لا أخفي أنّني استمتعت بقراءة مطوّلة ياسين الحاج صالح بقدر ما استمتع الجمهور العربي بمسلسل «في حضرة الغياب» في الأمسيات الرمضانيّة. كنت أفضّل أن أردّ على ياسين الحاج صالح في جريدة «الحياة» الناطقة باسم خالد بن سلطان. لكن تعوّدت الردّ على كتّاب أمراء آل سعود على صفحات جريدة «الأخبار»، وفي هذا فخر لـ«الأخبار» ومفارقة فخر، لأنّها واسعة الصدر، تفتح أبوابها أمام نقّاد لكتّابها ولخطّها، ومفارقة لأنّ الجريدة المحسوبة على خط المقاومة تفوق في ليبراليّتها صحفاً نفطيّة تزعم (نفاقاً طبعاً) الليبراليّة. سأردّ على الحاج صالح من دون أن أسمح له أن يجرّني إلى لغة سوقيّة في الشتم وفي استسهال إطلاق النعوت الصبيانيّة (لم أقل الشارعيّة احتراماً منّي للشوارع العربيّة التي أطلقت انتفاضات خلاّقة). وأودّ أن أوضح بداية أن الحاج صالح لا يمثّل بالضروة كل المعارضة السوريّة، وهو لا يمثّل بالتأكيد كل الشعب السوري، وأريد أن يُفهم من مساجلتي أنها موجّهة إليه هو، لا إلى الطرفيْن الآخريْن، وإن نقدي للحاج صالح، لا ينتقص أبداً من مناصرتي لانتفاضة الشعب السوري على نظام استبدادي. أقول ذلك لأن الحاج صالح يلجأ بسرعة إلى الديماغوجيّة.
وقد لفتني أنه أشار أكثر من مرّة ساخراً إلى كنيتي في مدوّنتي، وهنا ظهر أنّ ما يقوله البريطانيّون عن الأميركيّين بأنّهم لا يفقهون المفارقة وأنّهم معتادون مستوى أدنى من الفكاهة، وهو السخرية ينطبق عليه. فاتته المفارقة الموجّهة في كنيتي إلى القارئ الغربي الرازح تحت تراكمات من الصور النمطيّة عن الفرد العربي. لكن ما علينا، يستحق الوضع العربي والمجازر في سوريا وفي البحرين، وفي غيرها من الدول العربيّة، الكثير من الغضب، الذي لن أعتذر عنه. وقد كرّر أكثر من مرّة صفتي الوظيفيّة لسبب لم أفهمه: لكن ما لنا وللتحليل النفسي.
لنبدأ بمسألة الشيوعيّة. أنا أشرت إلى سجن الحاج صالح الظالم من قبل النظام القمعي وأشرت إلى أنّه كان شيوعيّاً، ولاحظت أنّه في مقالته في «نيويورك تايمز» التي لديها من العطف على الشعب السوري ما لدى آل الجميّل في لبنان من عطف على الشعبيْن السوري والفلسطيني جعل من نشاطه الماضي في سوريا نشاطاً محض «ديموقراطي». إنّه عصر الديموقراطيّة، يا جماعة. حتى وليد المعلّم هدّد العالم بأنّ «إصلاحات» سوريا ـــــ لم يكن يعني المجازر ـــــ ستعلّم العالم الديموقراطيّة. صحيح أنّ الحاج صالح سُجن بسبب نشاطه السياسي، لكن يعود ذلك إلى البرنامج (الشجاع) الذي تبنّاه الحزب الذي انتمى إليه. وصحيح أنّ النظام كان يسمح للشيوعيّة البكداشيّة بالتحرّك، لأنّها والت النظام وأطاعته. أتفق معه أنّ النظام البعثي في سوريا والعراق كان يطالب بالطاعة، بصرف النظر عن العقائد. أما أن الحاج صالح يعيد كتابة تاريخ الشيوعيّة السوريّة ليجعل من نضالها نضالاً ضد الديموقراطيّة، فهو واضح في مقالة «نيويورك تايمز» وفي ردّه. وهو يزيد بإعطائنا نبذة (انتقائيّة) لتاريخ الحزب الشيوعي السوري. لكن الحاج صالح يتشتّت هنا، ويستعين ببرهان غليون، ويُقحم الأموات، مثل ياسين الحافظ، في ردّه، لعلّ الأحياء والأموات يسعفونه في ورطته. إنّ المنازلة هي بيني وبين الحاج صالح وحده، لكن الأخير على ما يبدو أراد أن يدعّم موقفه عبر رفع صورة ياسين الحافظ. لم أنتقد الراحل الحافظ ولم أشر إليه، ولا أجادل ياسين الحافظ أبداً هنا. على العكس، إنّ كل إشاراتي له في كتاباتي كانت إيجابيّة. ومن المؤكّد أنّ كتابات الحافظ عن «الحقبة الشخبوطيّة» ما كان من الممكن أن تمرّ على رقيب الأمير خالد بن سلطان (راجع ياسين الحافظ، «الأعمال الكاملة»، ص. 809).
لنعد إلى الحاج صالح. من سوء حظه في ردّه، وفي سرده عن الحزب الشيوعي السوري ـــــ المكتب السياسي الذي انتمى إليه، أنّني أحتفظ بالكتاب المرجعي «قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري». وقد أعدت قراءة بعضه، كي أدقّق في رواية صالح، فلم أوفّق في العثور على أثر للهيام بالديموقراطيّة المُبكرة، إلا إذا كان يعني المركزيّة الديموقراطيّة (وهي الوصفة اللينينيّة السيّئة). على العكس، فإنّ الخلاف بين الحزبيْن كان على قضايا «تقييم المرحلة الراهنة التي تمرّ بها بلادنا، وحول التحالفات مع القوى الديموقراطيّة الثوريّة، وحول الموقف من حركة الوحدة العربيّة وحول جوهر القضيّة الفلسطينيّة والعدوان الإسرائيلي، وحول الموقف من حركة المقاومة الفلسطينيّة ودورها في معركة الشعب العربي ضد إسرائيل». (راجع، «قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري»، ص. 49). ويمكن صالح أن يزهو بموقف الحزب («المكتب السياسي») آنذاك في نقد البكداشيّة المتساهلة مع وجود دولة العدوّ، لكنّه أراد أن يلخّص لـ«نيويورك تايمز» تاريخ نضاله الشيوعي الماضي بـ«الديموقراطيّة». أتعاطف مع نضال الحزب آنذاك ضد النظام السوري، وإن لم أفهم إنجاز الحزب في «إنقاذ الكرامة الفكرية والسياسية لليسار في سوريا»، على حدّ تعبير الحاج صالح؛ لأنّ أحزاباً أخرى يساريّة شاركت أيضاً في معارضة جسورة للنظام. للحاج صالح أن يزعم أن هدفه النضالي كان ديموقراطيّاً، لكن من حقنا أن نتساءل عن سبب انخراط مناضل مشغول بالهم الديموقراطي (فقط) في حزب شيوعي تردّد وتباطأ في الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي (صوّرَ «المكتب السياسي» عقيدته بأنها أكثر خدمة للمنظومة السوفياتيّة من البكداشيّة في الكتاب المذكور أعلاه). صحيح أنّ الحزب استقلّ في ما بعد عن الاتحاد السوفياتي، ولكن حتى نايف حواتمة استقل عن الاتحاد السوفياتي «في ما بعد».
أما في موضوع الحملة العنصريّة الذكوريّة التي تعرّضت لها غدي فرنسيس (وأصرُّ، رغم اعتراض ياسين الحاج صالح، على إضافة الجملة الاعتراضيّة «بصرف النظر عن موضوع المقالة» لأنّ الكاتب الديموقراطي منذ يفاعه، يظهر كأنّه يسوّغ العبارات السوقيّة البذيئة التي سيقت ضدها كامرأة، لكن الليبراليّة العربيّة عنصريّة ذكوريّة، ولعل ذلك يفسّر استظلالها في مضارب أمراء الشخبوطيّة)، فليس هناك ما يسوّغ إطلاق النعوت وبثّ النميمة ضد صحافيّة لأنّها امرأة. أما عن قراءته لما جاء في صفحته على «فايسبوك»، فليس في الأمر سرّ البتّة: لأنّ «أولاد الحلال» العرب يوافون الكاتب دوماً بما يُكتب ضدّه في الصحف وفي «فايسبوك». قد يريد الحاج صالح أن ينسى ما كتب في هذا الصدد، لكن حبر «الفايسبوك» لا يُمحى. والتزامي القوي بمناصرة المساواة التامّة بين الرجل والمرأة، رغم أنف الدين والعشائر والدولة، يمنعني من الاستشهاد هنا بما كَتب وكُتب عن غدي. يبدو أنّ لياسين الحاج صالح وجهين: وجهاً للعلن يظهر فيه هادئاً ووقوراً ومهذّباً، ووجهاً آخر خاصاً (يظهر جليّاً في ردّه عليّ) يتهم من يخالفه الرأي بالبلاهة (أو بإهانة البلاهة)، ويعيّر فيه صحافيّة ويتطرّق هو ورفاقه إلى حياتها الشخصيّة. أفهم الآن لماذا يريد الحاج صالح أن يبقى ووجهه الآخر خفيّاً عن القرّاء، لكن خروجه عن طوره في ردّه عليّ قلّص المسافة بين الوجهيْن.
ساعدني ياسين الحاج صالح في ردّه من دون أن يدري (لو درى، لكان الأمر مُقلقاً أكثر له). فقد عزّز كلّ المخاوف والشكوك التي كانت تساورني عن فريق من الليبراليّين المُتحالفين مع الإخوان المسلمين في المعارضة السوريّة. إذ إنّه لجأ إلى ما سمّيته وسائل القمع والترهيب البعثيّة عينها، وهو الذي اتهمني بالكذب، وإن كنت سأردّ عليه من دون استخدام معينه من السُّباب، رغم أنّني ساويت بين النظام والمعارضة (وحتى بين الأجنحة التي أختلف معها عقائديّاً)، مع أنّني كنت واضحاً في استشهادي بالرفيق سنان أنطون، عندما رفضت المساواة بين النظام والمعارضة. وتتهمني بالكذب والتزوير، والنص لا يزال موجوداً على موقع هذه الجريدة؟ هناك كلمة بلغات أجنبيّة عن التحريف المقصود في كلام الخصم، وهي تنطبق على فعلة الحاج صالح. ثم يتهمني الحاج صالح بـ«التشبيح» وبـ«التواطؤ الإجرامي مع القتلة». هذا هو المؤشّر الخطير عند البعض ـــــ أشدّد على أنّ هذه النزعة تصف فريقاً في المعارضة، لا في كل المعارضة: إنّها نزعة فاشيّة تهدف إلى إسكات كل الأصوات التي لا تصفّق ولا تطيع ولا تنحني، حتى لو كانت مؤيّدة لانتفاضة الشعب السوري. عندما يتهمني الحاج صالح بـ«التشبيح»، يتهمني بالقتل والإرهاب، ويدعو ضمناً إلى الاقتصاص منّي، لأنّ شبّيحة النظام في سوريا يمعنون قتلاً وذبحاً. ربطني بهم الحاج صالح بشطحة من قلمه الديموقراطي الليبرالي، ثم زاد عليها تهمة «التواطؤ» مع القتلة، من منزلي في كاليفورنيا. لا، يا حاج صالح. لا يقلقني الشعب السوري، إنّ ما يقلقني كثيراً هو النزعة القمعيّة المُستقاة من تجربة البعث التي تسود عند البعض في المعارضة السوريّة. يستحق الشعب السوري التحرّر من النظام البعثي، ويستحق نظاماً جديداً لا يسوق مُنتقديه إلى المحكمة بتهم التشبيح والتواطؤ مع القتلة. لو وصل أمثال الحاج صالح إلى السلطة، لأجروا محاكمات ميدانيّة بسرعة تفوق محاكمات المهداوي.
أما كلام الكاتب عن القمع في سوريا فلا أختلف معه، وهو، إن كان قد قرأ ما كتبت، يعلم أنّ منطلقي هو معارضة مُطلقة للنظام، ويعلم أيضاً أنّ إيراد وقائع القمع لم يكن من باب إعلامي بالشيء، بل من باب التملّق الرخيص للجمهور السوري الذي لا خلاف لي معه، ومع انتفاضته البتّة. يستجدي الحاج صالح الرخيص من التصفيق، ثم يضيف ثناءً على القدرات الذهنيّة لليبراليّة العربيّة، مع أنها عاجزة عن حل عقدة التصالح بين الليبراليّة العربيّة وآل سعود (حلّها لي بصراحة الكاتب هاشم صالح في مؤتمر في جامعة لندن عندما قال لي إنّه يجب التمييز بين مُستبدّين «متنوّرين»، مثل الملك السعودي وحسني مبارك، ومُستبدّين غير مُتنوّرين). وعندما لا يجد الحاج صالح ما يضيفه يتهمني، مرّة أخرى، بالكذب. ماذا نفعل إذا كان السباب وإطلاق النعوت القبيحة من ديدنه. أما إشاراته المُتكرّرة إلى عملي في كاليفورنيا، فقد ألفته من هؤلاء الأمميّين السابقين الذين يرون أنّ إقامتي في أميركا تمنعني من التعبير عن قضايا العالم العربي التي تشغلني. إنّ إقامتي في كاليفورنيا تزعج الحاج صالح أكثر مما تزعجه إقامة عبد الحليم خدّام في باريس وإقامة رفعت الأسد في لندن.
لكنّ النزعة الأسوأ في المقالة، برزت في ما قاله عن أدونيس (وأنا، للعلم، قلّما أتفّق مع أدونيس في الرأي وكتبت في نقده أكثر من مرّة، ولم أستسغ ولا واحدة من رسائله عن الوضع في سوريا. وقد تقصّد الحاج صالح أن يشوّه موقفي من أدونيس بالقول إنني أؤيّده)، لكنّي عجبت أن يتطرّق ياسين الحاج صالح إلى الناحية الطائفيّة في نقده للرجل، وبدلاً من أن ينفي صالح التهمة أو أن يتلطّى خلف شعارات الديموقراطيّة، عاد وكرّر التهمة الطائفيّة ذاتها ضد أدونيس، ودون أي سند وقال: «هل ينتظر من كل منا أن ينحاز إلى جماعة مولده؟»، هكذا، وبصفاقة يحسده عليها عُتاة المبتذلين من المستشرقين، يجد صالح أنّ الإشارة إلى طائفة أدونيس (الذي طلّق الطائفة والدين قبل عقود ويشهد ديوانه «أغاني مهيار الدمشقي» على ذلك) مشروعة في نقده. لا أدري لماذا لا يستطيع ياسين الحاج صالح أن ينتقد دون أن يشير إلى طائفة من ينتقد، أو إلى حياته الشخصيّة كما أسلفنا. يجب أن لا ينحاز المرء إلى الطائفة بصرف النظر عمّا إذا كانت طائفته هو أو هي أم لا ـــــ ولكن من قال إنّ موقف أدونيس ينبع من الطائفة التي ولد فيها؟ هل يجد ياسين الحاج صالح صعوبة في النظر إلى كتابات أدونيس من دون الهوس بطائفة مولده؟ نرجو ألا ينظر حكام سوريا الجدد (بعد سقوط النظام) إلى المواطنين والمواطنات نظرة الحاج صالح. (وفاقم الحاج صالح جوابه بكلام عام عن فوائد الثقافة والعلم، وكأنّ الثقافة تمدّ المرء بما يكون غير المتعلّم محروماً منه، أو كأنّ الثقافة تُكسب صاحبها مناعة ضد التعصّب والبغض والاستبداد. كفى تقريظاً للثقافة في زمن احتل فيه مثقفون رئاسة أجهزة الاستخبارات في أكثر من دولة عربيّة. الثقافة والمثقّفون تنتحر مرّة كل سنة على الأقل في مهرجان الجنادريّة).
أما عن الكتابة في جريدة «الحياة»، فهي مشكلة من حيث إنّها جريدة لأمير سعودي في واحدة من أكثر الدول رجعيّة في العالم. لا، ليس مذنباً كل من كتب أو يكتب في «الحياة». أنا لم أقل ذلك، لكن الحاج صالح كعادته ليس أميناً في النقل. غير أنّ الصحيفة في التسعينيات هي غير ما باتت عليه بعد 11 أيلول، عندما فُرض خط سياسي صارم، يلتزمه كل من يكتب في صفحات الرأي. الالتزام بالثوابت والمتغيّرات في السياسة الخارجيّة والداخليّة للمملكة، سائد في صحف الأمراء، وإلا كنّا قرأنا مقالات (ليبراليّة) تدعم حق المرأة السعوديّة في قيادة السيّارة هناك. لم يقل كتاب الأمراء (الليبراليّون) كلمة في حق المرأة السعوديّة. وبناءً عليه، ترى أنّ المصالحة بين سوريا والسعوديّة في 2008 أوقفت فجأة كلّ مقالات النقد ضد النظام السوري، ثم عادت الانتقادات عندما جاء الأمر الأميري. لا تسمح صحف أمراء آل سعود بالتعبير الحرّ: المسموح هو التعبير ضمن إطار السياسة الخارجيّة للمملكة. أي أن نقد قطر مُباح قبل المصالحة القطريّة ـــــ السعوديّة وممنوع بعدها. لكن إذا وجد الحاج صالح أنّ أفضل منبر للتعبير عن توقه إلى الحريّة والديموقراطيّة هو منبر خالد بن سلطان، فهذا شأنه. وإذا كان يرتئي أن نقده للنظام في سوريا يجب أن يعفي المملكة السعوديّة التي وفّرت المليارات للنظام عبر عقود، من المسؤوليّة ويحميها من النقد، فهذا شأنه هو أيضاً. أما عن تجاهله للتوافق التام والتطابق بين الليبراليّة العربيّة وآل سعود، فهو مصطنع. لكن أنا كتبت على مدوّنتي من قبل، أنّ الليبرالي العربي هو وهابي «مستحٍ». وهو يحاول أن يتصنّع الانسجام الفكري والأخلاقي بالقول إنّ ما كتبه في «السفير»، لا يختلف عمّا يكتبه في «الحياة». لكنّني أذكر أنّني قرأت له مديحاً لحسن نصر الله، بعد حرب تمّوز، ولم يُنشر في «الحياة». لعلّها الصدفة. ثم يزهو ياسين الحاج صالح بنفسه قائلاً إنّه لم يمدح حكومات الخليج، وهي تضم الحكومة السعوديّة، وهي واحدة من أكثر الأنظمة تزمّتاً وانغلاقاً وقهراً في العالم. تزهو بعدم مديح الظالم، يا داعي الديموقراطيّة؟ تصوّر لو أنا قلتُ إنني لم أمدح النظام السوري، فهل يكفي هذا؟ أما كنتَ اتهمتني بالتواطؤ في ارتكاب المجازر، لو أنني لم أنتقد النظام في سوريا؟ لكن فخر ياسين الحاج صالح أنّه لم يمدح حكومات الخليج (ماذا سيقول شعب البحرين لو أنّه قرأ أنّ ليبرالياً عربياً رفض أن ينتقد الحكومة القامعة، واكتفى بعدم إغداق المديح عليها؟). أية ليبراليّة هي تلك؟ تصوّروا (وتصوّرن) ردّ فعل الحاج صالح لو أنّ هناك من يقول إنّه لم يمدح جزّاري حماه؟
ثم ينفي الكاتب أن يكون هناك أي تحالف بين الجناح الليبرالي (الـ14 آذاري) في المعارضة السوريّة وبين الإخوان. لعلّه كان مشغولاً على امتداد الأشهر الماضية بإعداد ردّه عليّ، ولكن يمكنه مراجعة ما نشر عن عقد الإخوان وتمويلهم لمؤتمرات لبعض المعارضة حضرها ليبراليّون سوريّون. أحيلك على مجلّة «إيكونوميست» الرصينة في شأن المعلومات عن تمويل الإخوان لمؤتمرات بعض المعارضة. أما عن انخفاض الصوت ضد إسرائيل، فقد كنتُ منصفاً مع من يستسيغ التزوير المقصود، حتى إنني استشهدت بمقالة له في مجلّة «الآداب»، وهي منبر مُقاوِم وتقدّمي. يقول إنّ نبرته خافتة في كل القضايا، وهذا ليس صحيحاً. أقول له، لو أنّك استعملت ضد الصهاينة المُتطفّلين على القضيّة السوريّة في الغرب، مثل برنار هنري ليفي، النبرة التي استعملتها في ردّك عليّ، لكنتُ راضياً (وقد ردّ برهان غليون وصبحي الحديدي وفاروق مردم بك بشجاعة على الصفاقة الصهيونيّة، لكن صاحبكم كان مشغولاً باستنكار زيارة غدي فرنسيس لحماه). ثم، ألم يلحظ الحاج صالح كلام الإخوان المُهادن مع إسرائيل، وخصوصاً مقابلة علي البيانوني مع التلفزيون الإسرائيلي، أو حتى المؤتمر الصحافي لليبرالي السوري، رضوان زيادة، في موسكو، والأخير التقى هيلاري كلينتون أخيراً مُمثّلاً للمعارضة السوريّة، أي أنّ له صفة تمثيليّة؟ أما كلامه عن غياب الودّ من قبله نحو إسرائيل فهو لا ينسجم، لنقل، مع أدبيّات الحزب الشيوعي السوري ـــــ المكتب السياسي.
ولكن هناك ما هو أكثر. فقد كتب ياسين الحاج صالح مقالة بعنوان «حماس وعبّاس والشيطان» في جريدة «الجريدة»، عبّر فيها بصراحة عن آرائه في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. رأى أنّ «القوة الناعمة» هي أفضل طريقة لتحرير فلسطين، أي أنّه نصح لحركة المقاومة بانتهاج الخطب والدبلوماسيّة في مواجهة إسرائيل. (لم يَدْعُ ـــــ كي أكون أميناً ـــــ الشعب الفلسطيني إلى تغيير النشيد الوطني الفلسطيني إلى «هزّي يا نواعم»). يرى الحاج صالح في «القوّة الناعمة» رفعة «أخلاقيّة». يحذو حذو فؤاد السنيورة في تفضيل «النضال» الحضاري. ولو قرأ الحاج صالح كتاب جوزف ناي، بدلاً من أن يقرأ عنه، لعلم أن الكاتب اجترح المفهوم كوصفة لإحكام السيطرة الأميركيّة حول العالم، لا كوسيلة تحرير من الاحتلال.
أما عن التحالف بين الإخوان والجناح الليبرالي و14 آذار، فهو واضح وضوح الشمس. سعد الحريري مُروِّج لإخوان سوريا حول العالم، ووثائق «ويكيليكس» ماثلة. ويستطيع ياسين الحاج صالح، رغم انشغاله بمتابعة ما أكتب هنا وعلى المدوّنة لإعداد ردّه وشتائمه، أن يزور موقع «أمانة بيروت لإعلان دمشق» ليرى ركناً خاصاً بـ«شهداء ثورة الأرز» وليقرأ اسم رفيق الحريري مقروناً بأسماء يوسف العظمة وإبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش. أنا لن أطلق صفة الكذب على ياسين، وإن كان قد استسهل إطلاقها عليّ، لكنّه يقول عن العلاقة مع 14 آذار: «كان ثمة مساحة تقاطع في وقت باكر من انتفاضة الاستقلال اللبنانية». شكراً لك، أيها الرفيق السابق. لقد أثبَتَّ بقلمك ما قلت. مساحة تقاطع؟ هذا هو التفسير الذي يعطيه فريق 14 آذار اللبناني لتسويغ تحالفه مع إدارة بوش. ثم إنّ قلم ياسين الحاج صالح زلّ عندما استعمل مصطلح «انتفاضة الاستقلال»، وهو الاسم الرسمي الذي لا يطلقه على الحركة الرجعيّة اللبنانيّة التي قادها آل الحريري في لبنان بالنيابة عن آل سعود والإدارة الأميركيّة، إلا من كان من أنصار 14 آذار اللبنانيّة. لعلّها العادة. انتفاضة استقلال؟ من لدن العائلة التي رهنت لبنان لإرادة النظام السوري أكثر من عقد من الزمن، قبل أن تعود وترهنه للسعوديّة وحسني مبارك وإدارة بوش؟ انتفاضة استقلال؟ أكتفي، فقد سهّلت مهمّتي هنا. أكثر من ذلك، لعلّ الحاج صالح نسي أنّه كتب مرثيّة عاطفيّة عن رفيق الحريري(«من يقتل رفيق الحريري» في «الحوار المتمدّن») وقال فيها عنه: «رجل أنيق، ناجح، لديه مال كثير وتعصب قليل». ويردّ الحاج صالح على الذين انتقدوا تخريب الحريري لمعالم بيروت فيقول ساخراً منهم ومُدافعاً: «كم أنّ «تخريب» الحريري لبيروت كان يطمئننا إلى أنّها بمأمن من خراب القذائف والقناصين. فهو أولاً تخريب «خطوط التماس»...». لن أعلّق على إعجاب الحاج صالح بأناقة رفيق الحريري، ولكن أن ينفي عنه تهمة الطائفيّة وهو الذي جلب إلى الحلبة السياسيّة مستوى من التحريض المذهبي لم يعرفه حتى النظام السياسي اللبناني من قبل، فهذا يستدعي مستوى من تجاهل الحقائق ربما بحافز من العاطفة الجيّاشة والدموع. 14 آذاري و«حبة مسك»، أو حبة تمر، ولكن لماذا تستحي من المجاهرة يا حاج صالح؟ حتى تهمة نهب المال العام التي باتت موثّقة عن الحريريّة نفاها الحاج صالح بإباء وشمم. فهمنا أنك تكنّ كل الودّ لرفيق الحريري، لكن لماذا محاولة الإنكار؟
أما في المسألة العلمانيّة، فياسين الحاج صالح يتقدّم بتعريف مبتكر لليسار، مع أنّه باعترافه لا ينتمي إلى اليسار، وخصوصاً أنّ نضاله الشيوعي، كما روى لنا وللرجل (الصهيوني) الأبيض في «نيويورك تايمز»، كان ديموقراطياً صرفاً. ينوّرنا ياسين الحاج صالح أنّ اليسار الذي ينبذ السلفيّة والأصوليّة هو غير يساري البتّة. يصفه بالرجعيّة. دعني أحزر، يا ياسين الحاج صالح: إنّ اليسار الحقيقي في رأيك هو الذي يتصالح مع آل سعود ومع شيوخ السلفيّة، أليس كذلك؟ لقد بتّ سهل التوقّع في استنتاجاتك. بالمناسبة، هل كان رفيق الحريري يساريّاً (أنيقاً طبعاً)؟
أما عن الثناء على قناة «الجزيرة» فأقول إنّ المحطة هي فعلاً الأكثر مشاهدة، لكن تغطيتها للشأن السوري تغطية سياسيّة لأنّها غطّت على جرائم النظام عندما كانت السلالة القطريّة مُتحالفة مع السلالة الأسديّة، وهي قد تعود لتنسى معاناة الشعب السوري إذا عادت السلالة القطريّة وتصالحت مع السلالة الأسديّة. ثم إنّ إعلان حرب «مجلس التعاون الخليجي» بعد غزو البحرين من القوات السعوديّة والإماراتيّة، ينزع كل ذرة صدقيّة عن المحطة، وخصوصاً أنّ صوت حلف «الناتو» بات صادحاً فيها. لكن الحاج صالح كاد يفقد صوابه في نهاية تعليقه فلجأ، بعدما أرغى وأزبد، إلى الديماغوجيّة مجدّداً، وجعل من نقدي له إهانة للشعب السوري (يذكّرنا هنا بإعلام السلطة في دمشق). فليقلع الحاج صالح عن هذا الأسلوب. ويختم الحاج صالح مطوّلته باتهامي بالهوى الأيديولوجي. نسيت أنّ الأيديولوجيا تهمة مشينة عند تلك الثلّة من اليساريّين السابقين. ما الضير في الهوى الأيديولوجيّ؟ أقرأ في مسار بعض اليسار العربي، أو في نتفه، مسار اليسار الأميركي عندما نبذ عدداً من مثقفي اليسار، وبرز كصوت صادح في خدمة اليمين، كما أنّ مفكّراً يمينياً أميركياً أطلق شعار «نهاية الأيديولوجيا». إن استمرار الأيديولوجيا ضمان لاستمرار النضال من أجل تحرير كل فلسطين ومن أجل المطالبة بالعدل الاجتماعي (الذي لا يكترث له النظام، ولا يكترث له الإخوان ومن حالفهم من الليبراليّين).
لكن ياسين الحاج صالح في واد آخر: هو في عليائه يصدر الأحكام ويبدو أنّه يضع قائمة بمنتقديه الذين يستحقّون المقاصل. يريد البعض في المعارضة السوريّة (وهذا لا يؤثّر على موقفي المُساند للانتفاضة السوريّة) أن يفرض الرأي الواحد قبل أن يصل إلى السلطة. ويريد هذا البعض أن يؤيّد الواحد منا كل من ينطق باسم المعارضة السوريّة من دون استثناء، وإن لم يفعل اتهم بـ«التشبيح» وبممالأة النظام. إنّ معاناة الشعب السوري تتطلّب تحسّساً أكبر بالمسؤوليّة، كذلك فإنّها تتطلّب مقداراً أكبر من سعة الصدر، إذا كان برنامج التغيير يتضمّن تغييراً جذريّاً لبنية الثقافة السياسيّة السائدة في سوريا. يسعى ياسين الحاج صالح، على ما يبدو، هو أيضاً إلى هداية الدولة والمجتمع وقيادتهما، لكنّه يظهر بعيداً عن الأمانة العلميّة أو حتى الأخلاقيّة: فيضع من يجرؤ على نقده في مصاف القتلة. هذا دِرك لن أساجله فيه، ولو كان هو يستسيغه.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)