يُنظر إلى الحوار ومؤتمره، اليوم، وكأنّه فقط نتيجة للتوتر بين الطرفين الأساسيين في البلاد. يُنظر إليه إذاً، في ضوء نسبة القوى بين تحالفي 8 و14 آذار، وفي ضوء تحوّلات ميزان القوى العام الذي يتفاعل فيه هذان التحالفان مع صراعات المنطقة وقواها التي هي بدورها ذات ارتباطات وأبعاد دولية.لا شكّ أنّ في ما يحصل من توترات بين فريقي السلطة المتنازعين على قضايا ونفوذ وحصص، يستدعي إقامة الحوار وتحديد جدول أعماله. وتلك التوترات، كما هو معروف، تشتمل على عناوين أساسية من مثل السلاح والمحكمة. ويزيد في الحاجة إلى الحوار تعاظم عجز المؤسسات الدستورية عن القيام بدورها الطبيعي في حقول التشريع والإدارة والقضاء. هذا إلى عدم ثبات ما هو قائم من علاقات وتحالفات، خصوصاً في صفوف الأكثرية الجديدة التي بسبب نشوئها، سقطت الحكومة السابقة، ووُلدت الحكومة الجديدة.
لكن، مع ذلك، فليس للحوار أن يكتفي فقط بتناول ما هو مادة توتر، حالياً، من عناوين ومسائل. فثمّة أيضاً، أمور أساسية، بل مصيرية، تتطلّب، هي مثل سواها، أن تكون بنوداً رئيسيةً في مؤتمر حواري، سوف يتخطى، بالضرورة، الصيغة الراهنة، إلى ما هو أشمل وأفعل وأكثر ملاءمة. بكلام آخر، يجب الذهاب بعيداً وعميقاً، نحو أسس الأزمات، لا الاكتفاء بنتائجها، ويجب امتلاك المسؤولية والجرأة، لكي يخترق ذلك الحوار الحواجز والأسوار التي رسمتها المصالح الخاصة والفئويات الفردية. هذه المقاربة، تعني ببساطة، الانتقال إلى البحث في أشكال الخلل المتعدّدة القائمة في صلب النظام السياسي اللبناني، لا فقط في المشكلات التي تنشأ في مجرى صراعات أطرافه وقواه ارتباطاً بتفاعلها مع الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية. قد يبدو هذا الأمر في نظر البعض تعجيزياً. دائماً، ينبري من «ينصح» بعدم «تكبير الحجر»! وقد يكون هذا البعض من «الشركاء» الجدد في النظام، أو من رموزه التقليدية القديمة. ويلحّ هؤلاء على أنّ الخلل ثانوي لا جذري وجوهري، وعلى أنّه طارئ لا بنيوي، وعلى أنّه قابل للمعالجة، في نطاق «الديموقراطية التوافقية»، كما طمأننا أخيراً رئيس «جبهة النضال الوطني» النائب وليد جنبلاط، أو في نطاق العلاقات والتسويات العربية ومنها «السين ـــــ السين»، كما كان يأمل رئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري.
لكنّ الأزمات تستمرّ وتتفاقم، وتستعصي على الحلول. ويدفع لبنان الوطن واللبنانيون كشعب، ثمن ذلك غالياً، في صيغة نزاع واحتراب وفوضى واضطراب، مع ما يرافق ذلك من كوارث وخسائر اجتماعية واقتصادية، لا تكاد توفّر إلا كبار المتموّلين والحكام، فيما تكتوي بنارها الأكثرية الساحقة من اللبنانيين: فقراً وهجرةً وتشرّداً. كذلك تصبح أعزّ وأندر فرص الحصول على التعليم والطبابة والسكن. ذلك فضلاً عن تبديد أو تهديد الإنجازات الشعبية، ومنها إنجازات ذات طابع تاريخي، كما هو الأمر بالنسبة إلى المقاومة ضدّ العدوّ الصهيوني.
هل من الواقعي فعلاً أن نستمرّ بالدوران في الحلقة المفرغة نفسها، منذ الاستقلال في 1943، إلى اليوم؟ هل يدرك القادة الذين يديرون شؤون البلاد والعباد أنّ شعور الناس، يزداد يوماً بعد يوم، وحرباً بعد حرب، وأزمة بعد أزمة، وحكومة بعد حكومة، بأنّ «البلد مش راكب»؟ هل يشعر هؤلاء براحة الضمير وهم يراقبون مئات آلاف الشباب اللبنانيين يبحثون عن سبل الحياة في غير بلدهم، حاملين معهم اليأس وموظِّفين طاقاتهم وشهاداتهم التي حصلوا عليها بشق النفس وإرهاق الأهل، في خدمة دول أخرى وشعوب أخرى، مقابل الحصول على لقمة العيش وراحة البال وبعض الكرامة.
وماذا عن تقاليد حكامنا في عدم احترام الدستور، وفي خرق القانون، وفي سوء استخدام السلطة، وفي توظيف العام في مصلحة الخاص دون حسيب أو رقيب... ونستطيع أن نذكّر بذلك العجز المتمادي عن إقامة مؤسسات فعالة للسلطة. مؤسسات لا تقوم بدورها في احتواء الأزمات وفي الحفاظ على وحدة البلاد وأرضها وسيادتها واستقرارها. ونستطيع أن نذكّر أيضاً، بما هو قائم ومتفاقم من فساد وهدر وفئويات، هذا إلى الارتهان للخارج سياسياً ومعنوياً ومادياً، فبتنا أشبه بجاليات تابعة لدول أجنبية. هذا هو بعض واقعنا المهتز والمختل، بسبب ما «اخترناه» لأنفسنا من نظام سياسي صوّرناه «معجزة» لم يَمِنَّ العزيز الكريم على سوانا بمثله. ومن هنا ينبغي أن يبدأ النقاش والحوار، ومن هذه النقطة بالضرورة، يجب أن ينطلق التشخيص والتوصيف، لكي نضع يدنا على الجرح ونحاول أن نجد العلاج والحلول. إنّ اللبنانيين يحتاجون اليوم إلى إقامة عقد جديد في ما بينهم. وهذا العقد لا يمكن بلوغه إلا بالحوار المسؤول والجدي والشجاع. فمن ركائزه أن يقوم على المساواة بين المواطنين، لا على امتيازات فئة على حساب الفئات الأخرى، وما يرتبط بذلك من تنازع وتغذية عصبيات وإقامة دويلات على حساب الوطن والدولة واستقواء بالخارج وارتهان لهذا الخارج على حساب المصلحة الوطنية العليا.
لكنّنا، إذ نطلق صرخة في وجه «أصحاب» النظام والمستفيدين منه، وبسبب ما تتخبّط فيه البلاد من الأزمات، لا توفّرهم أحياناً هم أنفسهم، لا ينبغي إطلاقاً أن نزرع الأوهام بشأن استعدادهم للتخلي عن فئويتهم وامتيازاتهم ومواقعهم وارتباطاتهم التي هي، دون سواها، ما يوجّه سياساتهم ومواقفهم وبرامجهم وتحالفاتهم الداخلية والخارجية. إنّ من مقتضيات الصراع حتماً، أن يُمارس الضغط السياسي والإعلامي على كلّ أولئك الذين يعرقلون مسيرة الإنقاذ ويقاومون جهود المعالجات والحلول. لكن، ما هو مطلوب قبل سواه، ملء ذلك الفراغ القاتل الذي يجعل الأمور تدور فقط وفق ما يقرّره أطراف النظام السياسي الطائفي اللبناني، دون سواهم من الأكثرية الساحقة المتضرّرة منه.
إنّ ما يطالب به البعض اليوم، من مشاركة في الحوار، يصبح كحضور «الكرام إلى مائدة اللئام»، بسبب ما يستشعره أطراف النظام من قوة ونفوذ سياسي وشعبي، وبسبب ما يعانيه دعاة التغيير من ضعف وغياب وعجز. فكيف إذا كان المنادون بالتغيير لا يملكون البرامج ولا الرؤية ولا الوسائل التي تمكّنهم من زيادة دورهم وتأثيرهم. أوليس «عدم واقعية» إقامة الحوار على أسس جديدة من المشاركة ومن العناوين الضرورية، ناجماً أيضاً، عن هامشية قوى التغيير وعزلتها عن الناس وافتقارها إلى القدرة على الحضور والتأثير. كيف يمكن أن نستمرّ في رفع شعار وفي عدّه ذا أولوية إنقاذية، دون أن نسعى إلى التشكّل مع كلّ أصحاب المصلحة في تحقيقه، في عمل مشترك أو في تيار أو في جبهة. إنّ الكلام يصبح غير ذي معنى، لا يثير إلا عدم الاكتراث ولا يذكّر إلا بغياب الصدقية والقدرة على الفعل. وكيف ولماذا أيضاً وأيضاً، يستمرّ ذلك التدمير المنهجي لعلاقات قوى التغيير وللمؤسسات الاجتماعية والنقابية التي تشكّل أحد مقوّمات النهوض الديموقراطي. ألا تقف وراء ذلك أشكال من العبث بالمسؤولية الوطنية، ومن الفئويات، فيما نزعم أنّ قوى السلطة وأطراف النظام وما فرضوه من آليات وما يغذونه من عصبيات، وما يقيمونه من علاقات وارتباطات وارتهانات، هما فقط من يمارس الفئوية.
وفي امتداد ذلك: ما هو المشروع الوطني في هذه المرحلة التي تشهد تحوّلات استثنائية على نطاق المنطقة بما سيترك، حسب وجهة التفاعل اللبناني معها، نتائج سلبية كبيرة أو نتائج إيجابية مؤثرة: ما هو برنامج هذا المشروع ومن هي قواه السياسية والشعبية و...
إنّه نداء، قد يكون أشبه بدقّ ناقوس الخطر: لا بدّ من إخراج لبنان من أسر وحصرية ذلك الصراع التقليدي بين أطراف المعادلة السياسية ـــــ الطائفية اللبنانية. إنّ المشهد اللبناني يفتقر منذ مدّة لم تعد قصيرة أو مقبولة، إلى لاعب وطني جديد يملك القدرة على الجذب والاستقطاب والتأثير. لقد أُجهضت محاولات سابقة بشكل، أقلّ ما يقال فيه، إنّه يدعو إلى العجب والتعجّب، وخصوصاً تجربة «التجمّع الوطني للإنقاذ والتغيير» أواسط 2004. ومنذ ذلك التاريخ لا نقع إلا على أخطاء وسوء تقدير وبهلوانيات، وكأنّ التغيير يأتي بالمناشدة أو بالتذاكي، وليس ببناء موازين قوى يحضر فيها بقوة أصحاب المصلحة في التغيير الوطني والديموقراطي، وهم الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني.
تلك هي المسألة لكي يكون للأكثرية الشعبية اللبنانية ممثلون وبرنامج ورؤية ومكان.

* كاتب وسياسي لبناني