إنّه لأمر مثير أن تزور ليبيا اليوم، بعد قيام ثورة شبابها في 17 شباط الماضي. تبدو الزيارة مثيرة للفضول. فضول تحفزه معرفة كلّ ما هو جديد على الصعيد السياسي والاجتماعي، وتسهّله علاقة جديدة مع بعض المعارضين لنظام العقيد معمر القذافي، الذين التقيتهم في القاهرة، وسهّلوا لي دخول ليبيا وزيارة عاصمتها الثانية، المنتفضة، بنغازي.حينما تطأ قدماك مدينة بنغازي وتتجول في شوارعها، تفهم أنّ المدينة عادت إلى طبيعتها، وأنّ الحياة فيها شبه عادية. فالمحال تفتح إجمالاً، والأسواق عادت إلى حركتها شبه الطبيعية. والشاحنات الكبيرة، التي تعبر يومياً من الأراضي المصرية إلى المناطق الليبية، كافية لتغطي الاحتياجات الغذائية والسلع الأساسية لمدينة بنغازي والمناطق التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي. لكنّك تشعر في المقابل بأنّها مدينة مصابة بالإهمال. فقطاع الخدمات ـــــ ومنها النظافة ـــــ كالعديد من القطاعات الأخرى، يعتمد عموماً على العمالة الأجنبية التي عاد أغلبها إلى بلدانه هرباً من الحرب بعد انتفاضة 17 شباط. الأمر الذي خلق نقصاً في العديد من المهن والحرف. فمثلاً كان يوجد، قبل بدء الانتفاضة، نحو 500 ألف مصري، بالإضافة الى الأعداد الكبيرة للعديد من الجنسيات الأخرى.
وما إن تقترب من بعض المباني الحكومية السابقة حتى تشعر بأنّ شبه زلزال قد مر من هنا. فآثار الحرائق والدمار على بعض هذه المؤسسات تدل بوضوح على أنّها كانت مركزاً لصدامات أمنية بين المنتفضين وكتائب القذافي.
وربما أشد ما يلفت الانتباه، هو عدد الجمعيات التي ظهرت بعد الانتفاضة. يبدو أنّ ذلك يترافق مع التغيير السياسي على صعيد السلطة وجملة التغييرات الاجتماعية والتعبيرات السياسية على صعيد الشارع الليبي. وأصبحت النشاطات التي تقوم بها الجمعيات ظاهرة ملموسة في الحياة الاجتماعية لبنغازي. وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً مشاهدته خلال فترة حكم الزعيم الليبي. زد على ذلك اهتمام الناس بالسياسة، وسهولة التعبير عن الذات، التي يبدو أنّها تأتي ردّ فعل على ما كان سائداً في ظل نظام القذافي، الذي كان يفتقد أبسط الحريات العامة، كما أدوات التعبير عنها. هذا عدا، طبعاً، مستوى الفساد المعمم الذي طبع مؤسسات السلطة عموماً. والحال أنّ التسميات المختلفة لظاهرة الجمعيات، التي تهدف الى العمل الاجتماعي والصحي ذي الطابع الخيري، لا تخفي واقع أنّ العديد منها يتلبس طابعاً سياسياً، وأنّها ترسم بالتالي المظاهر الأولية لتشكيلات سياسية ستظهر لاحقاً. حتى إنّ البعض، نبّه في صحيفة الشباب، في رسالة موجهة إلى رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبدالجليل، إلى ضرورة «متابعة الجمعيات الخيرية، التي انتشرت بنحو لافت للنظر، وقد استغلت استغلالاً سيئاً».
التنافس بدأ يأخذ مكانه بين تلك الجمعيات، في ظل فوضى ما بعد الانتفاضة. وهذا أيضاً ما أشار إليه السيد عز الدين الشريف، رئيس شبكة الترابط الوطني، التي لها نشاطات صحية وخدمات اجتماعية وفنية مختلفة، وتعرّض أحد مراكزها للتحطيم على يد جهة أمنية، إلى ضرورة «تنظيم» المؤسسات المختلفة التي تعمل حالياً باسم الثورة، «وإصلاحها».
لا شك في أنّ هناك طابعاً خاصاً لزيارة ميدان الحرية ـــــ ميدان المحكمة ـــــ حيث تتكثف المشاهد السياسية والاجتماعية بكلّ تناقضاتها. فعلى مدار الساعة، وخاصة في المساء، يتجمهر الناس داخل الساحة، مفترشين الأرض وهم يتابعون على شاشة كبيرة أخبار قناة «الجزيرة». ومن الناحية الأخرى، توجد منصة كبيرة خاصة بساحة الميدان، تُتداول عليها الخُطَب، وتنشد الأناشيد تأييداً للثورة، ويقرأ الأشعار المختلفة أشخاص من مختلف الأعمار، بمن فيهم الاطفال.
كذلك تلقى الخطب السياسية والدينية المختلفة. وفي أرجاء الساحة تبرز شعارات مختلفة تمجّد الانتفاضة وشهداءها. هنا لافتة كبيرة بشعار يقول «لا للقبلية»، وأخرى تقول «لا شرقية ولا غربية، وطنية وطنية».
خلف الساحة، تصادف «كشكاً» لبيع السجائر، في داخله صورة كبيرة للثائر الأممي آرنستو تشي غيفارا، وصورة أخرى للمغني بوب مارلي. ويمكن كل زائر مشاهدة العلم الاميركي يرفرف في الميدان، الى جانب باقي أعلام الاتحاد الاوروبي. سخرية القدر هناك، تعطي الانطباع بأنّ تحرر الشعب الليبي يعتمد كثيراً على دعم كلٍّ من جيوش حلف شمالي الأطلسي وسياسة الولايات المتحدة الأميركية.
ومن بين العديد من الخيم المختلفة التي تمثل شبه مقار لمختلف الهيئات الحرفية والجمعيات المهنية والأهلية، تصادف خيمة كبيرة خاصة لجمعية الاخوة الفلسطينية ـــــ الليبية، وبداخلها صور كثيرة لشهداء طائرة «البوينغ» الليبية التي اعتدت عليها الطائرات الصهيونية في 21 شباط 1973. كذلك توجد في مكان آخر من الساحة لافتة كبيرة كتب عليها «فلسطين وليبيا ثورة للوطن العربي».
وفي أحد جوانب ميدان الحرية، تجد شتى الصحف الليبية المتنوعة، من يومية واسبوعية وشهرية، مفروشة أرضاً، كي يستطيع المارة والزوار مشاهدتها وشراءها. وفيما كان يستحيل العثور على غير صحافة نظام القذافي في ما مضى، يؤكد البعض أنّه يوجد الآن أكثر من 65 صحيفة ومجلة. ولا شك في أن وجود صحافة رأي عام اليوم يمثّل أحد أهم إنجازات التغيير الحاصلة.

الشباب

وككل الانتفاضات الديموقراطية العربية، يشكل الشباب الشريحة الأعظم في الحالة الليبية. وقد لعب الشباب الليبي دوراً هاماً في انطلاقة التظاهرات السلمية المعارضة لنظام القذافي، كما في انتفاضة 17 شباط (خاصةً المحامين والشباب الجامعي في بنغازي). ويمكنك بسهولة مشاهدة هؤلاء الشباب في ميدان الحرية، حيث تقوم مجموعات منهم بتوزيع وبيع منشوراتهم الخاصة المستقلة. وبالطبع، إنّ تلك الظاهرة الجديدة لم تكن موجودة أيضاً أيام سلطة القذافي المتداعية. كذلك، يوجد بين تلك الفئة، شبّان يعرضون مواهبهم كمغنين أو موسيقيين، كما أنّ البعض منهم يبرز فناناً تشكيلياً. وعلى الرغم مما يعانيه الشباب من بطالة مرتفعة، يقدرها البعض بأكثر من 25 في المئة، فإنّ انخفاض مستوى الأجور يعدّ مشكلة حقيقية لهؤلاء. من ناحية أخرى، لا يزال الجمهور الليبي المنتفض، والشباب عموماً، يراهنون على التدخل الأميركي والأطلسي، من أجل القضاء على ما تبقى من سلطة القذافي، وإرساء سيطرة المجلس الانتقالي. وحين تسأل عن مخاطر تلك المراهنة، تكون الاجابة بزعم تطابق المصالح الآنية بين التدخل الغربي والانتفاضة. ويؤكد المنتفضون أنّهم لن يعطوا الغرب أكثر مما أعطاه القذافي أصلاً من عقود في قطاعي النفط والغاز، فيما يمكن بناء ليبيا ديموقراطية من دون استبداد. وهو الأمر الذي يطرح اسئلة حول مستقبل البلد الذي سيرتبط بلا شك بكل التطوّرات في المنطقة.

النساء مشاركات ولكن...

يؤكد العديد من الليبيين والليبيات أنّ المجتمع الليبي يتميّز بالطغيان العددي لنسبة النساء إلى الرجال، علماً بأنّ مشاركة النساء في الحراك الليبي، كما النشاطات الاجتماعية الأخرى، هي ظاهرة لافتة. وعلى الرغم من أنّ الطابع الإسلامي المحافظ سائد في الوعي الاجتماعي، يمكن ملاحظة ميول تطالب بتحرر المرأة ومشاركة النساء، والمساواة في الحقوق والواجبات مع الرجال. بعد مضي خمسة أشهر على الانتفاضة الليبية، تتضافر المهام الداخلية مع ما هو مطلوب على الصعيد الخارجي، بنحو يطرح من جديد ضرورة تبلور برنامج اجتماعي ـــــ اقتصادي، وبرنامج سياسي واضح. ولا شك في أنّ تجذر الانتفاضات العربية، خاصة في مصر وتونس، سيكون له أثر كبير في مستقبل الانتفاضة الليبية. وبالتالي، يتطور مشروع عربي تحرري جديد، منسجم مع تطلعات شعوب المنطقة إلى الاستقلال الوطني والتحرر الديموقراطي، بعيداً عن تدخلات الخارج الإمبريالي.
* ناشط يساري