ليس في الرد على أسعد أبو خليل ما يبهج القلب. الوقت غير مناسب. وفي ما يكتب الرجل الكثير من أناه ونوازعها، والقليل من أفكار واضحة متميزة، ينتفع بها الناس. لكن «المضطر يركب الصعب»، على ما يقول السوريون، ومنبع اضطراري هو ما ورد في مقالة أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا «ملاحظات عن المعارضة السورية» («الأخبار»، 23/7/2011) من أخطاء في الوقائع، ومن تقديرات لا سند لها، ومن أحكام عشوائية مبنية على هوى النفس.من باب تنظيم النقاش، يتوزع هذا التعليق على محورين، يهتم أولهما بتصحيح ما يخصني مما قاله الأستاذ الغضوب، ويتناول الثاني المعارضة الليبرالية التي لم يتكرم بتعريفها بأيّة طريقة، لكن يبدو أنني أمثلها بصورة ما، ويُختم بنظرة عامة إلى «منهج» أستاذ العلوم السياسية.

■ ■ ■

يقول الأستاذ إني سجنت لكوني شيوعياً، وهو مخطئ في ذلك. بلى، كنت شيوعياً، لكنّني سجنت ورفاقي، وكثيرين في سوريا، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين وطوال العقد، بسبب معارضتنا للنظام، أي لسبب سياسي لا لسبب عقائدي. كان في جبهة النظام الوطنية التقدمية شيوعيون أعلى منا نبرة، وكانوا حائزين على الشرعية الشيوعية أكثر منا، بفعل فوزهم باعتراف المركز السوفياتي، وكان هذا أمراً حاسماً وقتها. ولم تكن لدى النظام يوماً مشكلة مع أية عقائد، ما دام أصحابها موالين له، أو لا يعارضونه، وما دامت عقائدهم منفصلة عن أي عمل عام منظم ومستقل.
وينسب أستاذ العلوم السياسية إليّ «محاولة لتزوير الماضي، وخصوصاً في مكوناته اليسارية». فقد كتبت قبل حين مقالة في «نيويورك تايمز»، تحدثتُ فيها، بحسبه، عن ماضيّ الشيوعي، وقلت إنّي كنت آنذاك أناضل «من أجل الديموقراطية». وبعد أن يعبر عن تسامحه مع تحوّلي نحو الليبرالية، يقرر الأستاذ جعل «النضال الشيوعي نضالاً من أجل الديموقراطية تزييفاً للماضي وشعاراته». ودليله على التزييف أنّ «الشيوعية العربية ناضلت لأجل العدالة الاجتماعية، وللتحرر من أنظمة موالية للغرب، كما أنّها ربطت بين النضال الداخلي وتحرير فلسطين». على هذا النحو، يُحوِّل أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا ما يحتاج إلى اطلاع على السجل التاريخي الفعلي، إلى موضوع استدلال من مبدأ مجرد، هو الهوية الشيوعية. الشيوعي يناضل من أجل العدالة الاجتماعية لا من أجل الديموقراطية، إذن فلا حاجة لأستاذ العلوم السياسية إلى معرفة شيء عن تاريخ الشيوعية السورية وتحوّلاتها السياسية والفكرية. لكنّني أفترض أنّ القراء أقل اكتفاء بعلمهم من الأستاذ، ويتطلعون إلى معلومات موثوقة.
معلوم أنّ الحزب الشيوعي السوري انشق في ربيع 1972، وأنّ الشق الذي سأنتمي إليه بعد ذلك بسنوات، الحزب الشيوعي السوري ـــــ المكتب السياسي، كان «قومياً»، وجنح أكثر وأكثر نحو الاستقلالية عن السوفيات، وعن نظام حافظ الأسد، وتحوّل إلى المعارضة الصريحة للنظام بدءاً من 1976، إثر موقف قوي ضد التدخل السوري في لبنان. وقد وجد ذاك التحوّل السياسي ارتساماته الإيديولوجية عبر إعادة الاعتبار إلى الديموقراطية التي كان مثقفون سوريون مرموقون، مثل إلياس مرقص وياسين الحافظ، ثم برهان غليون، قد سبقوا إلى إعادة اعتبارها، وذلك في سياقات ناقدة للشيوعية السوفياتية وتناسخاتها المحلية وماركسيتها الطقسية. كان ياسين الحافظ يتساءل مستنكراً، كيف يعترض على الديموقراطية البرجوازية يساري عربي لا يزال مجتمعه ينوء تحت ثقل القرون الوسطى، متفهماً أن ينتقد هذه الديموقراطية يساري غربي يتطلع إلى الاشتراكية. وكان هذا كلاماً نقدياً جداً، حين قيل أواسط سبعينيات القرن الماضي.
وعلى هذا النحو، التقى تحوّل مطّرد في تنظيمنا نحو معارضة النظام، مع عرضٍ فكري متنام كان ينفتح على الديموقراطية، وبدرجة ما على الليبرالية، ويجد سنداً في الشيوعية الأوروبية، الإيطالية والإسبانية بخاصة، في ذلك الوقت. وتمثلت نقطة الانقطاع في المؤتمر الخامس في 1978، حين حذفت عبارة ديموقراطية شعبية من شعار الحزب (تحرير، ديموقراطية شعبية، اشتراكية علمية، وحدة عربية)، واقتصر على عبارة ديموقراطية وحدها، أو «ديموقراطية حاف»، حسب تعبير لطالما استخدمه، في أواسط السبعينيات، المرحوم ياسين الحافظ. وأسقطت صفة العلمية عن الاشتراكية لتبقى بدورها اشتراكية (حاف) معبراً عن هذا المنطق بعد حين، كان المرحوم إلياس مرقص يجادل كثيراً بأنّ الأوصاف أكلت الموصوفات في تفكيرنا، فأكلت الشعبية الديموقراطية، والعلمية الاشتراكية، ويدافع عن وجوب إعادة الاعتبار إلى الموصوفات.
ورغم أنّ الحزب الشيوعي ـــــ المكتب السياسي ظل يصارع على الشرعية الشيوعية، ويرى نفسه هو الشيوعي الحقيقي، إلى حين اعتقال الكتلة الأكبر منا في خريف 1980 (وبعد)، بقي العنصر الأهم في تحديد هويته، منذ 1978 على الأقل، هو معارضته للنظام. تاريخنا هو تاريخ هذا الاعتراض الجسور، سياسياً وفكرياً، وليس تاريخ الولاء للعقيدة الشيوعية، وقد اقترن ذلك دوماً بالتبعية لنظام من أشد ما عرف العالم العربي وحشية وفساداً.
وتأكيداً للروح الانشقاقية، اتخذ الحزب حينها مواقف «هرطوقية» متنوعة، منها إدانة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، والاحتلال الفيتنامي لكمبوديا (كان وصفهما بالاحتلال فضيحة في نظر عموم الشيوعيين حينها)، ومنها الوقوف إلى جانب المغرب في قضية الصحراء الغربية، وإلى جانب إريتريا ضد نظام منغستو الاشتراكي. لكن «فضيحة» الحزب الكبرى تمثلت في تحميله النظام المسؤولية الأولى والأساسية عن الأزمة الوطنية التي تفجرت بدءاً من صيف 1979، ما عدّه النظام تعاوناً مع الإخوان المسلمين، وما رأى فيه جحفل من منظمات شيوعية ويسارية مشرقية (لبنانية وفلسطينية وعراقية...)، من الصنف الذي يشبه أستاذ جامعة كاليفورنيا، عمالة للأمبريالية.
وفي أواخر 1979، تأسس التجمع الوطني الديموقراطي، وهو تحالف بين يساريين قوميين وقوميين يساريين، من أجل التغيير الديموقراطي، وكان للحزب الشيوعي ـــــ المكتب السياسي دور تأسيسي فيه. وفي ربيع 1980، أصدر التجمع بياناً تاريخياً بخصوص الأزمة الوطنية والاجتماعية المتفجرة آنذاك، وكان نصاً ديموقراطي اللغة والحساسية والتوجه.
وبمحصلة تلك المواقف والتوجهات، أظن أنّنا أسهمنا في إنقاذ الكرامة الفكرية والسياسية لليسار في سوريا، وكذلك في إنقاذ كرامة الشعب السوري الذي كان يذله نظام يقتل كثيراً ويسرق كثيراً ويكذب كثيراً.
كانت تلك التجارب الفكرية والسياسية تشكل كل العالم الفكري لمن هم في عمري حينها، طالباً في سنيه الجامعية الأولى. لقد كنّا بالقطع ديموقراطيي الهوى أكثر مما كنا شيوعيين، وإن كانت ديموقراطيتنا حينها مندرجة في نظرية الثورة الوطنية الديموقراطية (كمرحلة سابقة للثورة الاشتراكية)، أكثر مما هي مبنية على أرضية ليبرالية. لكن عموم الشيوعيين التّقات كانوا يعرّفوننا بدلالة الثورة الديموقراطية، اللائقة في نظرهم بـ«ديموقراطيين ثوريين»، وكانت تلك مرتبة متدنية في لغة ذلك الزمن عن مرتبة الشيوعيين الذي لا يتطلعون إلى ما دون الثورة الاشتراكية.
إذن، لست مزيفاً للتاريخ، بل إنّ ناقدي جاهل غير عارف بجهله. وهو فوق ذلك متجرئ على ادعاء المعرفة، وعلى تغطية جهله النشط باعتبارات عامة عن الشيوعية العربية.
يبقى أنّ مقالتي في «نيويورك تايمز» كانت عن سوريا والانتفاضة السورية، لا عن نضالي الديموقراطي الذي ورد ذكره فيها عرضاً.
النقطة الثالثة في هذا المحور تتصل باستهداف «وحشي» مني ومن آخرين لصحافية لبنانية كتبت «تحقيقاً» عن زيارة مفترضة لها لمدينة حماه السورية. بداية، كل ما يتصل بهذا الشأن كتبتُه على صفحتي على فايسبوك. وهو يثير تساؤلاً عن وضع ما يكتب في المواقع الاجتماعية. هل هو عامٌّ، يُباح تداوله للجميع، كما لو كان نصاً منشوراً في كتاب أو صحيفة؟ أم خاص مثل كلام يجري بين أصدقاء في جلسة خاصة؟ أم له وضع ثالث؟ المسألة جديدة، وتستحق نقاشاً جديّاً. ولو كنت مكان الأستاذ لتحفظت في استخدام مواد من هذا النوع، حصلت عليها فوق ذلك عن طريق التجسس. لكن لا أثر للتحفظ في ما كتب الرجل، فهو يخوض حرباً، بل حرباً مطلقة، وفي حرب كهذه كل شيء مباح. ولن يكون للأفكار غير قيمة وظيفية، سلاح في الحرب، لا شخصية له أو كرامة ذاتية.
على أن ما يتصل بـ«التحقيق» وصاحبته ضُخِّم كثيراً، لأسباب تخص الأستاذ وأشباهه. كان بياناً ينتقد التحقيق المزعوم، وبخاصة وصف مدينة حماه بأنّها قندهار، قد صدر بتوقيع مثقفين سوريين، انضممت إليهم أنا. وقد حصل أن فصلت الصحافية من جريدة «السفير» بُعيد ذلك. ولست مقتنعاً بأنّ البيان هو سبب فصلها، ولا بالطبع تعليقات ساخرة على فايسبوك. لعل للأمر علاقة باعتبارات مهنية وسياسية، تُسأل عنها جريدة «السفير».
لكن نقطة «الوحشية» تستحق اهتماماً خاصاً. في موقع آخر من نصه الذي لا شكل له، تكلم أستاذ العلوم السياسية عن «اتجاهات قمعية» عندنا، نحن «رهط المثقفين الليبراليين السوريين»، وعن مطالبتنا «برفع المقاصل» ضد خصومنا (مطالبتنا لمن؟). ليس هذا الاستخدام المرسل لكلمة قمع أو وحشية عارضاً أو بريئاً. فإذا أُطلق بحق كاتب هذه السطور وأمثاله، وهم كتاب وفنانون لم يؤذوا أحداً يوماً، وبحق من يعتقلون الأطفال ويقتلعون أظافرهم ويقطعون أعضاءهم التناسلية ويقتلونهم، ومن يسلخون جلد المعتقلين ويقتلعون عيون طبيب قبل قتله، ورمي جثته على طريق عام، ومن يقتلون نحو ألفين من المحتجين المدنيين العزل...، فإنّه يمحو الفرق بين القائلين والقاتلين، ولا يخدم إلا في إضفاء طابع مفرط النسبية على القتل والسلخ والقطع واقتلاع العيون، وعلى تمييع الحدود بين مواقف وآراء، قد لا تكون «ديموقراطية»، لكن لم تسل بسببها نقطة دم واحدة في أي وقت، وبين قتل حقيقي وتعذيب حقيقي يتهدد ملايين السوريين، وكيان البلد ذاته. وحين يكون الداعي وأشباهه قمعيين (وفاشيين، على ما تفضل الأستاذ في مدونته)، يغدو القمع الذي يمارسه اختصاصيو القمع الفاشيون، الذين قتلوا ويقتلون المئات والألوف، ضرباً من رأي متجاوز للحد أو من تقدير خاطئ. هذا يتجاوز العمى الأخلاقي ليمسي تواطؤاً إجرامياً مع القتلة.
وينبغي أن يكون المرء أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا حتى يستطيع أن يكتب التالي: «بصرف النظر عن مضمون المقالة («تحقيق» غدي فرنسيس عن حماه)، وعن الإشارة إلى قندهار (...)، فإنّ نبرة رد الفعل ونمطها لا يبشران بالخير». مذهل! كيف بصرف النظر يا سيّد! موضوع النقاش هو بالضبط، وحصراً، هذا الذي تريد صرف النظر عنه. هو بالضبط مضمون المقالة، وهو وصف حماه بقندهار (وباقي عناصر الصورة النمطية العزيزة على الاستخبارات وفرق الموت الفاشية عندنا، وعلى الجهات الأكثر يمينية وعدوانية في الغرب: اللحى الطويلة، السواطير، النقاب، العرعور...؛ بالمناسبة، ينبغي أن يكون المرء متلوّناً، لا مبدأ له غير شخصه، حتى يستطيع أن يدافع عن «تحقيق» كهذا تحت لافتة يسارية).
ولم يكن قط موضوع نقاش حق الآنسة فرنسيس في التعبير عن رأيها. ولعل من محاسن انتساب المرء إلى رهط ليبرالي ما، أنّه يميّز بين حق الناس في التعبير عن آرائهم، وبين أن يكونوا على حق في هذه الآراء. لا أحد في رهطنا أنكر على الآنسة شرعية رأيها أو حقها في التعبير عنه. ما أنكرناه هو مضمون رأيها (وليته كان رأياً، فهو «تحقيق»!). وأفترض أنّه لا يتحتم أن يكون المرء من الرهط الليبرالي حتى يميّز بين هذا وذاك، وأن لا شيء يحول دون استيعاب أساتذة العلوم السياسية هذا الفرق.
ويبلغ الأستاذ مرتبة عليا من الصدق حين يقول إنّنا، رهط الليبراليين السوريين بالطبع، سكتنا على زيارة السفيرين الأميركي والفرنسي، ولم نسكت على زيارة صحافية لبنانية. هل هذا صحيح؟ هل قال أحد منا شيئاً ضد الزيارة المفترضة للآنسة، أو ضد انتهاكها المزعوم للسيادة الحموية؟ هل معايير الحقيقة لدى أساتذة العلوم السياسية في كاليفورنيا على هذه الدرجة من التراخي؟ وهل يطلقون في أميركا كلمة أخرى غير الكذب على تساهل الناس، أساتذة أو غيرهم، في معايير قول الحقيقة؟
النقطة الرابعة والأخيرة مما خصني به الأستاذ من اهتمامه تتصل باتهامي لأدونيس بالانحياز إلى الشيعة ضد السنة. على هذا يورد الأستاذ التعليق البليغ التالي: «هل أصبح مذهب الرجل مأخذاً عليه، عندما لا يتفق رهط المثقفين الليبراليين معه؟». هنا أيضاً ثمة أعجوبة. هل ينتظر من كل منا أن ينحاز إلى جماعة مولده؟ فإن كان شيعياً كان طبيعياً أن ينحاز للشيعة، وإن كان سنياً كان طبيعياً أن ينحاز للسنة...؟ ما فائدة الثقافة إذن؟ إذا كان ولاء الواحد منا لجماعة مولده الطبيعية، لماذا يتعلم ويتثقف؟ أدع جانباً ما لم أفهمه من أنّ الشاعر الشهير علوي واسماعيلي معاً، على ما قال الأستاذ في واحدة من ردحيّات متعددة له ضدي، منشورة في مدونته. لعل هذا من إعجاز العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا!
لكن هنا أيضاً لا أرى كيف يستطيع يساري أن يدافع عن تفكير حداثوي يميني، ثقافوي منهجياً ومثالي فلسفياً ومرهِق في تكراراته اللامتناهية، كتفكير صاحب «الثابت والمتحوّل»؟ وهل كل شيء مباح من أجل بناء قضية ضدنا، نحن «رهط الليبراليين» السوريين؟ ألا يجازف الأستاذ بأن يكون عبداً لنا، يستحوذ الانشغال بأقوالنا، ولو عارضة، على روحه؟

■ ■ ■

لم يعرف أستاذ العلوم السياسية الجناح الليبرالي للمعارضة السورية، فلم يسمِّ تنظيمات محسوبة عليه، أو يحدد إشكاليته مستنداً إلى نصوص ووثائق معروفة، أو يسمّ شخصيات منسوبة إليه (غيري ومحمد علي الأتاسي، وربما برهان غليون)، أو يميّزه عن غيره من تيارات المعارضة. الانضباط الفكري ليس فضيلة يتحلى بها من يجعل الغضب (والبغض) هوية له. وهو يسوّق وقائع وتقديرات وأحكاماً منسوبة إلى كائن شبحي غير محدد المعالم، الجناح الليبرالي نفسه، لا يوحِّده غير هوى خالقه المتجهم. هذا يتيح له مجالاً واسعاً للمراوغة والتملص، ويجعل الرد عليه شاقاً. لفائدة القارئ، سأحاول، رغم ذلك، تقديم بعض التوضيحات.
استطاع الأستاذ أن يقول إنّ الجناح الليبرالي هذا، وأنا عينة منه، متحالف مع الإخوان المسلمين. إن كانت تلك معلومة عن واقع قائم فهي غير صحيحة. أما إن كان التحالف تعريفاً لذلك الجناح الأثيم، شيئاً يحمله معه أينما ذهب، فلا ريب في أنّ الأستاذ محق. وهو محق أيضاً إن كان التحالف أي شيء غير السعار ضد الإسلاميين. في هذه الحالة لا ريب في أنّنا، عموم المعارضين السوريين، مذنبون، بمن فينا، بالمناسبة، بعض «يسار» يرضى عنه أخونا الذي في كاليفورنيا. لكن في السنوات المنقضية، بل منذ عقدين من السنين، وجد السعار المعادي للإسلاميين موطأ قدم إيديولوجي في عقيدة يصعب وصفها بأنّها يسارية، هي ضرب من النزعة الحداثية اليمينية، التي يحصل أن تنسب نفسها إلى «العلمانية». ولسبب ما كان كبار دعاة هذه العقيدة لا يجدون بأساً في رفقة ضباط الاستخبارات والسهر معهم، وتداول الأنخاب والشؤون العامة معاً.
وقبل حين، أمكن الأستاذ أن يكتب في مدوّنته أنّ «الجناح الليبرالي ارتضى أن يظهر «وجهاً مقبولاً» للمعارضة الإخوانية في التكلم إلى الغرب، [وذلك] بغرض حماية الإخوان». وجعل منّي مثالاً على هذا الوجه المقبول، بدليل أنّي كتبت مقالاً في جريدة «الحياة»، يتكلم على «تحالف مدني» بين تيارين علماني وإسلامي في المعارضة. أعتذر من القراء، لكن الأستاذ يكذب هنا مرتين. مرة حين جعلني وجهاً مقبولاً للإخوان، الأمر الذي يتجاوز الكذب إلى الصفاقة والتشبيح؛ ومرة حين يقرأ مقالتي في «الحياة» بتساهل شديد مع هواه، محوّلاً ما هو تحليل عن التركيب الاجتماعي الثقافي للانتفاضة، إلى دعوة إلى تحالف سياسي بين تيارين إيديولوجيين (المقالة متاحة على الرابط http://international.daralhayat.com/internationalarticle/277591).
والرجل يقفز من كوننا، نحن الجناح الليبرالي المزعوم، نكتب في «صحف آل سعود»، إلى أنّنا ندعو إلى الثورة في مضارب آل سعود. كيف ذلك؟ هل الكتابة في جريدة «الحياة»، مثلاً، تساوي الدعوة إلى الثورة في مضارب الأمراء السعوديين؟ وفقاً لهذا المنطق المتساهل سيكون نوام تشومسكي، مثلاً، صهيونياً متطرفاً، لا فرق بينه وبين نتنياهو؛ ولن يكون ثمة فرق بين إدوارد سعيد وبين محمد دحلان!
ثم هل ما نكتبه في منابر مختلفة يشبهنا، أم يشبه تلك المنابر؟ هل أكتب في «الحياة» شيئاً مختلف النبرة والمضمون عما كنت أكتبه في «السفير»، أو أكتبه اليوم في «الآداب»؟
أما أنّنا ندعو إلى الديموقراطية في سوريا، ونسكت على القمع في دول الخليج، فهذا افتعال لقضية حيث لا قضية. أنا على اقتناع، يبدو أنّ كثيرين ممن قد يرضى عنهم الأستاذ يشاركوني فيه، بأنّ الأقربين أولى بالنقد، وبأنّ انتقاد أنظمة عربية أخرى على قمعها، بينما نعيش نحن واحداً من أعلى مستويات القمع في العالم، ومع افتقارنا لأيّة منابر إعلامية تخصنا، هو من قبيل الهروب الرخيص إلى ما لا يكلف شيئاً، وما قد يكون الغرض منه خلق قضية مشتركة مع نظامنا، من نوع ما كان يوجهه موالون للنظام من نقد انتهازي لقمعية نظام صدام حسين يوماً. لكن لا أبو خليل، ولا من يفوقونه قلّة أمانة، يستطيع أن ينسب إلى أيّ منا ثناء على ديموقراطية دول الخليج أو على حكوماتها.
أما التحالف مع الإخوان، وعدّهم قادة العمل المعارض، فهو كذب بدوره، ولن يستطيع الأستاذ تقديم دليل واحد عليه. قضينا نحن والإسلاميين سنوات طويلة في السجون، وبفضلها نعلم أنّهم بشر مثلنا، يمشون على قدمين، و«يولدون من نساء»، ولهم تطلعات سياسية واجتماعية مشروعة في نظر أي شخص ديموقراطي، وإن لم يشاركهم إياها، ولهم تطلعات نعترض عليها. ليس هناك شيء شيطاني بخصوصهم، ولا خصوصية جوهرية لهم، عقيدة أو تنظيماً أو سياسة، وإن ظنوا هم ذلك، وشاركهم الظن خصوم لهم ينتحلون العلمانية، أو كاتب غضوب يظن نفسه يسارياً.
وتقديري أنّ السياسة الصحيحة حيال الإسلاميين هي التعامل معهم بما هم قوة سياسية عادية، أي الاعتراف المبدئي بشرعيتهم، وانتقادهم فكرياً وسياسياً. أما السعار فله أهله، وغير قليل منهم عنصريون، وبعضهم فاشيون، وكثير منهم طائفيون متطرفون. ومنهم أيضاً انتهازيون، لا مبدأ لهم غير أنفسهم.
ويكذب الأستاذ أيضاً حين يتكلم على خفوت صوتنا ضد إسرائيل. أنا شخصياً أقرب إلى خفوت النبرة في جميع القضايا، لكن أحسب أنّي واضح الفكرة. المزيج المعاكس، صدوح النبرة واختلاط الفكرة، أتركه لأساتذة العلوم السياسية. أما كلامي على أنّ وداً لن يجمع سوريا بإسرائيل يوماً حتى لو عاد الجولان، فلا يمكن أن يكون مثار تعليق إلا من مُتصيِّد مُزايد، يظن الصوت الأعلى معياراً للالتزام الأقوى.
التحالف الوثيق بين حركة 14 آذار اللبنانية ونظيرتها السورية المزعومة غير موجود، إن كان لكلمة تحالف أي معنى. كان ثمة مساحة تقاطع في وقت باكر من انتفاضة الاستقلال اللبنانية، لم تشكل تحالفاً في أي وقت.
يبقى أنّ من خصائص الجناح الليبرالي أنّه يتكلم على الحرية دون مضمون اقتصادي واجتماعي. هنا يحوّل أبو خليل عدم علمه بشيء إلى علم منه بعدم وجود هذا الشيء. إن أقر بأنّه لا يعرف، وأراد أن يعرف، فقد يجد مساهمات متعددة لي في ما يتصل بالشأن الاقتصادي الاجتماعي.
نبذ اليسار والسخرية منه؟ هذا صحيح فقط إذا كان أبو خليل شخصياً تعريفاً لليسار. لكن، في هذه الحال، كيف لا يكون نبذ اليسار والسخرية منه أعلى الفضائل الفكرية والسياسية؟
الكلام على السيادة؟ هذا من لوازم بناء صورة الجناح الليبرالي، وتقريب معارضين سوريين من مكروهي أبو خليل اللبنانيين، وهو أوثق صلة بحاجات الأستاذ الاعتقادية منه بأي شيء عن المعارضة الديموقراطية السوريّة.
الانتقائية في المعايير العلمانية؟ وشرْحها أنّ «الليبراليين» يعترضون على «أي نوع من الود بين يسار مشغول بالهمّ الفلسطيني وحزب الله (...) من منظار رفض العقيدة الدينية»، بينما «هم يتحالفون مع سلفية وهابية وغير وهابية». بقدر ما يتعلق الأمر بسوريا، فإنّ العكس تماماً هو الصحيح. هناك «يسار» لا يسار فيه، لا يكف عن التنديد بالخطر الإسلامي والأصولية والسلفية، والثناء على علمانية لا علمانية فيها أيضاً، بينما يبتلع لسانه حين يتعلق الأمر بحزب الله. يحصل أن يفيض الكيل ببعضنا، فيتساءلون عما إذا كان حزب الله الذي «يهتم به» هؤلاء حزباً علمانياً وغير طائفي؟ وخلافاً لما قد يفضل أن يعتقد الأستاذ، لم يشأ أحد منا، الليبراليين السوريين المزعومين، ومن عموم المعارضين السوريين، تحويل حزب الله وعلاقته بالنظام إلى قضية نقاش مهمة في أيّ يوم. كنّا عموماً متواطئين على السكوت عن الأمر. كُتبت أشياء وقيلت أشياء، لكنّها محدودة جداً، وتخلو من الانفعال. بموقفه المنحاز انحيازاً أعمى إلى النظام اليوم، حزب الله هو الذي أجبر جمهوراً سورياً واسعاً، كان أميل إلى التعاطف معه، على الاعتراض عليه، وصولاً إلى حرق صور زعيمه. ولأستاذ العلوم السياسية أن يرجع إلى السجل الواقعي للتأكد من هذه النقطة. أما التحالف مع السلفية والوهابية فهو تشبيح وكذب.
وما العمل حين يتكلم دعائي واسع الذمة على تحالف لليبرالية العربية مع نظام مبارك، مع تضمين كلامه أنّ أمثال محمد علي الأتاسي وبرهان غليون وأنا، فرع لهذه الليبرالية العربية؟ ودون أن يُعرّف هذه الليبرالية بأية طريقة، أو يقدم دليلاً أو قرينة أو مؤشراً من أي نوع على ذلك؟ أو حين يقول، من كل عقله، إنّنا متحالفون مع مجلس التعاون الخليجي؟ أليس هذا الضرب من الممارسة الفكرية، هو نفسه ما يؤسس لتقديم معارضين سوريين، «ليبراليين» غالباً، إلى المحاكم بتهمة «توهين نفسية الأمة» (وليس «إضعاف الروح القومية»، على ما قال الأستاذ العلامة الذي يبلغ من خبرته بالشأن السوري أنّه يعتقد بوجود مادة في الدستور السوري تقضي بإعدام المنتسبين للإخوان المسلمين)؟ وحين يجري تعريف الليبرالية والتحالفات الوثيقة، والوحشية والاتجاهات القمعية، بهذه الطريقة المتراخية وغير المنضبطة، ألا تمسي الذات وأهواؤها هي المرجع الوحيد لتعريف الكلمات؟ وليس أي ذات، بل ذات متورمة، مغرورة، لا تعرف معنى للانضباط المعرفي والأخلاقي. وماذا يحمي حريات الناس وحياتهم حين يجري التلاعب بالكلمات على هذا النحو، بحيث يغدو كل واحد منا مجرماً أو عميلاً أو خائناً، بفضل ممارسة لغوية عديمة الضمير؟
ولا يكفي أن يكون المرء غاضباً محترفاً حتى يستطيع أن يقول إنّ تظاهرات في سوريا حملت لافتات تؤيد قناة «الجزيرة» عندما تحوّلت هذه إلى بوق لحلف شمالي الأطلسي. ينبغي أن يكون محترفاً لانعدام الأمانة أيضاً. فبقليل من النزاهة، يتبيّن لأي مراقب ما يعرفه الناس جميعاً من أنّ سوريين أثنوا على القناة الأحظى بالمتابعة عربياً، لأنّها اعترفت بهم وغطت انتفاضتهم المجيدة، ولأنّه لولا تغطيتها (هي وغيرها) لكانت الانتفاضة أشد عزلة، ولأتيح للنظام قتل أعداد أكبر من السوريين في الظلام، على ما حصل في حماه في 1982. أما توسيط حلف الأطلسي سبباً لحماسة منتفضين سوريين للجزيرة، فهو آية في الإسفاف والتشبيح، وإساءة مشينة إلى الشعب السوري.

■ ■ ■

سألاحظ، في النهاية، أنّ هناك نسقاً ثابتاً في تقريرات أبو خليل الركيكة والتعسفية، يتمثل في التساهل المفرط مع النفس، وفي تحكيم الهوى الإيديولوجي والانفعال الشخصي في قراءة الواقع، وفي عجز تام عن ضبط النفس والانضباط بالواقع وبالنصوص التي يقرأها ويناقشها. مثل عموم أصحاب العقائد المطلقة، الدينية والدنيوية، يتوقع أبو خليل من الوقائع والنصوص أن تدور حول رأسه بدل أن يدور رأسه حولها، أو ينحني بعقله وروحه عليها. وفي هذا العالم الفكري البطليموسي، يكتنز رأس الأستاذ النسخة الأصلية الصحيحة من الواقع، فيعرف الناس أفضل مما يعرفهم غيره، أو مما يعرفون أنفسهم. ولا حاجة بالأستاذ إلى مزيد من المعرفة، لأنّه يعرف أصلاً وسلفاً كل ما هو مهم. ولا حاجة به إلى تفهم وتعاطف وإحساس، لأنّه حائز على كل القيم الصحيحة ومالك لجميع الفضائل.
فإذا كان الرجل غاضباً محترفاً، فلأنّه على يقين مطلق من معرفة الحق، ومن زيوغ الناس عنه. وإذا كانت نصوصه مبرأة من أي حس إشكالي أو وسوسة أخلاقية، فلأنّه متمكن من المعرفة المطلقة والخير المطلق.
لكن أليس هذا هو الأساس الفكري والأخلاقي للطغيان؟ وللتعصب؟ وإذا كان أمثالنا على هذه الدرجة من الضلال المعرفي والسياسي والأخلاقي، أليس من المباح التخلص منهم؟ ألن يكون قتلهم شيئاً قليل الأهمية في النهاية؟
لكن قد يكون تفسير الأمر أبسط بكثير: الذات الخام التي لا تؤمن بأي شيء على الإطلاق، والمحكومة للغريزة والهوى والمصلحة في النظر إلى الناس والأفكار والعالم. مثال هذه الذات هو الطفل المدلل الذي يؤمن بجبروت أفكاره ويتوقع انصياع العالم لها، وينكر مبدأ الواقع ولا يعرف الانضباط، ويغضب ويرفس إذا لم يستجب العالم لتوقعاته. لكن هذه الطفالة أيضاً أصلٌ للطغيان الأشد اعتباطاً وتعسفاً، والأكثر تفريطاً في الحياة البشرية، إن تسنت الفرصة.
يبدو لي، ختاماً، أنّ المسألة الجوهرية في كلّ هذا النقاش هي الموقف من الانتفاضة السوريّة ولا شيء آخر. يريد كثيرون أن يمارسوا الوصاية على الشعب السوري الذي لا يبدو لهم مؤتمناً على وطنه، أو الذي لا يسلك وفق «علم الثورات» الذي يمتلكون هم مفاتيحه، والمطالب بأن ينهض بقضايا يحددونها هم له، ليس من بينها حريته وكرامته ووحدته ونهوضه المادي والمعنوي. لكن السوريين لم يتمردوا على أوصياء شبيحة، من أجل أوصياء شهور زور.

* كاتب سوري