كانت عائلة حسني مبارك تتوقّع نهاية مختلفة للطاغية. كان يعيش مرتاحاً في قصره المسروق في شرم الشيخ، تاركاً لابنه الطموح شؤون الحكم وشجونه في القاهرة. كانت العائلة تتوقّع أن يموت مبارك ميتة طبيعيّة، بعد عمر طويل، فأعمار طغاتنا طويلة جدّاً بفضل الطب الغربي. وأعمار الطغاة طويلة ولو عاشوا حتى العشرين. توقّعت عائلة مبارك أن يموت مبارك وأن تصبح جنازته مناسبة لتنصيب جمال مبارك ومبايعته. العدّة كانت مُعدّة. كان زعماء الدول الغربيّة والعربيّة سيتقاطرون على عجل إلى القاهرة لإسباغ أفضل الصفات عليه. كان الرئيس الأميركي سيكون أوّل الواصلين، وكان سيلقي خطاباً يتحدّث عن جهود حسني مبارك من أجل السلام. وكان الملك السعودي الأمّي، سيستغرق نحو نصف ساعة لقراءة سطريْن كُتبا له عن الراحل. وكان بنيامين نتنياهو سيذرف الدموع مُتذكّراً العلاقة الخاصّة مع الطاغية. وكانت قافلة من صحافيّي حسني مبارك، من مركز «الأهرام» ومن خارجها، سيقعون أرضاً من البكاء.
وكان عمرو أديب سيجهش على الهواء. وكانت جيزيل خوري ستفرد حلقات من «استوديو آل سعود» للحديث عن حكمة مبارك. وكانت 14 آذار سترسل طائرة خاصّة، أو اثنتين، لشكر مبارك على دعمه قضيّتهم المذهبيّة في لبنان. لكن تحوّلاً غير متوقّع حدث في العقد الأخير من عمر مبارك. لم يتسنّ لمبارك أن يشهد وهو مُسجّى، مجيء كل الرؤساء الأميركيّين الأحياء لتكريمه، كما حصل مع أنور السادات. فات مبارك أن يتنافس في رثائه كل صهاينة العالم.
كاد جمال مبارك يصبح رئيساً طاغية، خلفاً لوالده. بدأ الصهاينة في أميركا إعداده، وبدأوا من خلال الإعلام الأميركي التنويه بقدراته. شبكة «سي.إن.إن» كانت تتسابق لتحصل منه على كلمة أو اثنتيْن. وتجمّع الطغاة وأولادهم وثقلاء البورجوازيّة في العالم كان يتعامل مع جمال مبارك على أساس أنّه واقف عند أعتاب الرئاسة. حاشية جمال مبارك كانت في حجمها حاشية طغاة. والطامعون من الأكاديميّين المصريّين ومن الصحافيّين، وخصوصاً هؤلاء المتلوّنين في «مركز الأهرام»، تزاحموا للحصول على انتباهه ورضاه. وبعض هؤلاء لحق بـ«الثورة»، كي يتسنّى له التلوّن والتكيّف من جديد.
حسني مبارك في القفص، كان يمكن أن يصبح مهرجاناً متجوّلاً. أصدر الماريشال للّو المرّ قراراً عرمرميّاً عندما عيّنته الاستخبارات السوريّة وزيراً للداخليّة، من أجل أن يدور رفات القدّيسة رفقا على مختلف القرى والمدن في لبنان. يمكن، قياساً، أن يجول القفص الذي يضمّ حسني مبارك مع ابنيْه، على مختلف الدول العربيّة. يصبح القفص المتجوّل مصدر بهجة للصغار والكبار على السواء. لا يعني ذلك أنّ المهرجان المُتجوّل يجب أن يؤدّي إلى تجويع مبارك وولديه. لا، أبداً. يمكن دعوة الصغار إلى رمي حبّات الفول السوداني داخل القفص، كما كنّا نفعل أطفالاً في أقفاص القرود في حديقة الحيوان بالقاهرة. ما عادت السياسة مصدر سعادة في الحياة العربيّة، وقفص مبارك يستطيع أن يغيّر ذلك. يستطيع أن يبقى القفص مضاءً ومزيّناً في الليل، كي يستعين به أهل السمر، وخصوصاً في موسم السحور. لقد دخل حسني مبارك في القفص، وبدأت مرحلة رماديّة وضبابيّة في تاريخ مصر. لو لم يتسلم المجلس العسكري الحكم، لقلنا إنّ قفص مبارك فصل جذريّاً بين مرحلة وأخرى. لكن لا يجوز القول بعد. لا، ليس بعد.
لم يكن المشهد عاديّاً. حسني مبارك الذي حكم مصر، وحكم بالنيابة عن النظام الإقليمي العربي الذي أنشأته أميركا وإسرائيل بعد «كامب ديفيد»، بات على سرير من الذل والهزيمة. كان مبارك يجمع الزعماء العرب مثل ناظر المدرسة الذي أوكلت إليه إسرائيل وأميركا مهمّة حفظ النظام القمعي الإقليمي، وغاب ذاك الناظر عن الساحة. من ينسى دوره بعدما ضمن غفران جريمة «كامب ديفيد» عندما كلّل الاتفاق بإجماع عربي ذليل، وحظي بمباركة ياسر عرفات الذي مشى على خطاه. سهّل له الملك فهد، واحد من أسوأ الحكّام العرب في القرن العشرين، على سوء المنافسة مهمّة عمليّة العودة إلى «الصف العربي». حسني مبارك كان كأم العروس في اجتماع الجامعة العربيّة في القاهرة بعد غزو الكويت: أراد أن يدشّن عصر الغزوات الأميركيّة المباشرة، بعدما كانت أميركا تعتمد على وكلاء محليّين. إنّ دور مبارك في الإعداد للغزوة الأميركيّة الكبرى للعالم العربي دور تاريخي، يحظى بأعلى تقدير من أميركا، ومن إسرائيل والسعوديّة. (طبعاً، لا يشتغل مبارك بالمجّان: قبض أثمان موقفه من السلالات الخليجيّة ومن أميركا). هوى مبارك، وإن لم يهو نظامه بعد. مشهده في القفص رمزي على أكثر من صعيد، وفي أكثر من مستوى.
لنعلّق استهلالاً بالقول إنّ المجلس العسكري الحاكم لم يرد محاكمة جديّة لمبارك أو لفريق حكمه. خضع المجلس العسكري الحاكم لضغوط قويّة، وفق الصحافة الغربيّة، من الحكم السعودي والأميركي كي يُمنع ظهور مبارك في محاكمة. وفّق المجلس بين الضغط السعودي وضغط الشعب المصري الذي لم يتساهل أو يتهاون في أمر محاكمة نظام مُبارك، فأخرج مسرحيّة لا معنى لها. مسرحيّة المحاكمة ظاهرة في الصورة: لماذا سُمح لحسني مُبارك أن يظهر في سرير التمارض المفضوح؟ هل تدهورت حاله الصحيّة إلى تلك الدرجة، بعد أسابيع فقط من تنحيته؟ ولماذا لم تظهر عليه أثناء شهور حكمه الأخير أي من العوارض الصحيّة الطارئة التي تمنعه من الجلوس، وهو الذي كان يمتطي طائرته الخاصّة في رحلات لا تنتهي؟ من يقبض تلك المقولة من جهاز مُبارك الدعائي وهو لم يتوقّف عن العمل حول ولوجه في غيبوبة مجرّد أن ترد كلمة محاكمة في الصحف المصريّة؟ ألم يستطع القاضي أن يفرض عليه أن يقف، أو حتى أن يجلس احتراماً للمحكمة؟ كان مُبارك وهو يخوض حملته «الانتخابيّة» الأخيرة، يستمتع وهو يتحدّث مع مُروِّجه عماد الدين أديب، عن قوّته وصحّته وجبروته. هو الطاغية الذي منع التعرّض لأخباره الصحيّة تحت طائلة القمع الإضافي. أراد المجلس العسكري أن يظهر مبارك في سريره، كي ينمو تعاطف شعبي معه لقطع الطريق أمام محاكمة جديّة. لكن اللعبة فشلت، ولم يحظ الطاغية بأيّ تعاطف شعبي، ما دفع المجلس إلى قطع البثّ التلفزيوني. طبعاً، مشهد مُبارك في المحكمة ترك أثراً بالغاً في مآقي دعائيّي آل سعود. توافدوا لتعزية بعضهم لبعض. جفّ الحبر في أقلامهم وهم يذرفون الدموع عليه. ما طاقوا لهم تحمّل المشهد. أكثر من ذلك، بعض ليبراليّي أمراء آل سعود استفاق على المطالبة الليبراليّة بإلغاء عقوبة الإعدام لمبارك فقط. هؤلاء معجبون بطقس قطع الرؤوس الدوري (بمعدّل رأس كل أسبوعيْن) في مملكة القهر السعوديّة، وهم لم يستنكروا يوماً الإعدامات والتعذيب في عهد مبارك. لكنّهم فجأة، من أجل رأس مبارك، تذكروا وهم وهابيّون خجولون أنّ الاستعانة بالمطلب الليبرالي الغربي مفيد هنا.
لكن للمشهد دلالات بالغة، أن يجلس طاغية عربي في قفص ليجيب عن أسئلة قاض، وأن يجاوره في القفص رمزا الفساد في نظامه، ابناه. الرمز هو في إذلال بسيط لرجل امتهن إذلال شعبه على مدى عقود طويلة: وحاله مثل حال زعماء العرب الكثيرين الذين يمعنون في إذلال شعوبهم، فيما هم يتشرّبون المهانة والذلّ على يد أميركا وإسرائيل. قُتل 23 مصرياً بنيران إسرائيليّة في عهد مبارك (وفق تعداد في جريدة «الشروق») ولم يحرّك ساكناً. والانتفاضة المصريّة اختارت أن تترك أحمد أبو الغيط (ضيف جيزيل خوري المُفضّل، إلى جانب «أبو فادي» دحلان) وشأنه، مع أنّه سخّر السفارات المصريّة للتجسّس والإخبار عن المعترضين المصريّين في الخارج، قبل سقوط مبارك. من ينسى مشهد أبو الغيط وهو يمسك بحرارة يد تسيبي لفني قبل أيّام من عدوان غزة؟ وابنا حسني مبارك قرّرا التقى والورع في السجن. الاثنان اللذان تصرّفا مع الدولة المصريّة كأنّها تركة عائليّة، وقفا في قفص خُصّص لوالدهما. علاء مبارك لا يستطيع أن يفارق القرآن. ألهمه السجن.
وإذلال مُبارك، وإن كان صوريّاً، قليل جدّاً بالنسبة إلى ضحايا النظام. ولكن من أذلّ من؟ عندما خطف بلطجيّة حسني مبارك الصحافي المصري الشجاع، عبد الحليم قنديل، وعذّبوه وضربوه قبل أن يلقوه عارياً على طريق الهرم، هل أذلّوا قنديل؟ قضيّة قنديل لم تلق إشارة في أي من الصحف الغربيّة، لأنّه ليس داعية من دعاة التطبيع ومن دعاة آل سعود (هناك تطابق في الثقافة السياسيّة العربيّة بين الدعوة للتطبيع والدعوة لآل سعود). أخاف قنديل حسني مبارك، وليس العكس. صمتت الحكومات الغربيّة عن اعتقال الآلاف من المواطنين والمواطنات في مصر وعن تعذيبهم، بعدما زعمت تلك الحكومات عقب سقوط مبارك أنّها كانت دوماً إلى جانب الديموقراطيّة.
مفهوم أن يصاب حكام الخليج، وكل الحكام العرب، بالجزع من مشاهد محاكمة مبارك، وإن كانت غير جديّة. يكفي أن ينتهي الحاكم في قفص، ويكفي أن يُجبر على مشاهدة كارهيه الجسورين. كان حكم الطغاة العرب، ولا يزال، يقوم على افتراض حب الشعب للحاكم. الطغاة الهاشميّون الذين يحظون برعاية ملحوظة من الإعلام الغربي، روّجوا لأكذوبة العائلة الأردنيّة الواحدة. أي أنّ قمع الوالد ومجازره ضد المخيّمات كانا من لدن أب عطوف. إنّ محاولة التماهي بين العائلة والدولة محاولة لتدجين الشعب ولتشبيهه بالأطفال: أي أنّه لا يزال يحبو ويحتاج إلى رعاية الطاغية، كي يستقيم له الوقوف والسير على قدميه. تخويف الشعب كان ولا يزال أساسيّاً في سلوك الطغاة العرب.
لم يكن مبارك أوّل حاكم عربي يقف في الأسر. مشهد عبد الكريم قاسم في الأسر لا يزال ماثلاً. لكن لم يكن للرجل حاشية وثروات كي يُحاكم بتهم الفساد والرشوة. مات فقيراً شبه معدم، وكان حكمه يعكس الاهتمام بالفقراء والمُعدمين. اللواء أمين الحافظ في سوريا تبادل إطلاق النار مع المجموعة المُهاجمة في 1966. وإذا كان قاسم فقيراً، فإنّ الحافظ كان فقيراً ومُهرّجاً (أي مُضحكاً، خلافاً لكل الزعماء العرب الحاليّين، لكن مشروعه لتحرير فلسطين في ساعات لم يكن مُضحكاً البتّة). أما محاكمة صدّام حسين على جرائمه، فلم تنطلِ. مسرحيّات الاحتلال الأميركي باءت بالفشل، وفشل الشعب العراقي في الحصول على محاكمة لطاغية فريد. لم تكتس كلّ العمليّة السياسيّة في العراق منذ الغزو الأميركي أية شرعيّة أو مشروعيّة. تتمتّع جزمة الجندي الأميركي في العراق بقوّة ونفوذ، يفوقان نفوذ كل المجلس النيابي العراقي الواقع هو الآخر تحت الاحتلال.
إنّ مشهد حسني مبارك في القفص مُنشّط للهمة الجماهريّة العربيّة. موضوع الاستكانة الشعبيّة العربيّة، التي شحذت الهمم الاستشراقيّة في الغرب خصوصاً في تنظيرات حول الاتكاليّة والجبريّة وعن طاعة الشعب للحاكم، حقيقة وإن طالت. ولا ينفع المكابرة حولها. لعقود، اعتاد الشعب العربي أن يتذمّر من حكّامه من دون التفكير بإحداث تغيير. طبعاً، هناك فئة قليلة شجاعة عارضت واحتجّت وسيقت إلى السجون وتعرّضت للتعذيب والقتل. لكن الاستكانة بصورة عامّة لم تأتِ من فراغ. نجح الطاغية العربي في فرض جو من التخويف والرعب في البلاد. أتقن الطاغية العربي فنون التعذيب والقتل والتنكيل، بالإضافة إلى إتقان دور إرضاء إسرائيل وأميركا للحصول على الثناء وعلى شهادة عليا بالاعتدال. لهذا، فإنّ وجود مبارك في القفص يقضي على عقود من بناء صورة الطاغية كالرجل الذي لا يُقهر. والرجل المعني، أي مبارك، أمضى ساعات في حوارات دعائيّة مع عماد الدين أديب حتى يروّج لنفسه ولقوّته في حملته «الانتخابيّة» الأخيرة. وكان إصرار على الاستفاضة في الحديث عن قدرات مبارك الخارقة في «حرب أكتوبر» الملعونة (إنّ كذبة «نصر أكتوبر» رسّخت قواعد النظامين السوري والمصري). الطاغية العربي لا يُقهر. قدراته عجائبيّة، وقد يتحلّى بمواهب خارقة (مثل ملوك آل سعود والملك الحسن الثاني في المغرب أو الملك حسين في الأردن، الذي أتقن فن رواية محاولات الاغتيال العديدة الحقيقية والمُختلقة التي تعرّض لها، ونجاته منها بقرار ربّاني، إذا ما أراد السامع أن يصدّق). ما حيلة المواطن والمواطنة أمام حاكم يتمتّع بقدرات خارقة!؟
لكن في مشهد مبارك داخل القفص دلالات أخرى. يحيط الحاكم العربي نفسه بحاشية هائلة تمنع عنه وصول أخبار وحقائق عن مقت الشعب له. يقع الحاكم، وهذا غير ضار للمحكوم، أسير أوهام تصيبه بالصدمة عندما يقع المحظور، بالنسبة إليه، عندما تتفجّر عواطف الجماهير ضدّه، وضدّ حكمه. من المرجّح أنّ مبارك لم يعلم بعمق كراهية الناس له إلّا بعدما اندلعت الانتفاضة المصريّة. وأبناء الجيل الثاني من الحكّام العرب يعانون أوهاماً مُضاعفة، لأنّهم ترعرعوا في كنف الطاغية والدهم. والحاشية رعتهم منذ الطفولة، وأسبغت عليهم الألقاب والشهادات والمناصب. نشأ هؤلاء على نظرة مُبالغة في قدراتهم كافّة، وفي حبّ الناس لهم. ظنّوا أنّ السلالة أبديّة.
لو أنّ للناس قدرة على التعبير عن آرائهم الحقيقيّة من دون روتوش أو تجميل، لنطقوا بكراهيّتهم لكل الطغاة، كما فعل الشعب المصري ضد حكم مبارك. لو أنّ للناس الحريّة، لنطقوا ضد حكم السلالات كلّها، الجمهوريّة منها والملكيّة (من الطريف أنّ إعلام آل سعود يميّز لأسباب سياسيّة بين الأنظمة الملكيّة والأنظمة الجمهوريّة على أساس أنّ الأنظمة الملكيّة حكومات فاضلة ديموقراطيّة. ويساعد الراعي الأميركي وإعلامه في هذا التمييز من يسوّغ العلاقات الجهنميّة بين حكومته والطغاة الملكيّين والأميريّين. وليبراليّو الإعلام السعودي، أيّ الوهابيّون الخجلون، يشاركون في خطاب الزيف ذاك عبر التنديد بقمع الأنظمة الجمهوريّة، باستثناء حكم مبارك الذي حاز تأييد كلّ الليبراليّين العرب؛ لأنّه كان وثيق الصلة بآل سعود ويتلقّى الكنوز من زايد وأولاده، ويحافظ على أوثق العلاقات مع إسرائيل). وقد تجذّر الكره الشعبي للحكّام عبر العقود وازداد في عصر الإنترنت لشعور الشباب العربي بأنّ حيّز العالم الافتراضي أكثر أمناً. لا يجرؤ الشعب العربي التكلّم بسخرية عن الطاغية في المقاهي وفي المطارات، لكن تبادل النكات اللاذعة سريع بين الشباب على الإنترنت. كلّ الأخطاء والقصور والصفات والنعوت للحكّام التي يتناقلها الناس في السرّ، تصبح بادية للعيان في مراسلات إلكترونيّة سريعة.
والطاغية يتعوّد أن يضحك الناس معه عندما يضحك، أو عندما يروي نكتة، أو أن يحزن الناس إذا حزن هو. أي أنّ الشعب العربي أصبح مسلوب العاطفة، منفيّاً عن نفسه، بوجود الطاغية. وتحوّل موت حفيد مبارك في السنة الماضية إلى مأتم حزين تفطّرت له قلوب المصريّين، وفق إعلام مبارك وكلام عمرو أديب (قد يكون الأخير النموذج المصري لجيزيل خوري، وليس في ذلك مديح لأيّ منهما). وقد حصل ذلك في سوريا عندما مات باسل الأسد. عاشت سوريا، ولبنان أكثر بحكم التملّق اللبناني التقليدي للنظام الأقوى، حالة من الحزن والعزاء استمرّت لسنوات. وهناك كتاب لأشعار المديح بشخص باسل الأسد، كان المساهمون فيها من اللبنانيّين في معظمهم. ولو كان رفيق الحريري شاعراً، لكتب ألفيّة عزاء في حق باسل الأسد، لكثرة ما ذرف من دموع، ولكثرة ما بالغ في تصنّع الحزن. ما كان في قدرة الشعب العربي أن يقول للحاكم إنّ حزنه هو غير حزنه، والعكس. ما كان في قدرة المحكومين الاعتراف بأنّهم لا يستظرفون أيّاً من حكّامهم. هل ثمة أسمج من رواية النكتة على لسان الحكّام؟
قد لا نرى مبارك في القفص مُجدّداً. أسدل المجلس العسكري الستار على الفصل الأوّل من المسرحيّة. تضايقت أنظمة صديقة من مسرحيّة المحاكمة (غير الجديّة) قبل اكتمالها. ولم يرق المجلس العسكري أن يتطرّق محام إلى اسم الطاغية الجديد. توقّف البث دون تفسيرات. والحكم الجديد في مصر يتعامل مع الحكم دون تفسير، وخلال الإكثار من الإلهاء المقصود: كأن يفرد موقعاً للاقتراع على الإنترنت، وفيه من الاختيار الحرّ ما في الانتخابات النيابيّة في عهد مبارك من الاختيار الحرّ. تصدر القرارات وتُلغى بدون تفسيرات مُقنعة. هل استدعي السفير المصري من إسرائيل أم لا؟ الصحافة الإسرائيليّة أدرى من الشعب: سارع العدوّ إلى إرسال وفد رفيع لترقيع الأمور. وحياة الجندي المصري عند المشير طنطاوي هي بأهميّة حياة الجندي في عهد مبارك. ضغط طنطاوي على رئيس حكومته، لإلغاء قرار استدعاء السفير. والعلاقة بين المشير وإسرائيل على ما يُرام، أو أكثر قليلاً.
لكن فصول مسيرة مبارك لم تنته. مصر حبلى بالتطوّرات. أحمد شحاتة أبلغ إلى الصهاينة رسالة بليغة، كان غير مسموح الإفصاح عنها في عهد مبارك. والقفص جاهز. الانتفاضة المصريّة قابلة للتطوّر والنموّ. الثورة المضادة مجتهدة والثورة المضادة للثورة المضادة قد تتبلور لتنقضّ عليها في اللحظة المناسبة. سارع جيفري فيلتمان ليصبح «أم العروس» في عهد «الثورات»: تعلم عندها أنّ إفساداً هائلاً قد حصل. لكن من يدري. قد تصبح انتفاضة مصر ثورة كاملة: عندها، ترى المشير طنطاوي في القفص، ومن دون نجوم أو ميداليّات. لعلّه هو الآخر يظهر في سرير التمارض.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)