صَبرَ العراقيون طويلاً وكثيراً وسيضرب المثل بهم، حتى يبزّ أيوب في صبره. العراق بلد الحضارات والثروات التي سال لعاب امم ودول كبرى او «عظمى» عليها، فتنكبوا مشقة المسافات لغزو ارض الرافدين واحتلوها، ولكنهم، كما هو في صفحات التاريخ المعاصر، لم يتمكنوا ان يحتفظوا حتى بالتماثيل التي نصبوها لأبطالهم المزعومين. وظل الشعب العراقي بطل الثورات والانتفاضات والهبات الشعبية، رغم كل القمع والاستبداد والدكتاتورية والعسف والحصار والقصف والخراب والدمار.
بقي التغيير عند الشعب العراقي مشعلاً لدرب جديد. وكلما تتغير الاحداث يفكر بالجديد الفعلي وبفسحة الامل، ولهذا اعطى لمن جاء لحكمه فرصاً كثيرة ليشعره بمهماته وبمسؤوليته الرسمية والتاريخية.
حار في أمره من جاء لغزوه واستعماره وحتى حكامه المحليون. التنوعات الجميلة في ارض الرافدين تتحكم في اتجاهات التغيير والإصرار على خط التقدم فيها. تستطيع ان تجبره على التحمل لفترة او فترات، مهما طالت ولكن لا تتمكن من التحكم في غضبه. متى ثار ثار... هذه صورة قلمية سريعة عن سمات العراقيين والعراق، ولهذا ففي هذه الايام لم يتحملوا اكثر مما تحملوا او وضعوا فيه (للأسف يتمكن العدو الطبقي والامبريالي، احياناً، من كسب او توظيف بعض الافراد او الجماعات للتخادم معه، وحتى هذا او هؤلاء يشعرون بخطيئتهم بعد حين ويسترجعون انفسهم او يتعرون في ارتكابهم. وما عليه العراق اليوم يكشف ذلك او يسلط الضوء ويقدم الادلة عليه).
زمن الاحتلال الاخير، منذ عام 2003 والى اليوم، مرت على العراق جيوش وأساطيل وسفراء وحكومات ودورات برلمان، وكلها مع بعض التميزات، لم تقدم له ما كان ينتظره.
زادت الكوارث التي تحملها قبل مجيئهم وأضافوا له مآسي لم يعهدها عملياً. هل يعقل ان كل ثروات العراق لم تستطع حل مشكلة كهرباء او ماء نقي او خدمات اساسية؟ ما هي مهمات الحكومات ومجالس النواب اذاً؟ لماذا قدم هؤلاء العاملون انفسهم للعملية السياسية والواجهة الاعلامية والرأي العام؟ هذه اسئلة بريئة وأجوبتها لا تحتاج إلى كثير عناء. ولكنها تمنح المحلل والمراقب اجوبة اخرى وأدلة وإثباتات لما قام به الغازي والمحتل اساساً. وهذه هي الحقيقة المرة عن المسؤولية الرئيسية. لقد مارس الاحتلال سياسته المعروفة بكل تفاصيلها. نهب الثروات وإغراء الافواه المعترضة، وإشغال الشعب بهمومه وحتى بفئاته وألوانه وتمزيق ارضه وتشويه سمائه، وإدامة هيمنته ونفوذه على المفاصل الاساسية في الدولة والمنطقة من بعده. هذه هي سياسة الامبريالية عموماً، او المكشوف منها من دون لبس او تورية او محاباة.
قوات الغزو، الملايين من العسكر والمرتزقة والخاصة والسرية، وقواعدها العسكرية العلنية والسرية، وأساطيلها في البحر والجو وصواريخها العابرة للبلدان وطائراتها بطياريها او من دونهم، لم تقدِم الى العراق لاعماره والاعتذار عن حصاره، ولم تحتله لبنائه وتمكين شعبه الى حكم رشيد وتنمية مستدامة. كما انها لم تأت لنزهة على شواطئ دجلته وفراته فقط وتتسلى أياماً وترجع مبتهجة وملتقطة صوراً تذكارية ومحملة بهدايا عراقية اثارية او حديثة خاصة. لم يكتف جون بايدن وصاحبه بوضع خريطته الجديدة ورفعها للرف موقتاً، ومغازلة البعض ووعد البعض الاخر وتكبيل العراق بها وعبر البعض هذا او ذاك وبتداعياتها، كلما رفع الشعب سبابته متسائلاً او مستفسراً.
انه الاحتلال الصهيو اميركي الجديد في العقد الاول من القرن الواحد والعشرين، في بداية الالفية الثالثة من التقويم الغربي. هكذا تتم الامور وتجري الاحداث وتحصل التطورات وتحدث المتغيرات. وهذا ما حصل ويحصل ويحدث امس واليوم وربما غداً، بانتظار ما يجري اليوم في الساحات، تحت ظروف الحرارة المتميزة، والمناخ المتغير، والتعقيدات المتراكمة، واحتلال داعش، الرمز السري للاحتلال الصهيو اميركي المتجدد في المنطقة، تنفرج الصورة وقد تكون اجراس الانذار الحالية قادرة على فهم الوقائع والعمل على التغيير. غضب العراقيين يجرى التعبير عنه الآن في الساحات العامة، في المحافظات ومدنها وقراها، ولكن أيضاً انحصرت في 11 محافظة، حسب ما اشارت له الوكالات الاخبارية الاجنبية قبل العربية، كجزء آخر من واجباتها في التفريق والتشتيت. ولكنها تطرح سؤالاً أيضاً، لماذا والعراق مقسم رسمياً الى 18 محافظة. الاقليم الكردستاني في ثلاث محافظات، ودولة داعش تحتل محافظتين، وخارجهما بين بين، بين المناطق المتنازع عليها (!) او التي لم تجد بعد وضعها او مصيرها الذي تحدده موازين القوى والمتغيرات. هذه اسئلة مثيرة للاهتمام والتفكير بالمصير الوطني ودور القوى الفاعلة على الارض فعلاً، والالتزام بالوحدة الوطنية وخيارات المصير المشترك، والابتعاد من المشاريع المبيتة والتي لم تعد سرية او مجهولة تماماً عن الجميع. السكوت عليها او تمشيتها مشاركة فيها وفي اخطارها المقبة.
ما يحصل منذ نهاية شهر تموز/ يوليو، وبداية آب/ اغسطس من مظاهر حراك شعبي وتظاهرات ترفع مطالب شعبية واضحة، بسبب ازمات الخدمات الاساسية، النقص الفادح في تزويد الكهرباء والماء الصافي وغيرها، في هذه الاجواء المناخية في ضغوطها على البشر في المناطق الجنوبية والفراتية والوسطى من جغرافية العراق، يعبر عن تفاقم الغضب وطول الانتظار. ويستدعي رفع الصوت عالياً ودائماً حتى إنهاء الكارثة التي زرعها المحتل ويتفرج على عواقبها وتداعياتها. لقد عمل الاحتلال بكل مخططاته على زرع المحاصصة الطائفية والاثنية كمعوق رئيسي في إعادة بناء الدولة وتطويرها، وأرسى اساليب الفساد الاداري والمالي كمواز لها لاستمرار التفكك وبروز التناقضات وتغذية التخادم والارتهان، وأكمل بعدها دوره في انجاز مشاريعه في التخريب لكل مؤسسات البناء التحتي والخدمية وتبذير الثروات ومستقبل الشعب والوطن. هذه كلها مؤشرات عن مخططات الاحتلال للعراق، ولا بد من غضب العراقيين والرد عليها بما يناسبها وما يحملها المسؤولية ويضع بديلها الوطني، ويبدأ بمهمات التحرر منها، والعمل على اعادة اعمار العراق واحترام ارادة الشعب العراقي.
* كاتب عراقي