تمكننا العناية النقدية بنظام الاحتفاظ بالتمثيل العباري للواقعة واسترجاعه، من مراقبة ممارسات التأويل باعتبارها نظام استرجاع ونسيان. يتحدث هنري روسو عمّا يسميه «عارض فيشي»، إذ يسعى الفرنسيون في لاوعيهم إلى نسيان ذكريات التواطؤ مع المحتلّ النازي. لكن التعاطي الباثولوجي مع ذاك العارض قد يكون في غير محله. من جهته، يتحدث ريكور عن «نعمة النسيان». قد يكون سبب النسيان هو النيمون العام «public mnemonics» المثقل بالمناسبات، على أن يكون النيمون العام هو الذاكرة الجمعية، مضافاً إليها مجمل المؤسسات المعنية بتغذيتها، والممارسات المرتبطة بنقلها وتكرار سردها.في أيار 2008، بدأ المثقفون الشيعة يتساءلون في ما بينهم عما هي «واقعة كفر رمّان» التي ردّدها الدروز في حينها، فقالوا: «الشيعة يثأرون لواقعة كفر رمان». لاحقاً، علمنا أنّها ما حدث حين قام جيش عثماني ـــــ درزي بكمين لقوة من جبل عامل، مرتكبين مجزرة. اللافت أنّ الغالبية العظمى من مثقفي الشيعة لم يَسمعوا بتلك الواقعة قبلاً. طبعاً، هناك تاريخ طويل للنسيان الشيعي، إذ يمكننا التأريخ للنسيان الشيعي أكثر منه للذاكرة الشيعية. قد يَرى البعض ذلك مَرَضياً، ولكنّه أيضاً مناسبة تَسمح بإعادة قراءة جذرية، وبمرونة سردية.
هناك عارض يمكن تسميته «عارض لحد»؛ إذ ينسى اللبنانيون الشيعة ذكريات العمالة مع إسرائيل، ويمكننا الذهاب إلى الشريط المحرر من دون أن نجد أثراً لخطاب تأريخي يتعلق بالعملاء. إنّ سلوك حزب الله بعد تحرير عام 2000 في ما يخصّ العملاء، هو إشارة إلى النسيان/الصفح، باعتباره قدرةً على التجاوز، تمرّس عليها العقل اللبناني الشيعي. ليس من المستغرَب أنّه لا يتوافر أرشيف مادي بصري أو روائي لحدث ضخم كتحرير جنوب لبنان أو حرب 2006. الصفح عن عملاء لحد هو ذاته فقدان القدرة على أرشفة لحظة أيار 2000.
لدينا أيضاً «Damnatio memoriae»، أو النسيان السياسي، وهو مصطلح قانوني روماني؛ إذ يتخذ مجلس الشيوخ قراراً بحق شخص ارتَكب خيانة بحق الدولة، يُمنَع بموجبه ذكر اسمه نهائياً، وذلك بهدف إزالة أي أثر لذلك الشخص من حياة روما.
عند سؤالي لصديق من طرابلس، شمال لبنان، عما إذا كان يَعرف بأمر «إمارة بني عمار» الشيعية التي كان مركزها عاصمة الشمال واحتوت أضخم مكتبات المنطقة، فوجئت بأنّه لم يَعرف بها قبلاً. لكن الوجود التاريخي لتلك الإمارة متعارَف عليه في صفوف المثقفين الشيعة. لسنا بحاجة إلى تأريخ «خاطئ» لتتبيّن لنا خطوط تأويلية متعددة للحدث. يمكن فهم إعادة القراءة بأنّه تجميع لخط سردي يَشتمل مجمَلاً مختلفاً من «الوقائع». التذكُّر الشيعي لإمارة بني عمار، والنسيان السني لها، هما قراران سياسيان.
نسبة ضئيلة ممن ينحدرون من جبل عامل يَعرفون مَنْ هو الشيخ ناصيف النصار، إحدى أهم الشخصيات السياسية والعسكرية في التاريخ العاملي. بعد مقتله، بكاه الشيعة أربعين عاماً، ولكن علماء الشيعة اللبنانيين خافوا أن تحلّ ذكراه محلّ عاشوراء، فمَنعوا إحياء ذكراه، ومنذ ذلك الحين أصبح اسمه مغموراً.
■ ■ ■
بُعيد حرب 2006، نُقل أنّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وفي اجتماع داخلي صَرّح: «لقد غسلنا عار العراق». بغضّ النظر عن دقة النقل، إلا أنّ ذلك كان لسان حال شيعة لبنان، حين يناقشون الملف العراقي.
يَفتقد الشيعة عموماً إلى دائرة تداول مستقلة. حلقتهم السردية لا تزال مفتوحة (لا منفتحة) سلباً على حلقة السرد السنّي الأوسع. السنّي يتحدث إلى السنّي، على مسامع الشيعي، ومن دون أن يَحسب للأخير حساباً، أما الشيعي فيَفتقد القدرة على مخاطبة الشيعي الآخر، إلا وفي مخيلته رقيب سنّي رابض.
منذ ما قبل اجتياح العراق 2003، كان المثقفون العراقيون الشيعة يتحدثون بأسى عن امرأة بريطانية اسمها غرترود بل. غرترود، الملقَّبة بصانعة الملوك، هي مَنْ وضع الخريطة السياسية للعراق. «مسّ بلّ»، كما هي معروفة، اشتُهرت بموقفها السلبي من الشيعة. تتحدث غرترود في رسائلها عن الغبار التاريخي الكثيف الذي يلفّ المؤسسة الدينية الشيعية، غبار يَمنعهم من أن يكونوا مرئيين (كما لو كانت أمنية تاريخية شيعية، ألا يكونوا مرئيين)، ويَمنعهم من الرؤية أيضاً. بالمناسبة، تلك الصورة سيردّدها لاحقاً السيد موسى الصدر في لبنان، في خطابه الشهير «جئتُ لأُزيل غبار السنين عن وجه عالِم الدين».
يستذكر مثقفو الشيعة العراقيين دائماً غرترود بل باعتبارها لحظة أَخطأوا تقديرها؛ إذ رَفض مراجع الشيعة حينها عروضها للانخراط في العملية السياسية، فكان أن تجاوزتهم العمليةُ السياسية لقرن. وعند اجتياح العراق في 2003، كان الشيعة العراقيون يقولون إنّهم لن يكرِّروا لحظة غرترود القاتلة. ولكن مثقفي الشيعة اللبنانيين لا يَعرفون غرترود. وهنا تتبيّن بنحو أوضح إشكالية فقدان حلقة السرد الشيعي المستقلّ. لقد كانت مطالبة حزب الله للشيعة العراقيين بمقاومة الأميركيين أمراً غير مفهوم نيمونياً. في المقابل، تمكّنت حلقة السرد السنّي الأقوى من فرض عبارة «العلقمي».
مؤيد الدين بن العلقمي، عالِم وخطيب وُلد في قم، على الأغلب، أصبح وزيراً للخليفة العباسي المستعصم؛ ويتهمه المؤرخون السنّة بأنّه خان المستعصِم وسَلّم بغداد لهولاكو المغولي، رغم أنّ روايات شيعية أخرى تَنفي ذلك.
أيامٌ على اجتياح العراق وتَدخل عبارة العلقمي حيّز التداول الفعّال في العالمين العربي والإسلامي؛ والمغزى أنّ الشيعة يَستعيدون العلقمي في الخيانة. أما عبارة «غرترود»، التي اعتمد عليها التأويل الشيعي العراقي، فقد بقيت طيّ النسيان.
ليس ذلك دفاعاً عن شيعة العراق، فالدولة التي أسسوها بعد الاجتياح تستحقّ كل النقد والمحاسبة. ذلك قد يكون موضوعاً لنقاش آخر.
المثال الأبرز على عدم القدرة على تجاوز النيمون السنّي، هو أحداث ليبيا الراهنة. فما يَحصل في ليبيا هو تماماً ما حصل قبلاً في العراق. وإذا كان القذافي قد وَجّه المدفعية إلى شعبه، فإنّ صدام حسين، منذ التسعينيات، لم يجد أي رادعٍ لاستخدام القوة الجوية في إبادة مئات الآلاف. بطريقة ما، جرى تأويل ما يَحصل في ليبيا بأنّه حقّ طبيعي للشعب الليبي في طلب النجدة للتخلُّص من حاكم طاغية. أما ما حصل في العراق فهو خيانة تُشعر الشيعة أينما كانوا بالخجل.
خلال الأيام الأخيرة لاجتياح العراق، قيل إنّ السيد علي السيستاني طَلب من المواطنين في محيط مدينة النجف عدم قتال الأميركيين، وكان ذلك كافياً لشنّ حملة إعلامية تخوينية عليه. والنفي الذي أَصدره مكتب السيستاني في بيروت أراح حزب الله، وصارت وسائله الإعلامية (دون أي وسيلة إعلامية أخرى) تتناقله باعتباره صكّ براءة شيعياً.
بعد ثماني سنوات على تلك الواقعة، خرج الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ودافع عن ضربات قوات التحالف، ونفى عنها صفة الصليبية، وهتفت قلوب العرب للثوار الليبيين في خطب الجمعة والمنابر الإعلامية. اللافت أنّ مراسل الجزيرة في ليبيا عبد العظيم محمد، يقدِّم برنامج «المشهد العراقي» الذي يروِّج للمقاومة العراقية.
الحديث هنا ليس عن التناقض في معالجة الأحداث وتأويلها؛ فالسرد لا يمكنه إلا أن يَنتقي ويَقتصد في الاسترجاع ويتوسّع في النسيان. لكن الأمر يتعلق باستكشاف احتياط سردي يمكننا أن نعيد صياغته. كذلك فإنّه دعوة إلى حزب الله تحديداً لمراجعة تصوّره لما حصل في العراق، وبالتأكيد دعوة للعالم العربي لأن يتسامح مع العراقيين، كما فعل مع ليبيا.
* باحث لبناني