يعاني لبنان أزمات مستعصية ومُتعدِّدة الشكل والبعد، وحزب الله، الذي يمثّل اليوم المقاومة الأساسيّة ضد إسرائيل في لبنان والمنطقة العربيّة برمّتها، يعاني هو الآخر أزمات. لا يواجه العدوّ الإسرائيلي فقط، بل يواجه حلفاً إقليميّاً طائفيّاً تديره الحكومة السعوديّة بالاشتراك مع إسرائيل، ويمثّله في لبنان الفريق الحريري ومن لفّ لفّه من صفّ المُرتشين. لكن حزب الله في حيرة من أمره: هو من ناحية يقود مشروع مقاومة في لبنان وفي المنطقة، ومن ناحية أخرى ينخرط في إطار النظام السياسي اللبناني المُتسربل برداء الديموقراطيّة التي تضع ضوابط حتى للتعبير الحرّ ضد الصهيونيّة (كذلك فإنّ «التجارة الحرّة» التي عمل رفيق الحريري، لفرضها على لبنان، تمنع مقاطعة إسرائيل). والحزب، بقبوله أصول المنازلة السياسيّة في الانتخابات وفي السجال السياسي، يقبل أن يحتكم إلى نتائج الاقتراع (غير الحرّ في بلد مثل لبنان، بسبب وفرة الدعم المالي الخارجي من جهة، وبسبب تشويه العمليّة الانتخابيّة من قبل الحقن الطائفي والمذهبي). يصبح عندها مشروع المقاومة ـــــ أي مشروع دحر الاحتلال وحماية لبنان بغياب أي دور جدّي لأجهزة الدولة العسكريّة في مواجهة العدوّ الإسرائيلي ـــــ خاضعاً للتجاذبات والتأثيرات السياسيّة الظرفيّة وللتدخلات الخارجيّة الصهيونيّة. هي المعضلة التي لا حلّ قريباً لها: كيف تعمل مقاومة ضد إسرائيل فيما تخضع لشروط اللعبة الديموقراطيّة ونتائجها؟ هذه المعضلة فريدة، لأنّه لم يسبق أن واجهتها مقاومة من قبل، أما كلام 14 آذار عن أنّ الدولة تقاوم، فهي أقل من جعجعة.ليست أزمة عريقة، فتجارب مقاومة الاحتلال عبر التاريخ ليست فيها تجربة واحدة من المزاوجة بين المقاومة والديموقراطيّة. إنّ إسقاط الديموقراطيّة على تاريخ المقاومة عمليّة أشبه باختراق الإمبرياليّة للمجتمع المدني تحت شعارات زاهية. المقاومة عمل عسكري في الدرجة الأولى والتنظيمات العسكريّة، في الدول الديموقراطيّة والاستبداديّة، لا تخضع لإجراءات الاقتراع والتصويت والاعتراض، قبل التنفيذ وبعده. لكن حزب الله غرق، إن جاز القول، في مستنقع القشرة الديموقراطيّة اللبنانيّة، ما أفقده الكثير من الفعالية، وخصوصاً السياسيّة والاستخباريّة. نجح فريق 14 آذار، أي ذراع المشروع الإسرائيلي في لبنان، في وضع المقاومة في موضع الدفاع عن النفس باستمرار. تصوّروا وتصوّرن أنّ وليد جنبلاط، الذي كان قلباً وعقلاً مُتعاطفاً مع العدوّ الإسرائيلي في حرب تمّوز بعدما تيقنّا من ذلك في وثائق ويكيليكس التي لم ينف صحّتها جنبلاط، كان يحرج نصر الله في صميم المعركة العسكريّة، ويستدرجه إلى سجالات سياسيّة عقيمة كان يكسب من ورائها تربيتاً للكتف من الراعي الأميركي، على الأرجح. كان يسأله، مثلاً، عمّن يريد أن يهدي نصر المقاومة، وكأنّ نصر المقاومة عبء أو هو فاحشة يقتضي التخلّص منها، وكان نصر الله يسارع إلى الإجابة عن أسئلة جنبلاط، مع أنّ هدف جنبلاط كان واضحاً من حيث حرصه على دفع المقاومة للخسارة السياسيّة مقابل نجاحها العسكري الباهر. اللعبة كانت، ولا تزال، واضحة،
ودعاة آل سعود في لبنان ابتكروا طريقاً آخر في مشروعهم لخدمة إسرائيل من خلال تعكير صورة المقاومة ودورها. يستعين الخطاب السياسي لـ14 آذار بعدد من الأساليب الدعائيّة، واحدة منها تقول إنّ الدولة هي التي تقوم بواجب المقاومة، وإنّ الجيش هو وحده المخوّل القيام بتلك المهمّة الوطنيّة. لكن الدول التي تدافع عن أرضها يكون لديها جيش وطني ذو تراث عريق في الاستبسال دفاعاً عن الأرض في وجه العدوان، وقد كان الجيش اللبناني على درجة لا بأس بها من التسليح قبل 1982، وكان له طائرات مُقاتلة ـــــ غير الطائرات الخياليّة التي حصل عليها إلياس المرّ من الصين وروسيا وأميركا وفرنسا وتشاد. لكنّ الجيش، بما لديه من الأسلحة، تنصّل من المهمّة مرّة تلو المرّة، لا بل إنّ قطاعات من الجيش لم تجد في الاستبسال إلّا ميدان المخيّمات الفلسطينيّة وميادين التقاتل الداخلي. لم يُطلق الجيش اللبناني رصاصة رمزيّة واحدة على إسرائيل في 1982. عقيدة الجيش تغيّرت، صحيح، لكن عدوان 2006 لم يُقابل بأي رد رسمي أو فعّال من الجيش، والذين قُتلوا من جنوده مات معظهم في أسرّتهم، أما دعم المقاومة السرّي فهو محمود.
الدولة والجيش في لبنان، في ظل عقيدة فؤاد شهاب، وفي ظلّ عقيدة الجيش الحاليّة، لم ينبريا للدفاع عن لبنان، ودولة لبنان ليست كباقي الدوّل: وإذا كان ماركس قد رأى في الدولة جهاز قمع من طبقة ضد أخرى، ففي لبنان كانت الدولة ـــــ ولا تزال ـــــ جهاز قمع طائفي وطبقي في آن واحد، ونصف لبنان ـــــ أو أقل أو أكثر قليلاً، تبعاً للمرحلة الزمنيّة ـــــ كان دوماً في صفّ العدوّ التاريخي للبنان. نحو ربع اللبنانيّين، وفقاً لاستطلاع من الجامعة الأردنيّة أُجري قبل مقتل الحريري، يرى في أي عمل عسكري ضد جنود العدوّ الإسرائيلي عملاً إرهابيّاً، وهذا القطاع في الشعب اللبناني كان، ولا يزال، مُتبنيّاً لعقيدة إسرائيل، وبصراحة متناهية في زمن الحريريّة، أي أنّ خيار الدولة معدوم في ما يتعلّق بالعقيدة الدفاعيّة للبنان. ثم، لو كان خيار الدولة والجيش كافيين لردع إسرائيل وصدّها، فهل كانت أميركا تبنّته ودافعت عنه بحرارة؟ نسيب لحّود، العائد، طلع بعبارة «في كنف الدولة» في إشارة إلى دور الدولة في احتضان ـــــ اقرأ لجم وتحجيم ـــــ المقاومة من أجل التذاكي في التعبير عن الهدف السامي لعديله، الملك السعودي.
أكثر من ذلك، هل كانت الدولة والجيش في لبنان إلا معاديَين للمقاومات على أنواعها في لبنان؟ طبعاً، من الإنصاف التمييز بين جيش ما قبل الطائف، وجيش ما بعد الطائف الذي غيّر عقيدة الجيش، كذلك فإنّه نسف البنية الطائفيّة المُهيمنة في تركيبته (تحدّث عن ذلك فؤاد لحّود في كتابه «مأساة جيش لبنان»). لم تكن الدولة (قبل الطائف) فقط في موقع محاربة كلّ أشكال المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة ضد إسرائيل (حتى تلك الأشكال غير المسلّحة)، بل كانت مُجاهرة في «نأيها بنفسها» عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، حتى لو تجلّى في غزوات إسرائيليّة للبنان. وعندما انطلقت المقاومة في 1982، كانت دولة أمين الجميّل تلقي القبض على المقاومين وتخضعهم لتحقيقات مضنية، كي يتسنّى لجهاز استخبارات سيمون قسّيس مدّ العدوّ الإسرائيلي بالعون (يمكن تأريخ انطلاق المقاومة المُبكّر كـ«جبهة المقاومة الشعبيّة لتحرير الجنوب من الاحتلال والفاشيّة في أيّار 1978» حين سقط الرفيق راجي وإيهاب في عمليّة تدشينيّة أجهضها جنود الاحتلال الفرنسي في الجنوب ـــــ من الغباوة النظر إلى قوّات «يونيفيل» إلا كقوّات احتلال رديفة، بالرغم من المساعي الترويجيّة لمحطة «إن،بي،إن» لجعل تلك القوّات حامية للجنوب ومناصرة للمقاومة).
أما الدولة في مرحلة ما بعد الطائف، فلم تكن مُتوّحدة الرؤية إطلاقاً. كانت تتنازعها عوامل وتيّارات مُتناقضة. حاول رفيق الحريري قمع حتى تظاهرة معارضة أوسلو: أي أنّه تبنّى منطق دولة ما قبل الطائف في ما يتعلّق بموقف لبنان من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. كان فريق في السلطة يؤيّد دعم المقاومة وتقديم العون العسكري والاستخباري لها، فيما كان رفيق الحريري يعدّ العدّة منذ تبوّئه منصب رئاسة الوزراء (وحصل عليه برشوة فاسدين في الحكومة السوريّة وبدعم سعودي قوي) لتقويض المُقاومة ونزع سلاحها. والدولة الآن لا تزال عرضة لأهواء وتيّارات متناقضة ـــــ يكفي أن نتذكّر أن وليد جنبلاط نفسه ـــــ بطل «ويكيليكس» ـــــ مُمثّل في الحكومة، وأنّ أصحاب المليارات منحازون حكماً ضد المقاومة. يجعل ذلك من وضع المقاومة في إمرة الدولة والجيش هدفاً مُضحكاً ـــــ مضحكاً إلى أن تدرك أنّه يؤدّي إلى تسليم رقبة المقاومة للعدوّ.
ارتبكت المقاومة، حال تحقيق التحرير في 2000، سلسلة من الأخطاء السياسيّة والميدانيّة. الخطأ الأوّل وقوعها في حبائل الخداع الليبرالي الذي يجعل من محاكمة العملاء وإرهابيّي العدوّ أمراً مُستنكراً يتناقض مع «الوفاق الوطني» وأصول التعايش الكاذب. في كلّ تجارب مقاومات الاحتلال حول العالم، كان العملاء يتعرّضون للاغتيال على يد فرق سريّة من المقاومة، قبل التحرير وبعده، والمقاومة الفرنسيّة كانت لا توفّر عائلات العملاء، بمَن فيهم النساء والأطفال في بعض الحالات. في لبنان، خجلت المُقاومة (والدولة، طبعاً) من إعدام العملاء أو حتى المطالبة بمحاكمات قاسية (غير صوريّة) لهم (ولهنّ)، على العكس، انجرّ حزب الله في تحالفه مع التيار الوطني الحرّ إلى معاملة عائلات العملاء الهاربين إلى إسرائيل وكأنّها قضيّة إنسانيّة تستحق أن يذرف عليها مارسيل غانم وكلود أبي ناضر الهندي أنهاراً من الدموع تصاحبها ألحان على آلة الكمان. والبطريرك صفير، كعادته، حوّل موضوع عملاء جيش لحد وإرهابيّيه إلى قضيّة طائفيّة تهتز لها أسس بنيان النظام الطائفي، مع أنّ جمهرة العملاء والإرهابيّين تضم ـــــ للأمانة ـــــ تمثيلاً وافراً ومتنوّعاً لكل الطوائف في لبنان. إنّ تمثيل الطوائف في صفوف العملاء أفضل من تمثيلها في صفوف الحكومة اللبنانيّة. لم يجرِ الاقتصاص من العملاء في لبنان، وليس الكشف عن سلسلة عملاء إسرائيل إلاّ نموذجاً لغياب الرادع الحقيقي ـــــ وقد وصل واحد من العملاء إلى ثالث أعلى منصب في الجيش.
أكثر من ذلك، تقوم نشرة «المستقبل» الناطقة باسم آل الحريري بنشر تقارير مُتعاطفة عن محاكمات عملاء إسرائيل، أي أنّ فرض جو من الخطاب الديموقراطي الزائف فرض على قيادة المقاومة السياسيّة في حزب الله ضوابط ضارّة في عمل المقاومة. حتى إنّ برنامج الحكومة اللبنانيّة الحالي يلحظ الرأفة بعائلات العملاء، مع أنّ ما حلّ بهم هو نتيجة أفعال العملاء أنفسهم: لم تقم دولة في تاريخ الحروب والمقاومات بالتعامل الرؤوف مع عملاء فرّوا مع عائلاتهم إلى صفّ العدوّ. لا تزال الولايات المتحدة في ثقافتها السياسيّة تكنّ ضغائن وأحقاداً لهؤلاء الأميركيّين الذين ساندوا بريطانيا في حرب الاستقلال الأميركيّة في القرن الثامن عشر. ويخجل حزب الله اليوم من طلب تطبيق أحكام القانون ـــــ لا أكثر ـــــ بحق العملاء. أكثر من ذلك، أدعياء الديموقراطيّة في لبنان يودّون لو أنّ بركة الديموقراطيّة تحلّ على الأصوات المُناهضة للصهيونيّة وللصلح معها. لا يردّ أحد على الخدعة الديموقراطيّة لإمرار سلام مع العدوّ، ولتسويغ التعاطف معه. من يقول (أو تقول) لهؤلاء إنّ الديموقراطيّة الأميركيّة، مثلاً، لا تسمح البتّة بالتصالح مع العدوّ، أو مع من تصنّفهم الحكومة الأميركيّة بالإرهابيّين؟ أكثر من ذلك، إنّ عقوبات قاسية تطاول من يقدّم العون أو المشورة ـــــ لا العمالة الرسميّة ـــــ لمنظمّات تصفها الولايات المتحدة بالإرهابيّة. قضى عدد من العرب سنوات في السجن والمحاكم في الثمانينيات لحضورهم حفلة للجبهة الشعبيّة (وتوزيع مجلّة إنكليزيّة مُناصرة لقضيّة فلسطين)، لكن إسرائيل وأميركا (وحلفاءهما المحلّيّين) يريدون أن يؤدّي خطاب الديموقراطيّة إلى قبول التعبير عن الآراء الصهيونيّة، بينما تقوم قيامة أميركا لو سُمح في لبنان ـــــ في لبنان، لا في أميركا فقط ـــــ بالتعبير عن آراء مُساندة لتنظيم «القاعدة» مثلاً (وقد اعترضت الولايات المتحدة بالفعل على تظاهرة مؤيّدة لأسامة بن لادن جرت في بيروت قبل أعوام).
المعضلة هي: كيف يمكن مقاومة أن تلجأ إلى الاحتكام الديموقراطي في عملها؟ الجواب: لا يمكنها بتاتاً، ولم تنشأ أي حركة مقاومة حول العالم، في الدول النامية أو الغربيّة، قبلت بالاحتكام الديموقراطي. لماذا؟ لسبب بسيط: أنّ قطاعاً شعبيّاً كبيراً ينأى بنفسه عن المقاومة في دول خاضعة للاحتلال، أو أنّه يتعاطف أو يتعامل مع الاحتلال. إنّ عدداً لا يُستهان به من قصص بطولات المقاومة الفرنسيّة نسجه مَن تسكّع في مقاهي باريس، أو من تعامل مع الاحتلال في الحقبة النازيّة، وهناك بطولات خياليّة عن أعمال مقاومة، ولم ينج من حبكها فرانسوا ميتران. تبدأ المقاومة بأعمال صغيرة تقوم بها فئة قليلة ثم تتوسّع، ولا تصبح شعبيّة ولا تحظى بتأييد معظم السكّان إلا عندما توشك على الانتصار. الجماهير تجنح أحياناً نحو المنتصر، حتى لو كان غازياً (أذكر في سنوات دراستي الجامعيّة في بيروت في خريف 1982 عندما اصطحبني أستاذي، رشيد الخالدي، إلى نادي أساتذة الجامعة الأميركيّة لوجبة طعام. أذكر أنّ إيليّا حريق (الأكاديمي الراحل)، باشر شنّ هجوم حاد وعنيف على من كان يقوم بأعمال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، وأذكر أنّه وجّه كلامه إلى رشيد، ربّما بسبب فلسطينيّته).
هل هذه دعوة كي يقوم حزب الله بالاستيلاء على السلطة في لبنان؟ الجواب هو أنّ حركات مقاومة الاحتلال حركات لا تحظى بإجماع أبداً (وتقوم بها أقليّات دوماً، رغم الترّهات الشائعة في لبنان عن أنّ «الكل قاوم في لبنان» بمَن فيهم آل الجميّل، وجبران تويني الذي لم يفوّت فرصة في ما كتب، وفي ما كُتب له أيضاً، كي ينال من المقاومة، يساريّة كانت أو إسلاميّة). إنّ المقاومات تتوّج انتصاراتها بالاستيلاء على السلطة. أما في لبنان، فلم يسع حزب الله إلى الاستيلاء على السلطة، ليس تعفّفاً منه، بل إدراكاً لاستحالة المواءمة بين تركيبته الطائفيّة ـــــ المذهبيّة، وبين التركيبة الديموغرافيّة للبلد. لو أنّ الحزب الشيوعي اللبناني أو الحزب القومي هما اللذان قادا مقاومة الاحتلال حتى اندحاره، لوجبت مطالبتهما بالاستيلاء على السلطة للتخلّص ـــــ كما في حالات اندحار الاحتلال ـــــ من آثار الاحتلال وترسّباته ومخلّفاته. كان يمكن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، مثلاً، لو لم تندثر قبل احتلال 1982، أن تستولي على السلطة، وأن تضع موضع التنفيذ برنامجها الإصلاحي الشامل (الذي يتناقض مع كلّ سيرة وليد جنبلاط ومواقفه)، لكن حزب الله، لسوء حظّه وحظ المقاومة، ليس الحركة الوطنيّة اللبنانيّة.
قد يقول قائل (أو قائلة) إنّ هذا الرأي قد يفيد الأنظمة العربيّة التي صادرت الحريّات كافّة تحت شعار مقاومة الاحتلال، لكن تلك الأنظمة (الممانِعة أو المُنضوية في منظومة الإذعان السعوديّة) صادرت الحريّات وخسرت المزيد من الأراضي، وليست مُخوّلة لترفع شعار التحرير (لا تحرير الأرض ولا تحرير الإنسان)، لكن عمليّة استمرار المقاومة لاحتلال إسرائيل ومن أجل ردعها تتطلّب مسلكاً مُختلفاً في التعامل ينتفي فيه الخطاب الديموقراطي المُخادع الذي يهدف إلى إمرار التعامل مع إسرائيل وخدمة أغراضها بشعارات برّاقة. لو رفع فرنسي شعار نزع سلاح المقاومة الفرنسيّة في ظل وجود النظام النازي واحتلاله، لاقتصّت المقاومة الفرنسيّة منه على عجل. إنّ فريق 14 آذار (وهو شق محلّي للمشروع الإسرائيلي) بات أكثر صراحة في تطابق مشروعه مع كلّ المشروع الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، وتعود هذه الصراحة في التعبير عن التطابق إلى ترسّخ الحلف الجهنّمي بين الحكم السعودي ودولة العدوّ. ما عادت إسرائيل تصرّح بمواقفها كما كانت تفعل على مرّ العقود إزاء التطوّرات الداخليّة في مختلف الدول العربيّة. إنّ حلفها المتوثّق مع أنظمة القمع الخليجي تطلّب منها الخفر الدبلوماسي.
هل يعني هذا أنّ حزب الله وقع في شرك لا فكاك منه؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلّب إحاطة بالخطط السريّة للحزب، التي لا علم لي (أو لكم ولكنّ) بها. لكن الأداء العام للحزب يظهر أنّه بات أسير لعبة ديموقراطيّة (في الظاهر)، وإن كان هدفها التقويض لثقافة مقاومة الاحتلال تحت شعار تعدّد الآراء. بمعنى آخر، أخطأ الحزب في مجرّد القبول بوضع سلاحه كبند من بنود لجان الحوار: إنّ حق لبنان، وحق أي لبناني ولبنانيّة، في مقاومة عدوان إسرائيل واحتلالها يجب ألّا يخضع لنقاش أو لمساءلة، أما الذين يعترضون من جبيل أو طرابلس على أنّ هويّة طائفة واحدة تسم المقاومة في الجنوب، فلم يظهر منهم أحد في 2006 كي يسهم في التنويع الطائفي لبنية المقاومة.
إنّ النظام اللبناني يكتسي قشرة من الديموقراطيّة بأسوأ معانيها: تهريب رأس المال وتبييض أموال وتمويل استخبارات بسريّة تامّة، التسليم بآراء مُتعاطفة مع العدوّ من باب حريّة رأي لا تتوافر في الديموقراطيّات الغربيّة لمن يتعاطفون مع أعداء تلك الدول. كذلك فإنّ الديموقراطيّة اللبنانيّة تقيّد حريّة حركة المقاومة، وتجعل منها عبئاً على الشعب، رغم تقصير الدولة في أداء واجبها في هذا الصدد. ليست المشكلة عابرة. كلّما أرادت أميركا أن تسرّب وتروّج لمشاريع إسرائيلية في منطقتنا، نادت بالحريّات والديموقراطيّة، لكن الولايات المتحدة (ومن أوكلت لهم مهمات الصغائر في منطقتنا العربيّة) لا تريد الحريّة إلا لمناصريها ومؤيّديها وأعداء أعدائها. يضجّ الإعلام الغربي بخبر فرد من مؤيّدي الحروب الأميركيّة، ولا تكترث لأخبار اعتقال الآلاف من معارضي نظام حسني مبارك أو الاحتلال الإسرائيلي. إنّ الولايات المتحدة تدعم حريّة التعبير لفؤاد السنيورة وسلام فيّاض وياسر عبد ربّه، لكنّها تحت قوانين الإرهاب تريد كمّ أفواه الملايين من معارضي إسرائيل ومقاوميها في منطقتنا العربيّة (لم تذكر الصحف العربيّة خبر رصد وزارة الخارجيّة الأميركيّة مبلغ 200.000 دولار لمؤسّسة «ميمري» الصهيونيّة كي ترصد أيّة أقوال أو أخبار من قبل عرب تجدها المنظمّة ـــــ بتعريفها السياسي ـــــ مُعادية لليهود). هل يمكن أن تحلّ المقاومة المعضلة؟ يمكن حركات المقاومة العربيّة أن تتعامل إذا أرادت مع الديموقراطيّة وكأنّها غير موجودة، حتى لو كانت موجودة سطحيّاً ـــــ في عملها المُقاوم الصرف، وليس في عملها السياسي العادي.
ملاحظة: ورد خطأ مطبعي في مقالة السبت الماضي أدى إلى إبدال كلمة «زعم» بكلمة «رغم» في العبارة الآتية: «رغم أنّني ساويت بين النظام والمعارضة (وحتى بين الأجنحة التي أختلف معها عقائديّاً)»، فيما المقصود: «زَعَمَ أنني ساويت».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)