ظاهرة جديدة كَثُر الحديث عنها في وسائل الإعلام العراقية خلال رمضان الجاري، تتمثل في عزوف جماهير واسعة من الناس عن الصيام، وعدم القيام ببعض الطقوس والممارسات الدينية الموروثة. ولم تتوقف الظاهرة عند هذه الحدود، بل تعدتها إلى ما يمكن اعتباره تمرداً ورفضاً لإطاعة زعماء دينيين سياسيين. قبل أيام، نشرت إحدى الصحف البغدادية تحقيقاً لافتاً، أوردت فيه تصريحات لرجال دين سجلوا فيها أنّ الناس أصبحوا «أقل التزاماً بأداء المناسك الدينية في رمضان الحالي (العالم 7/8/2011)». وقد نسبت الصحيفة إلى الشيخ مهند الغراوي، مسؤول التيار الصدري في الرصافة، قوله «لمستُ أنّ موسم الصيام هذا العام وشهر رمضان المبارك، مختلفان عن باقي المواسم، ولا أعرف ما السبب...». يعبر الشيخ عن حيرته إزاء تلك الظاهرة، متسائلاً إن كانت أسبابها تكمن في «الناس، أم بسبب المناخ وارتفاع درجات الحرارة، أم بسبب عدم وجود الخدمات، أم بسبب الإحباط في نفوس المواطنين من خلال عدم الانسجام والانصياع لأوامر الله سبحانه وتعالى، أم بسبب الفضائيات وقلة الإيمان في صدور الناس؟». صحيح أنّ درجات الحرارة ارتفعت فعلاً إلى مستوى لم يعهده العراقيون، حتى بلغت 54 درجة مئوية، ما حدا بالحكومة إلى تعطيل العمل في الدوائر والمؤسسات الحكومية في جنوب البلاد ووسطها، لكن من الطريف أنّ معظم الموظفين رفضوا البقاء في منازلهم، وحضروا إلى أماكن عملهم لأنّها ـــــ كما علّل بعضهم ـــــ تتمتع بتكييف، وأفضل من تلك «الجهنمات» التي تسمى بيوتاً!
ربما يُفسِّر ارتفاعُ درجات الحرارة ظاهرةَ عدم صوم بعض الناس خلال رمضان، لكنّه قد لا يفسر لنا ظاهرة قريبة أخرى، لاحظها أحد رجال الدين، ومفادها أنّ «مجالس العزاء الدينية للإمام الحسين فاترة جداً، وهناك عزوف عن زيارة حضرة أمير المؤمنين ـــــ علي بن أبي طالب ـــــ صباحاً، في الوقت الذي كانت تغص فيه بالمؤمنين في سنين خلت، أما اليوم، فهي فارغة...». لهذا ينبغي البحث عن الأسباب في مكان آخر. محللون وكتاب وخبراء عللوا هذه الظاهرة بوجود شعور عام بالإحباط. فالعراق، كما قال أحدهم «يعيش مشهد القرون الوسطى، بسبب النقص الحاد في الخدمات والظلم الواقع على الشعب، نتيجة لتعسف السلطة وفشلها الذريع على جميع الأصعدة». يمكن أن نضيف إلى ذلك، شبكة متنوعة من المشاكل والصعوبات التي تحاصر المواطن العراقي وتنغص يومياته. غير أنّ هذه الصعوبات ومسببات الإحباط ليست جديدة، ولا هي طارئة، فلماذا لم تتفاقم تلك الظواهر المتعلقة بالشأن الديني إلا الآن؟ وهل يتعلق الأمر بأزمة دينية عارضة وذات مساس بطبيعة ما يدعى أحياناً الإيمان الشعبي، أم هي أزمة سياسية اجتماعية عميقة تتعلق بطبيعة نظام الحكم القائم على المحاصصة الطائفية الدينية القومية؟
نسجل أولاً، أنّ هذه الظاهرة ليست جديدة تماماً، بل يتجدد الحديث عنها ويستعاد مع قدوم رمضان، ومنذ هيمنت الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية المتحالفة مع أحزاب أخرى كردية قومية على الحكم والحياة العامة. نسجل ثانياً، أنّ عدداً محدوداً من رجال الدين الشيعة تمايزوا وابتعدوا عن التوجهات الطائفية التحريمية، وجاهروا باستقلاليتهم وحتى بدعواتهم الصريحة إلى علمانية الدولة، كالشيخين أحمد القبانجي وإياد جمال الدين، لكنّ هذه الأصوات ظلت أشبه بأصداء موحشة في البرية، فيما بقيت أصوات السلفيين والمحافظين الطائفيين هي الأقوى لأسباب مختلفة منها: هيمنة أحزاب إسلامية ورجال دين نافذين على مصادر تمويل مهمة ومنظومة واسعة وفعالة من وسائل الإعلام، واستعمالها لترويج أفكارهم ومشاريعهم؛ هشاشة وضعف الأحزاب والقوى السياسية العلمانية والتقدمية، بعدما تحوّل معظمها وأقدمها إلى مؤسسات تابعة لهذه القوة السياسية الكبيرة، أو تلك، وتورط بعضها في مشاريع ومؤسسات الاحتلال السياسية؛ الاستقطاب الطائفي المتفاقم في الميادين الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وما يفرزه من ظواهر التجْييش والاستنفار والاضطرار إلى الاحتماء بكيانات وتشكيلات مسلحة وغير مسلحة، في ظل ضعف وتشرذم مؤسسات الدولة، أو ما بقي منها بعد الاحتلال.
ومع ذلك، فقد مرّت سيرورة تكرس الهيمنة الطائفية بمراحل مختلفة، بلغت ذروتها في هيمنة الميليشيات والمحاكم الدينية الشيعية أو السنية في أرجاء واسعة من البلاد، وهددت بالاستيلاء المسلح على ثالثة محافظات العراق وعاصمة الجنوب البصرة، وكادت تنجح في إنشاء دولة دينية مسلحة في المناطق الغربية، لكنّها دخلت في مرحلة جزر وضمور، قد لا تكون الضربات العسكرية كـ«صولة الفرسان» وغيرها سببها الرئيسي، بمقدار ما كان النفور العام والاستياء الشعبي الذي تركته ممارسات تلك الميليشيات والأحزاب الدينية الطائفية.
إنّ ظاهرة التديّن الشعبي في العراق لا تختلف كثيراً في سماتها العامة عنها في أي بلد آخر، لكنّها أيضاً تحوز خصوصياتها النابعة من النسيج المجتمعي العراقي التعددي دينياً وطائفياً وقومياً. لقد تميّز التدين الشعبي العراقي بطابع التسامح والوسطية من جهة، وبقوة وجرأة التيارات والمذاهب العقلانية والنقدية التحررية من جهة أخرى، لدرجة يمكن الحديث معها عن جود نوع خاص من العلمانية المعيشة وسمت الحياة اليومية للعراقيين. غير أنّ التغيّرات العديدة، بدءاً بما سمي «الحملة الإيمانية» التي أطلقها الرئيس السابق صدام حسين، مروراً بالغزو الأجنبي وإنشاء الحكم المحلي الذي أدّت فيه الأحزاب والميليشيات الإسلامية «الشيعية والسنية والكردية» دوراً رئيسياً، جعلت التراث العراقي الزاهر مجرد ذكريات جميلة يتحسر عليها الجيل الحالي.
لكل ما تقدم، لا يمكن من يرصد هذه الظاهرة أنْ يوافق رجال الدين على تفسيراتهم لها، أو على تصويرهم لها كأنّها أزمة تتعلق بالتديّن ودرجاته أو «بقلة الإيمان في قلوب الناس»، فالظاهرة الإيمانية الدينية ليست بهذه البساطة والسطحية، بل هي أكثر تعقيداً وعمقاً مما يبدو للوهلة الأولى. غير أنّ قراءة الواقع السياسي والاجتماعي تشي بأنّ ظاهرة العزوف عن الصيام ومختلف الظواهر الشبيهة لا تخرج عن إطار تعبيرات احتجاجية شعبية على الهيمنة السياسية للأحزاب الدينية، وعلى الدور الكبير الذي انتزعته المرجعيات الدينية والقوى السياسية الدينية، سواء تعلق الأمر بالعمل السياسي، أو بمظاهر الحياة اليومية.
قضية أخرى أثيرت وتتعلق بالرفض الذي جابه به العشرات من عناصر التيار الصدري الذين اختارتهم شبكة «المبلغِين» للقيام بنشاطات دينية وسياسية في المحافظات من جانب زعيمهم مقتدى الصدر، إذ رفض عشرون من مجموع خمسين إطاعة توجيهاته، مما حدا به إلى إلغاء «مشروع المبلغين» برمته. قد لا تخرج هذه الحادثة عن إطار ما يشهده هذا التيار من انشقاقات وتكتلات تزخر بها الأحزاب الأخرى، لكنّها تؤشر أيضاً إلى تطورات جديدة نوعية في شكل العلاقات الداخلية في الحركات السياسية الدينية. مؤشر آخر نختم به قراءتنا هذه، ويتعلق بقلة اكتراث الجمهور لقضية المسلسل الديني «الحسن والحسين» الذي أنتجته شركة «المها» الكويتية، رغم كل ما أثير حوله من طرف المرجعيات الدينية والكيانات السياسية المختلفة، ورغم وصول الموضوع إلى البرلمان، الذي صوّت بالأغلبية على منعه. وبالمناسبة، فالاسم الرسمي والكامل لهذا المسلسل هو « معاوية والحسن والحسين»، لكن الجميع يتجاهلون هذا الاسم ربما لأنّه يستبطن شيئاً من الاستفزاز مع قَرن اسم معاوية باسمي الإمامين. أما اللافت، فهو أنّ بعض المراجع، منهم خطيب الجمعة المعتمَد من جانب المرجع السيستاني، أجازوا لأنفسهم مشاهدة المسلسل، وخرجوا بما اعتقدوه من استنتاجات حوله، لكنّهم منعوا الآخرين من مشاهدته وطالبوا بمعاقبة القنوات التي بثته. إنّ ظاهرة العزوف عن القيام بالطقوس الدينية، وعدم اكتراث الجمهور بحدث ديني معين، توضح المدى الواعد الذي بلغه الرفض الشعبي لهيمنة الإسلاميين الشيعة وحلفائهم المتحالفين مع الاحتلال.
* كاتب عراقي