في مذكراته، يتباهى ونستون تشرشل بأنّ «العرب مدينون لبريطانيا، وحدها، بوجودهم كدول. نحن من خلقها». هو تعميم خاطئ، ويتجاهل، كمثال، أنّ أعرق خرائط الدول على الإطلاق هي عربية، أي مصر. لكن أشهر رؤساء وزراء الإمبراطورية، التي لم تكن تغرب عنها الشمس، كان محقاً نسبياً في ما يتعلق بعرب الخليج. في ذاكرة تشرشل، ومن سبقوه في رسم «خرائطنا»، لعبة شعبية بريطانية يتقاتل فيها «الأسقف» و«الشيخ/ رجل الدين» محمد علي، مؤسس مصر المدنية الحديثة، الذي لم يكن شيخاً بالطبع، لكنّه اللعب بالدين.في كتابه «الإفريقية الآسيوية»، الصادر في 1956، يُثمن المفكر الجزائري الإسلامي مالك بن نبي «تفادي ثورة يوليو المصرية ما أراد الغرب أن يسجن فيه العالم الإسلامي، باستدراجه للتركيز على قضايا جانبية وإدارة الظهر للقضايا الأساسية وللتوجهات الكبرى، ليعطّل أو حتى يوقف تطور المسلمين». ويتهم بن نبي جماعة الإخوان بالغرق في «الاستدراج» لنظلّ بين فكّي الاستعمار والقابلية للاستعمار. كانت دولة عبدالناصر نموذجاً متطوراً نسبياً لتجربة محمد علي.
بقي نموذج محمد علي «عفريتاً» يخشى الغرب تكراره، عبر بناء دولة مدنية قادرة على حماية ثروات شعوبها، فكان «الاستدراج» هو الوجه الثاني لـ«تديين» صراعه مع الشرق العربي. وهو، وإن حافظ على «صليبية» خطابه المحلي في صراعه مع العرب، حتى في لعب الأطفال، طوّر توظيفه للدين عربياً ليحوّله إلى «سوس داخلي» ينخر أية فرص لتقدم العرب/ المسلمين. من اجل ذلك، استحضر عدواً تاريخياً لمدنية محمد علي، أي تحالف آل سعود والوهابيين، الذين قضى والي مصر على دولتهم الثانية، وأذلّهم ابنه إبراهيم باشا بإجبارهم على سماع الموسيقى!
كانت الوهابية هي «السوس» التي رأى «خالق الخرائط» أنّها ستستدرج الشرق العربي إلى نمط فكري ديني، يُلهي شعوبه عن أي تقدم.
قبل الربيع العربي، ومنذ عقود، يعايرنا الغرب بـ«واحة الديموقراطية الوحيدة» في المنطقة، إسرائيل. وقبل سنوات، دشن حملة ابتزاز لنظم حكمنا، شعارها الدمقرطة، بالتزامن مع حربه ضد «الإرهاب الإسلامي». قد يرد بعضنا على الغرب بأنّ إرهاب «القاعدة» صُنع في مطابخ استخباراته تحت شعار الجهاد ضد الشيوعية. وقتها كان المسؤولان عن الملف إقليمياً هما نائب رئيس مصر حسني مبارك، وولي العهد المملكة العربية السعودية عبدالله آل سعود. لكن الرعاية الغربية لـ«سوس» الإسلام أقدم تاريخياً من القاعدة.
من «أشيك» شعارات الدمقرطة الغربية هي «تمكين المرأة». ونحن العرب لدينا إمرأة عربية هي فاطمة الزامل السبهان القويعي، التي كانت «مُمَكنة» فعلاً قبل مائة عام، في قلب البادية، وقبل أن تمنح دول أوروبية عديدة حق التصويت لنسائها. حكمت فاطمة إمارة حائل في 1911، كوصية على حفيدها سعود الرشيد، الذي كان طفلاً حين قتل الأمير سعود الحمود الرشيد، تاسع حكام الإمارة في 1908. كان الطفل منفياً لدى أخواله، لكن «نظام» توارث العرش حماه، ليُستدعى ويتولى الحكم تحت وصاية خاله، ثم جده. وبعد وفاتهما بالتوالي، اختار شيوخ الإمارة جدته فاطمة وصية وحاكمة. كانت مثقفة وذات وعي سياسي متطور، ملأت الخزانة ودعمت الأمن الداخلي والعلاقات الخارجية، وتميزت كـ«قائدة للجيش النظامي ومُطورة لخطط تسليحه». أثناء وصايتها الرسمية، لم تخض أي حرب، فآل سعود، العدو الأول لحائل، وقعوا اتفاقية ترسيم الحدود مع الإمارة في 1907، لكن سياسة فاطمة مهدت لأكبر انتصار لحائل على آل سعود، في صراعهما الذي يعود للقرن الثامن عشر. هكذا، بعد سنة واحدة من تسليمها الحكم نظرياً لحفيدها وعمره 15 عاماً، كانت تُلحق بالسعوديين هزيمة افتقدوها منذ 1902، عُرفت بـ«معركة جراب»، لتسترد إمارة الجوف وتوابعها. قالت المندوبة السامية البريطانية غرترود بيل بأنّه «لا أحد يكره الوهابيين والسعوديين كما فاطمة السبهان». حين قُتل الحفيد، بعد وفاة الجدة، ترك ضمن زوجاته الأميرة الفهدة، ليتزوجها في ما بعد عبد العزيز، مؤسس دولة آل سعود الثالثة، وتنجب له عبدالله، الملك الحالي، والأميرتين صيته ونوف. واغتيل أشهر أحفاد سعود الرشيد، عبد العزيز، في الجزائر في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003.
كانت لإمارة حائل عاصمة ولغة وديانة رسمية، ودستور عُرفي يصف نظام حكمها بالملكي وينظم توارثه. بعد إرهاصات امتدت لأكثر من قرن، تأسست رسمياً في 1834، على يد عبدالله وأخيه عبيد العلي الرشيد. وفي عصرها الذهبي 1873 ــ 1897، لم يخف حاكمها محمد العبدالله الرشيد إعجابه بتجربة محمد علي.
لا نتحدث عن كيان عابر، بل عن دولة توسعت لتضم بين 1850 و1902، المناطق ما بين جنوب دمشق وشمال نجران قرب اليمن، وما بين حدود الحجاز حتى نجد. انتهت إمارة حائل في 1920 على مذبح «الإخوان»، الاسم الرسمي لعصابات آل سعود المُقاتلة، التي تزخر الوثائق البريطانية بقصص وحشيتها ضد مُخالفي مشروعها الديني، الوهابية، الذي تتزاحم في خطابه، ظاهرياً، شعارات عداء الغرب وديانته. كانت لندن مموّل «إخوان» آل سعود ومصدر تسليحهم. في 1927، حلّ بن سعود عصابات الإخوان وذبح قادتها، وبعد أشهر عدّة كانت جماعة أخرى «مُشوهة» للإسلام تولد بالاسم نفسه، وبشعار مُقارب، في الإسماعيلية المصرية. كان مؤسس تلك الجماعة الجديدة، حسن البنا، ضيفاً سنوياً على آل سعود.
في كتابه «حسن البنا الذي لا يعرفه أحد» الصادر بالقاهرة في حزيران/ يونيو الماضي، يورد الباحث المصري حلمي النمنم شهادة للمفكر محمد حسين هيكل (1888 ــ 1956) الذي تصادف سفره إلى السعودية مع حسن البنا على الباخرة نفسها «عن حفاوة الاستقبال الذي حظي به البنا». كما يورد شهادة لسفير أميركا بجدة، حينئذ، هيرمسان آيلتس، عن اجتماعه بالبنا مرات عدّة. هكذا، عاد لنا البنا بـ«ستايل» مختلف للإخوان، ليتلقى أول دعم مالي غربي علني من شركة قناة السويس. وسيثبت لنا الباحث البريطاني مارك كيرتس في كتابه «العلاقات السرية: تواطؤ بريطانيا مع الإسلام المتشدد» (حزيران/ يونيو 2010) كيف موّلت لندن إخوان البنا، «ربما» حتى الآن. هكذا كان مناهضو الاستعمار ينشغلون بقضايا التحرر الوطني والاجتماعي، فيفجر البنا قضايا تطبيق الحدود ومنع عمل المرأة وحجابها. وهكذا، كما يستند كيرتس لوثائق الإمبراطورية، ظل الإخوان، بالتوازي مع آل سعود، شوكة في ظهر الدولة المصرية الثانية، دولة عبدالناصر. حتى أثناء العدوان الثلاثي على وطنهم. كانوا وجهاً آخر لـ«الاستدراج»، يلائم بيئة حضرية كمصر.
خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، تنافست ثلاثة مشاريع على حكم جزيرة العرب العائمة على النفط: آل رشيد/ حائل، آل سعود/ نجد، الهاشميون/ الحجاز. العائلات كلّها تدور في فلك الغرب، ومن عاصمته المركزية حينئذ، لندن، تأتي عطايا وأسلحة شيوخها. كلّها ترد شرعيتها لشعارات دينية، الفارق الوحيد بينها في «مفهوم» الإسلام الذي تريد السيطرة به.
اختفت دولة آل الرشيد، وتم تعويض الهاشميين بـ«اختلاق» إمارة شرق الأردن كـ«كيان وظيفي»، وشارك إخوان البنا في حماية سنواتها الأولى عبر عبدالحكيم عابدين، زوج شقيقة البنا وسكرتير عام الجماعة، وستصبح الجماعة شريكة في الحكم حتى «تحوّر» دور ابنتها حماس، مع إعلان الشاعر محمود درويش «مدنية» الميثاق الوطني الفلسطيني.
انحاز الغرب لبقاء وتوسع المشروع السعودي الوهابي، الأكثر عداوة لثقافته، لكنّه «عملياً» يستدرج المسلمين نحو مزيد من التخلف. انحاز، خالق الخرائط، لدولة يُلهينا خطابها الديني بعداء «الغرب الصليبي»، بينما سياستها تصب في خزانة «الغرب الناهب». خطاب، بتنوعاته، لا يتوقف عن محاولة «كعبلتنا»، فعصام العريان، القيادي الإخواني البارز، الذي صُدّر كوجه مدني يُلقن قبيلة الإخوان، في المنوفية بدلتا مصر، بعد «ثورة يناير» قال إنّ «تدمير مصر بدأ مع محمد علي».
انحاز الغرب لدولة هي، من قبل ومن بعد، والآن، مُصدرة وراعية «التوظيفات» المُشوهة للدين، المُحاربة لحلم الدولة المدنية، خاصة في مصر، بوتقة أي حلم نهضوي عربي، وها هي تشوه حلم «التحرير» بأعلامها، وبـ«جمعة هوية» محاولة جذبه إلى «قندهار».
* مدير عام تحرير يومية «الحرية»
المصرية (قيد الصدور)