنب «النقد الذاتي» العميق.
وإناّ لندرك أن مواجهة الظواهر الاجتماعية تتطلب بطبيعتها زمناً أطول، وجهداً أشد بأساً، ولذا نشير فحسب إلى رؤوس موضوعات على جدول أعمال المواجهة، في نقطتين:
أولاً: في المجال الثقافي والسياسي والحركي، نشير إلى أهمية خلق بديل على الصعيد الفكري والثقافي لمشروع الإسلام السياسي، بأجنحته الممتدة العديدة، من مجال الدعوة إلى المساعدة الاجتماعية المباشرة، وأدوات الخدمة التعليمية والصحية، وتصحيح السلوك الفردي في دوائره المختلفة، ما ينعكس في معدلات الجريمة والعنف العائلي والأسري وعلاقات «النوع الاجتماعي».
ثانياً: ضرورة اتباع حزمة سياسات اقتصادية موجهة للعلاج المباشر لآثار دورة الركود الراهنة. وفي مقدمة هذه السياسيات ما يتعلق بالجانب «التوسعي» المنضبط للسيولة النقدية، والإنفاق العام، جنباً إلى جنب رفع مستويات تشغيل الطاقات الإنتاجية المتاحة، ودعم القطاعات الإنتاجية وخاصة السلعية منها، وبصفة أخص في الزراعة والصناعة التحويلية والتشييدات الزراعية والصناعية.
ونضيف ضرورة إعادة النظر في سياسات الضريبة والدعم وتملك الأصول لتجنب الآثار السلبية على الفقراء ومحدودي الدخل في الطبقات الاجتماعية المنتجة ثم رفع مستوياتها المعاشية بصورة ملموسة عبر الزمن في إطار الديمقراطية الاجتماعية والسياسية الصحيحة.
وتلك وغيرها، كما أشرنا، مجرد «رؤوس أقلام».
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة