قبل أشهر قليلة من اعتقال رجال الأمن لمجموعة من الأطفال في درعا وتعذيبهم، كانت وزارة التربية قد حدّثت المناهج الدراسية، وجنّدت كوادر تدرّب وتؤهّل المدرِّسين، متوعّدة بمعاقبة كلّ من تسوِّل له نفسه ألا يكون حداثوياً بعد اليوم. والمطّلع على المناهج السورية المحدّثة، يشعر كأنّه بات يحيا في مدينة فاضلة، ديموقراطية، تحترم الإنسان وتحرِّض العقل على الإبداع والتفكّر. غير أنّ الواقع والوقائع التي يلفّها البعث، وقد استحال منذ زمن بعيد إلى استخبارات تفصفص كل شاردة وواردة، تدفع بالمطّلع نفسه إلى عدم أخذ أي تحديث على محمل الجد، ولا سيما أنّ مدير المدرسة الذي كان قد تلقّى تدريباً على الحداثة نفسها، عمد إلى الوشاية بتلامذته الذين خطّوا على جدران المدرسة عبارات تحمل معاني التحرر من نظام مستبد، ثم سلّمهم إلى فرع الأمن السياسي، لكونهم «يهدّدون أمن الدولة... ويعملون على إضعاف الشعور القومي».ذلك أنموذج ساطع على تطرّفيْن تبرع فيهما السلطة في سوريا، واحد في التنظير وآخر في العمل. إنّهما الخطّان المتوازيان اللذان طالما تأسّست بهما معاً، واستمرّت عبرهما معاً. والغريب العجيب أنّهما متوازيان يلتقيان... يلتقيان عند سلطة متطرّفة. فالمحلل لـ«شخصية» السلطة السورية، يستنتج عبر تجربة أكثر من أربعين عاماً أنّها سلطة تجيد التنظير في حدِّه الأقصى، بالتوازي مع العمل في حدِّه الأقصى أيضاً. يتشكّل التنظير من كلّ ما تقدر المخيِّلة على التقاطه من قيم وطنية وأخلاقية، ومفاهيم ديموقراطية وحداثوية وعَلمانية، وشعارات عروبيّة وحدوية واشتراكية، وأفكار موغلة في الصمود والتصدي، والممانعة والمقاومة. كل ذلك أجادته السلطة. ويوازي هذا المستوى مستوى آخر عملي نقيض، يلتقي معه عند سلطة تعمل على هذا وذاك، بالآلية نفسها والدرجة نفسها. وعبر هذين الخطّين المتوازيين نفسيهما تعاطت مع رياح التغيير حين هبّت على العالم العربي، مع بداية العام الجاري، ووصلت إلى سوريا.
فلمّا كانت رياح التغيير تلك ثورات سلميّة أطاحت رأس نظامين مستبدّين في تونس ومصر، فزعت السلطة في سوريا وهجمت على المطالبين بالحرية، وخصوصاً أنّ حراك السوريين كان من المستحيلات في ذهن السلطة التي اعتقدت أنّها بـ«ممانعتها ومقاومتها» من جهة، وبـ«قبضتها الأمنية الحديديّة» من جهة أخرى، تجعل مجرّد التفكير في الانتفاض مستحيلاً! لكنّ السوريين انتفضوا وزلزلت الأرض السوريّة ثورة سلميَّة أشعلتها إرادة شعبيّة جبّارة بشجاعتها، توّاقة إلى دولة مدنية ديموقراطية تعددية، تحترم الإنسان وحقوقه.
ولئن كانت «شخصية» السلطة في سوريا ممعنة في التطرّف، قرّرت ما يأتي: بما أنّه من غير المسموح، ومن المعيب أخلاقياً، وإنسانياً، ومحلياً، وإقليمياً، ودولياً، وقانونياً، وعُرفياً أن يُرفع السلاح بوجه الأعزل المطالِب بمطالب مشروعة، لا بد من اختلاق «جماعة دينية متطرّفة تكفيريّة»، تريد إقامة إمارات سلفيّة في دولة «عَلمانيّة». ولمّا كانت السلطة المتخبِّطة في كيفية التعامل مع احتجاجات سلميّة قد شعرت أنّ رواية واحدة لتشويه الاحتجاجات لا تكفي، قرّرت أن تختلق «عصابة مسلّحة إرهابيّة» تروِّع المواطنين الآمنين، فيستغيث الأهالي طالبين الجيش، الذي يدخل المدن السورية ليخلّصهم من بطش العصابات. أما الرواية القديمة/ الحديثة فتتحدّث عن سوريا المُستهدَفة، التي تُحاكُ ضدها مؤامرات خارجية تريد النّيل من موقفها «الممانِع المقاوِم»، وراحت تسهب في الحديث عن شتّى المؤامرات، فتارة هي حريريّة، وتارة بَندريّة، وأخرى موساديّة.
قررت السلطة السورية التعاطي مع تلك «المؤامرة»، وبالتحديد مع «العصابات المسلّحة»، من خلال «حلّ أمني»، وهو الأمثل لتأديب سوريين، صاروا بعد عقود من حكم أجهزة أمنية تستشعر الطير الطائر في السماء، وتعرف ما الذي يفعله الجنين في بطن أمه، صاروا بين ليلة وضحاها «عصابات مسلّحة» و«مندسِّين» و«مخرِّبين» و«متآمرين» على الوطن وأمنه واستقراره. هكذا اقتُحمَت المدن بالدبابات والمدرَّعات، أي زُجّ حماة الديار ــــ الجيش العربي السوري ــــ في معركة ضد أبناء جلدته، بعد ثنيه لعقود عن القيام بمهمته الأساسية على جبهة الجولان المحتل؛ فأصبح العدو هو السوري المدني الأعزل. وقد أُرفِقَ قمع الجيش بقمع أجهزة الأمن وميليشيات حكوميّة (شبيحة). جنَّدت السلطة فرق موت متعدّدة تتقن القتل والاعتقال والاغتصاب والتجويع والترويع والتهجير والتمثيل بالجثث... يأتي «الحل الأمني» ذاك ضمن سياق المستوى العملي المحض، وهو أحد الخطّين المتوازيين للسلطة.
يوازي المستوى العملي إياه مستوى نظري هو «الحل السياسي»، ويشتمل على حوار وطني لحل «الأزمة». وقد مُنحت قيادة هذا الحوار لمن يأخذ الدور السياسي في السلطة نفسها، فوُزِّعت الأدوار بين من يتولى قيادة الحلول الأمنية العسكرية القمعيّة، ومن يتولى قيادة الحلول السياسية الحواريّة الإصلاحيّة. وبذلك تكون الحرب على ثورة الحرية والكرامة حرباً على كافة الجبهات. يتضمن الحل السياسي «إصلاحات» اقتصادية وسياسية، عبر إصدار قوانين ومراسيم تبيّن للرأي العام، ولكبريات الدول، أنّ السلطة في سوريا «جادّة» في الإصلاح، وماضية في التغيير نحو الديموقراطية، وأنّها دولة تحترم الإنسان وحقوقه، وأنّها مع الحداثة والإصلاح. كلّ ذلك يسنده إعلام يسهب في التضليل والتعمية، ولا يتوانى عن تخوين كلّ من يخرج على «سنّة» البعث المتعارَف عليها، فهو الإعلام الذي صُمِّم كي يكون معبّراً عن السلطة، موالياً لها جملة وتفصيلاً.
وهكذا، بين الحل الأمني والحل السياسي، قُسِّم السوريون المحتجّون بين «عصابة مسلّحة» ينبغي التعاطي معها عبر العسكر والأمن و«الشبيحة»، وأصحاب مطالب مُحِقّة وهي من تسير الإصلاحات «الحقيقية» مواكبة لمطالبها.
وبالعودة إلى الخطّين المتوازيين، قد ينبغي التأنّي عند الحكم على السلطة السوريّة بأنّ كل ما تتفوّه به صوريّ وشكلانيّ لا يُطبّق على الأرض؛ فإنّ كان «الحلّ السياسي» ذاته كاذباً بلا أدنى شك بشأن الإصلاح والتغيير، فإنّ «الحلّ الأمني» صادق بلا أدنى شك، في قمعه لمتظاهرين سلميين. وإن كانت السلطة لا تقرن القول بالفعل بشأن الإصلاح الذي يؤدي إلى التغيير الديموقراطي، فهي تقرن قولها بفعلها فيما يخص الحلّ الأمني، فأين الصوريّة أو التنظير ها هنا؟

* كاتبة سورية