تبرز قضيتان لتعكسا، كنقش نافر واضح، وضع الإنصاف والعدالة في البرازيل. فقد فصّل موريرا ساليز، في تحفة مصغّرة، مصير مدبّرة المنزل التي رأت بالوتشي يدخل بيت الدّعارة خاصّته الذي يقع على ضفّة بحيرة في برازيليا. اكتشف شاب من بياوي يبلغ الرابعة والعشرين من العمر، ويجني 50 دولاراً في الأسبوع، أنّ رئيس مصرف المدّخرات الفدراليّة، وهو رجل يُدعى جورج ماتوسو، قد دخل إلى حسابه مباشرةً بعد اجتماع له في القصر الرئاسي، بحثاً عن أدلّة تثبت أنّ المعارضة قد دفعت للشّاب أموالاً مقابل شهادته، علماً بأن انتهاك السّريّة المصرفيّة يُعدّ جريمةً في البرازيل. وبعد ساعة، أبرز ماتوسو لبالوتشي شخصيّاً، في محلّ إقامته، صوراً عن مستندات تُظهر أنّه تم إيداع 10 آلاف دولار في حساب الشّاب. فأمر بالوتشي الشرطة الفدراليّة، التي اعتقلت الشّاب، بالتّحقيق معه بشبهة قبول الرشوة وشهادة الزور. وعندما اتّضح أنّ والد الشّاب هو من دفع هذا المبلغ من المال، وهو مالك شركة باصات وكان حتّى ذلك الوقت يرفض الاعتراف بابنه، ليبعد عن نفسه أيّ دعوى أبوّة، أُطلق سراح الشّاب، ووجهت الشرطة اتهامات لكل من بالوتشي وماتوسو. فاضطرّ بالوتشي عندئذ إلى التنحّي عن منصبه كوزير، إلا أنّ المدّعي العام خفّف التّهم ضدّه، وبعد أربعة أعوام، أبرأته المحكمة العليا بخمسة أصوات مقابل أربعة. واليوم، يحتلّ هذا التافه مرّةً أخرى مركزاً في السّلطة ككبير موظفي الرئيسة الجديدة، أمّا الشّاب الذي سعى إلى تجريمه، فلم يحصل على وظيفة في المدينة مذّاك.ماذا عن المحكمة الفدراليّة العليا التي برأته؟ لكان حُثّ دومييه على تصويرها. إذ يُفترَض أنّها تعالج المشاكل الدّستوريّة وحدها، تنظر ـــــ إن كانت هذه هي الكلمة المناسبة ـــــ في حوالى 120 ألف قضيّة في السّنة، أي بمعدل 30 قضيّةً لكلّ عضو في المحكمة يوميّاً. فالمحامون يعقدون صفقات مع القضاة في السّر، ومن المعروف أنّهم يتبادلون العناق مع أولئك الذين يصدرون أحكاماً لمصلحتهم، ويدعونهم إلى الطّعام، على مرأى من الجميع، لدى صدور هذه الأحكام. من بين أعضاء المحكمة الأحد عشر الحاليّين، ستة عيّنهم لولا، حُكم على اثنين منهم بجرائم في المحكمة الابتدائيّة. ثم إنّ واحداً منهم، وهو نسيب كولور وقد عيّنه هذا الأخير، دخل التاريخ القانوني عبر منحه الحصانة لمدّعى عليه قبل محاكمته، لكنّ زملاءه حالوا دون صرفه من أجل «الحفاظ على شرف المحكمة». وقد دعم عضو آخر، وهو صديق كاردوسو، الانقلاب العسكري الذي حدث في 1964، ولم يتمكّن حتّى من التّباهي بشهادة في الحقوق. ومن بين الأعضاء أيضاً، عضو أدلى بصوته الحاسم بغية تبرئة بالوتشي، فشكره الرئيس شخصيّاً لأنّه أمّن «القدرة على الحكم». وأخيراً، يُذكر إيروس غرو الذي تقاعد منذ وقت وجيز، وقد أُدين مرّةً بالاتجار بالنّفوذ، وهو من المفضَّلين لدى لولا؛ يصفه زملاؤه بـ«إله الحبّ»، وهو مؤلّف رواية إباحيّة من الدرجة الخامسة، وقد سعى إلى إدخال شريك إلى المحكمة مقابل صوته لإخفاء الرّشوة الشّهريّة.
إنّ مشاهد كتلك، وهي ليست من بقايا نظام أوليغاركيّ قديم، بل جزء لا يتجزّأ من النظام الشّعبيّ ـــــ الديموقراطيّ الجديد، لا تشجع المرء على الشعور بالاطمئنان حيال التوقعات المستقبلية، لكنّها، في الوقت عينه، لا تلغي كلّ إمكانية للأمل. فلا يزال الإجرام في النظامَين السياسي والقضائي في البرازيل، على بشاعته، أقلّ بكثير من ذاك المتفشي في الهند والصين وروسيا، كما يشير المدافعون عن هذين النظامين، أي أنّه أخف من ذاك الذي تعرفه دول مجموعة بريك التي تشيع اليوم مقارنتها مع البرازيل. ولا يشكّل الفساد كذلك همّاً شعبيّاً كبيراً، كما أظهرت الانتخابات الرئاسيّة السنة الماضية مجدّداً، إلا أنّه لا يمرّ مرور الكرام في صناديق الاقتراع، إذ كان مسؤولاً جزئيّاً عن انتقال المنافسة إلى الدورة الثانية. فقد كان انتصار ديلما روسيف بالتأكيد انتصار لولا الانتخابيّ الأكبر، بالوكالة عنه. فروسيف كانت شخصية يكاد يجهلها الشّعب قبل أشهر قليلة، ولم تكُن قد واجهت ناخباً من قبل، ولا تمتلك أيّ أثر للكاريزما. لكن عندما انتقاها لولا، سجلت عدداً من الأصوات قريباً من ذاك الذي حصل عليه لولا نفسه، مع أكثريّة هائلة نالتها في الدورة الثانية بلغت 56 في المئة، أي أقلّ بثلاثة ملايين صوت من عدد الأصوات التي حصدها في فوزه في 2006، وأكثر بثلاثة ملايين صوت مقارنةً مع 2002. وفي الكونغرس، حيث أصبح حزب العمّال الحزب الأكبر للمرّة الأولى، وفي مجلس الشّيوخ، حيث حقق أيضاً انتصاراً كبيراً، أصبحت روسيف تقود دعم أكثر من ثلثي الهيئة التّشريعيّة في المجلسين، وهي أكثريّة لم يتمتّع بها لولا نفسه يوماً.
تدين روسيف بوصولها إلى الحكم للفراغ الذي لفّ الرئاسة إثر الفضائح التي أطاحت بالوتشي وديرسو كخلفَين. فبعد سقوطهما، حظيت روسيف بالأفضليّة على أيّ منافس آخر، وفقاً لثلاث نقاط. فهي لم تكُن من نتاج حزب العمّال، إذ انضمّت إلى صفوفه في 2000 ليس إلا، وبالتالي لم تشكّل تهديداً للولا لأنّها تفتقر إلى أيّ قاعدة في الحزب الذي بقي الرئيس على مسافة منه ـــــ على الأقلّ علنيّاً ـــــ عندما كان في القصر الرّئاسيّ. بالإضافة إلى ذلك، كانت روسيف تبرع في أمر لم يتقنه لولا، ألا وهو الإدارة. فكوزيرة للطاقة، ضمنت ألا تعاني البلاد من انقطاع الكهرباء الذي أضرّ كثيراً بمكانة كاردوسو في ولايته الثانية. وأخيراً، إنّها امرأة، وتسهل إحاطتها بدفء الكاريزما التي يتمتع بها لولا، أكثر مما يسهل ذلك مع أي رجل. وقد وصف أحد الزّملاء العلاقة بينهما عندما أصبحت كبيرة موظفي لولا بأنّها لا تختلف عن علاقة أب بابنته. في الواقع، إنّهما معاصران، فلولا يكبر روسيف بسنتين فحسب. لكنّ الحملة المشتركة التي قاما بها في 2010 كانت ستبدو أكثر غرابة لو أُجريت مع مرشّح ذَكر.
يتّضح التّباين بينهما في مسيرتيهما، ناهيك عن طبعيهما. فروسيف تنحدر من عائلة من الطبقة الوسطى العليا. كان والدها بلغاريّاً شيوعيّاً هاجر إلى أميركا اللاتينيّة في الثلاثينيات من القرن الماضي، وحقّق نجاحاً في قطاع العقارات في مدينة بيلو هوريزونتي. ارتادت روسيف مدارس محليّة جيّدة، وتلقّت دروساً خاصّةً في اللّغة الفرنسيّة والعزف على البيانو، وكانت في السابعة عشرة من العمر عندما استولى الجيش على الحكم في البرازيل. وفي سن التاسعة عشرة، كانت جزءاً من حركة ثوريّة سرّية تنفّذ أعمالاً مسلّحةً داخل المدينة وحولها. وحين انتقلت إلى ريو في 1968، شاركت في إحدى أشهر عمليات الاقتحام في ذلك الزمن: مصادرة صندوق يحوي مليونين ونصف مليون دولار من عشيقة أكثر حكّام ساو باولو فساداً. وفي 1970، قُبض عليها في ساو باولو وعُذّبت وسُجنت لمدّة ثلاث سنوات. وعندما أُطلق سراحها، انتقلت إلى الجنوب لتقطن بورتو أليغري حيث سُجن رفيقها السّابق في الحركة السّريّة الذي أصبح عندذاك زوجها. عندما خفّت وطأة الديكتاتوريّة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حصلت على وظيفة في مكتب إحصاءات ريو غراندي دو سول، وعادت إلى الحياة السّياسيّة بانتسابها إلى الحزب الذي كان يقوده منافس لولا الأساسيّ اليساريّ في الثمانينيات، ليونيل بريزولا، وارتقت تدريجاً لتصبح وزيرة الطاقة في عهد رئاسي لحاكم من حزب العمّال. في 2002 لاحظ لولا قدرتها التّقنيّة وأتى بها إلى برازيليا. تُعتبر روسيف في الخلفيّة السّياسيّة ميليشيويّةً أكثر منها قائدةً للاتّحاد العمّالي، ومع أنّها تسيطر على نفسها كثيراً، طبعها أكثر حدّةً من طبع لولا. فبعد مراقبة الطريقة التي يتّبعها كلاهما في حلّ النزاعات في قطاع الطاقة، علّق مشارك قياديّ قائلاً: «لولا يستمتع بالنّزاعات كمتفرّج على مباراة كرة الطاولة، أمّا أسلوب روسيف، فهو قذف المضرب». لا أحد يشكّ في صرامتها.
لا يمكن التأكد تماماً من قناعاتها اليوم. فقد برز نجمها في عهد لولا، في خلال الفترة الأكثر تطرّفاً من حكمه، وهي بالتالي ترتبط بمخاطر الدولانيّة والقوميّة الغادرتين من وجهة نظر اللّيبراليّة الجديدة. ما من شكّ في أنّ روسيف دافعت بشراسة عن حقوق الامتيازات المَلكيّة التي تتمتّع بها البرازيل، من مخزون النفط الهائل الذي قيل إنّه موجود في أعماق البحر قبالة شاطئ البلاد وتحوم حوله بشراهة الشركات المتعدّدة الجنسيّات والرّساميل المحليّة. كذلك، لم تَعِد روسيف بتوسيع برامج الإسكان والبنى التّحتيّة التي بدأت في عهد لولا فحسب، بل بتغطية صحيّة شاملة، وهذا يُعدّ التزاماً كبيراً جديداً. حين تسلّمت مهماتها رئيسة جمهوريّة، قامت بأكثر من واجبها عندما أثنت على الرفاق الذين حاربوا الديكتاتوريّة كما فعلت، وسقطوا في ساحة المعركة. لكن مع إعادة بالوتشي إلى السّلطة كبير موظفيها، واستبدال أموريم وزير الخارجيّة بوزير مفوض لطيف ترضى عنه واشنطن، صمّمت حكومتَها بطريقة تطمئن فيها أوساط الأعمال والولايات المتّحدة أنّه لا خوف من الإدارة الجديدة. وبإبقائها على الحدّ الأدنى للأجور منخفضاً كما هو عليه، ورفعها معدّلات الفوائد، ووعدها بمراقبة أشدّ على الإنفاق العام، لم تبدُ تدابيرها الأولى مختلفةً عن سياسة لولا القويمة، في خلال سنواته الأولى في الحكم.
هل سيتكرّر الخط المكافئ المنحني نحو التطرّف الذي سلكه الحكم في مرحلة لاحقة؟ أو هل استُنفد مخزون الإصلاحات المتوافرة الجاهزة؟ المتوافق عليه أنّ من الضّروريّ تثبيت معدل نموّ إجمالي الناتج المحلّي على 4.5 في المئة سنويّاً، على الأقلّ، من أجل مدّ أجل الإنجازات الاجتماعيّة التي حقّقتها رئاسة لولا. ومع أنّ هذا الهدف متواضع بحسب المعايير الصينيّة والهنديّة، إلّا أنّه يتخطّى متوسّط الأداء البرازيلي المسجَّل حتّى الآن في هذا القرن. وعلى الرغم من أنّ الاقتصاد مزدهر حاليّاً، لكنّ ثلاث مشاكل عميقة تتربص به. فمعدّل الادخار البرازيليّ شديد الانخفاض، وتكاد نسبته لا تتجاوز 17 في المئة من الدّخل القوميّ، أي أقلّ من نصف النسبة المسجَّلة في الهند، وثلث تلك المسجَّلة في الصّين. إذاً لقد ركد الاستثمار بمعدّل يقلّ عن 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، وسجّل الإنفاق على البحث والتطوير 1 في المئة. ومن جهة أخرى، لطالما كانت معدّلات الفائدة البرازيليّة، التي تفوق حاليّاً نسبة 11 في المئة، أعلى مما هي عليه في الأنظمة الاقتصادية الكبرى. وإذ وُضعت هذه المعدّلات من أجل كبح التضخّم، وجذب رأس المال الأجنبي اللّازم لزيادة المدّخرات المحليّة، وقُرنت بأرباح التصدير والتخفيف الكمّي في الولايات المتّحدة، رفعت الرّيال البرازيليّ على نحو خطير، ما ضاعف قيمته مقابل الدولار في عهد لولا.
أخيراً أصبحت التجارة البرازيليّة أكثر اعتماداً وعلى نحو مطّرد على تجارة المحاصيل الزراعية واستخراج المعادن، حيث يتركّز القسم الأكبر من الرّساميل المحليّة، بينما تراجعت الصّناعة حيث تسيطر الشّركات المتعدّدة الجنسيّات على القطاع الأهمّ فيها وهو السيّارات. بين 2002 و2009، هبطت حصّة المنتجات الصناعية من الصّادرات البرازيليّة من 55 إلى 44 في المئة، أمّا حصّة المواد الخام، فحلّقت من 28 إلى 41 في المئة. وها إنّ الصين، المسؤولة عن جزء كبير من ازدهار سنوات حكم لولا، عندما صارت شريكة البرازيل التّجاريّة الأكبر (فبحلول 2009، كانت تشتري 18 ضعفاً قيمة السّلع التي كانت تشتريها من البرازيل في بداية القرن)، تهدّد اليوم بإغراق البرازيل بالمنتجات الزّهيدة الثمن التي سجل استيرادها من الصّين العام الماضي نسبةً صاروخيّةً بلغت 60 في المئة. لقد حقّقت بلدان عبر التاريخ مستويات معيشة مرتفعة من دون تصنيع واسع النطاق، إلا أنّها كانت مستوطنات أو مجتمعات منتشرة في الغابات قليلة السّكان، مع مستويات تعلّم عالية كأوستراليا ونيوزيلندا وفنلندا، ولا تُشبه البرازيل بتاتاً من حيث الفقر والوضع الديموغرافي. ولكن يمكن موازنة هذا العامل بموارد البرازيل الطبيعيّة الضخمة ـــــ ففيها مساحة الأراضي الزّراعيّة الاحتياطيّة تبلغ مساحة تلك التي في الولايات المتّحدة وروسيا مجتمعةً، والمياه المتجدّدة توازي تلك المتوافرة في قارّة آسيا بكاملها، واحتياطيّ النفط يسجل أكبر اكتتاب عام أوليّ في التاريخ ـــــ وفيها الرقم القياسي المدهش، ولو كان يُخفَّض أحياناً، الذي سجلته المشاريع التي قادتها الدولة ويعود الفضل إليها في صناعتي الفولاذ والطائرات البرازيليّتين، والتقدّمات الكبيرة المحققة في الزّراعة الاستوائيّة، وعملاق النفط المزدهر. غنيّ عن القول إنّ الفرص التي تتيح تحقيق نموّ أسرع لا تقلّ عن العقبات التي تمنع حدوثه.
أيّ جردة حساب عن التجربة البرازيليّة التي انطلقت في عهد لولا، ولا تزال تتوالى فصولاً، يمكن إجراؤها الآن؟ إذا نُظر إليها كمرحلة في اقتصاد البرازيل السّياسيّ، يمكن اعتبارها قريبة من حقبة كاردوسو، أي أنّها عبارة عن نموّ تمّ ضمن المصفوفة عينها. أمّا بالنظر إليها كعمليّة اجتماعيّة، فلقد سجّلت تغييراً متميّزاً. وكانت ظروف هذا التغيير الخارجيّة مؤاتيةً بطريقة غير اعتياديّة. فقد شهدت أميركا الجنوبيّة بكاملها في تلك الفترة انتقالاً إلى اليسار، ميّزها عن أيّ بقعة أخرى من العالم. فكان تشافيز قد وصل إلى السّلطة في فنزويلّا قبل هذا الموعد بأمد بعيد، وتلته مباشرةً كيرشنر في الأرجنتين، ولولا في البرازيل. وفي السنة التالية، تولّى تاباري فازكيز، من تكتّل الجبهة الواسعة، الرئاسة في الأوروغواي. وبعدئذ، انتخبت بوليفيا والإكوادور والباراغواي على التّوالي أكثر الرّؤساء تطرّفاً في تواريخها. وما يكمن وراء هذا الاستثناء الشّامل ميزتان بارزتان للمنطقة. فإليها، وتحت إشراف شيكاغو وهارفرد، أُدخلت اللّيبراليّة الجديدة للمرّة الأولى، وطُبّق علاج الصّدمة من خلال بينوشيه في تشيلي، وسانشيز دو لوزادا في بوليفيا، وتخطّت الخصخصة على يد منعم في الأرجنتين تلك التي أُجريت في روسيا.
ولكن هنا أيضاً انطلقت الثورة الشّعبيّة الأولى ضدّ الليبراليّة الجديدة، في أحداث كاراكاس التي جرت في شباط/ فبراير 1989، وقادت إلى نهاية النظام القديم في فنزويلا. على الصّعيد الاقتصادي، نادراً ما ألُغيت معالم حقبة اللّيبراليّة الجديدة (تشكّل فنزويلّا الاستثناء لأنّها لم تُفرض فيها بنجاح في الأساس). لكنّ هذه المعالم لم تكُن يوماً شعبيّةً، وفقد مهندسوها صدقياتهم السّياسيّة، وهو أمر أفلت منه نظراؤهم الشماليون الذين لم يلحق معظمَهم أيُّ أذى حتى اليوم من جراء أزمة 2008. وهنا برزت ميزة المنطقة الثانية. فأميركا اللّاتينيّة هي الجزء الوحيد من العالم الذي أنتج قرناً من الثائرين المتطرّفين ضدّ النظام القائم، قرناً يمتد في تسلسل متواصل نوعاً ما من الثورة المكسيكيّة في 1910. لقد اتّخذ هؤلاء الثوار في فترات مختلفة أشكالاً مختلفةً، إلّا أنّ قوّة دفعهم الكامنة كانت نفسها تقريباً، وقد تقطعت لتتواصل من جديد بالرّغم من جميع أنواع القمع والانحراف: عصيان مسلّح في السلفادور والبرازيل في العشرينيات من القرن الماضي، وجبهة شعبية في تشيلي، وثورة فلاحين في البيرو في الثلاثينيات؛ يعقوبيّة عسكريّة في الأرجنتين في الأربعينيات؛ ميليشيات عمّالية في بوليفيا، ومصادرات في غواتيمالا، وثورة في كوبا في الخمسينيات؛ حرب عصابات من كولومبيا إلى الأوروغواي في السّتينيات؛ نصر في الانتخابات في تشيلي، وفي الشّوارع في نيكاراغوا في السّبعينيات؛ حروب أهليّة في أميركا الوسطى في الثمانينيات؛ سقوط الأوليغاركيّة في فنزويلّا في التّسعينيات. فيمكن القول إنّ الحصاد الانتخابيّ في القرن الجديد هو تبدّل أثمرته التّربة عينها.
قاسى الجيل الذي وصل إلى الحكم في هذه الفترة نوعين من الهزائم: واحد من الديكتاتوريّات العسكريّة التي سحقت اليسار في أعقاب الثورة الكوبيّة، والثاني من أنظمة السّوق الحرّة التي كانت في جزء منها ثمن الدمقرطة، وفي جزء آخر نتيجتها. فشكّلت هاتان الهزيمتان إرثاً واحداً. واستُبعدت الأشكال القديمة للتطرّف السّياسي أو الاقتصاديّ تلقائياً عبر تعاقب هاتين الهزيمتين، لكن لم يحدث اعتناق فعلي كبير للأنظمة اللّيبراليّة الجديدة التي مهّد لها الطريقَ الجنرالاتُ. وعندما انتهى عهد هؤلاء الجنرالات، احترم الحكام الذّين خلفوهم على نحو براغماتيّ القواعدَ التي فرضوها، إلّا أنّهم عجزوا تماماً عن نسيان ذكريات ماضٍ أكثر تمرّداً، والولاءات التي تبددت معها، ولا حتّى عن التغاضي عن جمهور النّاخبين المستبعَد من النظام الجديد. شكلت فنزويلّا الاستثناء، فهي لم تختبر قطّ ديكتاتوريّةً عسكريّةً في خلال مدّ الثورة المضادّة القارّية العالي، ولا استقراراً ليبراليّاً جديداً في نهضتها ـــــ كان هذان النّقصان وثيقَي الترابط ـــــ فقد عمل تشافيز في ظروف أخرى محدّدة بدرجة أقل من ظروف سواه.
أمّا البرازيل، من جهة ثانية، فيمكن اعتبارها مثالاً على النمط العام. ففي المرحلة الأعظم من تاريخها، انعزلت عن باقي أميركا اللّاتينيّة بفعل لغتها وحجمها وجغرافيّتها. فحتى أواسط ستّينيات القرن الماضي، كان المفكّرون البرازيليون يميلون إلى زيارة فرنسا أكثر من أي دولة مجاورة. ولكن حالما تولّى الطغيان العسكريّ السّلطة، غيّرت تجارب الكفاح السريّ المشترك أو الحبس أو المنفى هذا الوضع، وأمّنت كوبا والمكسيك الملجأَين الأساسيَّين للمعنيّين. فللمرة الأولى، تواصل البرازيليّون الناشطون سياسيّاً عبر شبكة قارّية مع نظرائهم في البلدان الأميركيّة الناطقة باللّغة الإسبانيّة. ولا يزال التضامن الذي طبع تلك المرحلة يسكن المشهد السياسيّ اليوم بين حكومات اليسار، حاضناً البرازيل ضمن بيئة تكنّ لها المودة. وفي جدل إقليميّ، لطالما قدّمت التباينات بين هذه الحكومات منافعَ متبادلةً، فأمدّ لولا الأنظمة الأكثر تطرّفاً من نظامه ـــــ بوليفيا وفنزويلّا والإكوادور ـــــ بغطاء صداقة واقية، فيما أفاد، في الرأي العام الدوليّ، من مقارنة صبّت لمصلحته، بين توسّطه وتطرّف تلك الحكومات.
في الفترة عينها، كان السّياق الدوليّ تجاه البرازيل حميداً بقدر ما كانت عليه البيئة الإقليميّة. فمن جهة، خسرت الولايات المتّحدة موقع مركز الثقل كحاكمة القارة المطلَقة حين أعلنت الحرب على الإرهاب في الشّرق الأوسط وأبعد منه. ومع احتلال العراق وأفغانستان واليمن وباكستان ومصر مواقع على الخطّ الأماميّ من الاستراتيجيّة الأميركيّة، لم يتوفّر إلّا القليل من الاهتمام الذي يمكن إيلاؤه للنصف الآخر من الكرة. لقد قام بوش بزيارة غير مهمة لبرازيليا، وأوباما أيضاً. لكن لا يظنّن أحد أنّ هذه الزّيارة كانت أكثر من زيارة احتفاليّة. فقد صدئت الآليّات التقليديّة للإشراف على شؤون البرازيل التي كانت تعمل في أيّام كاردوسو. ولم تكُن البعثات العسكريّة إلى الشّرق في العقد الماضي هي وحدها التي أمالت دفة العلاقة بين هاتين الدولتين لمصلحة البرازيل، بل أيضاً الفقاعة الماليّة التي سبقت البعثات ورافقتها. وعندما أصبح الاقتصاد الأميركي معتمداً على حِقَن متزايدة باطّراد من الأموال الزهيدة ـــــ أوّلاً في عهد كلينتون ثمّ بوش، من خلال معدّلات فائدة منخفضة جداً، والآن في عهد أوباما كذلك بفضل طباعة الدولار ـــــ بات رأس المال الخارجيّ اللّازم للحفاظ على نموّ الاقتصاد البرازيليّ متوافراً أكثر فأكثر، وبكلفة تزداد زهداً. إن كان تدفّق الدولار الأميركيّ اليوم يعرّض الرّيال البرازيليّ لخطر السّحق، فهذه مجرّد إشارة منحرفة أخرى إلى التبدّل في وضعيهما على التّوالي. فبالنّسبة إلى البرازيل، كان العامل الأكثر حسماً هو تصاعد الصّين كقوّة اقتصاديّة موازنة لها، وكالسوق الرّئيسيّ لأبرز منتجَين تصدرهما، وكدعامة لميزانها التّجاريّ. لقد أثّر ازدهار الصّين الطّويل الأمد عمليّاً في كلّ جزء من العالم، لكن يُقال إنّ البرازيل هي البلد الذي أحدث فيه هذا الازدهارُ التّغييرَ الأكبر. إذ تراجعت الولايات المتّحدة وانتعشت جمهوريّة الصّين الشّعبيّة، فتحت الرّياح ممراً يقود إلى اتّجاه اجتماعيّ جديد.
تبقى الآن نتيجة ذاك التبدّل غير محسومة، فما من شكّ أنّ إعتاقاً ما قد حدث. ولكن هل من الممكن أن يقدم التاريخ البرازيليّ أوجه تشابه بين مراحل منه على نحو مقلق؟ ففي أواخر القرن التاسع عشر، أُبطل الاسترقاق في البرازيل عمليّاً من دون إراقة نقطة دم، بعكس المذبحة التي رافقت نهايته في الولايات المتّحدة، من دون أن تكون حتّى مقصودةً في الأصل. ولم تكُن الكلفة البشرية هي الوحيدة المنخفضة، بل أيضاً الكلفة بالممتلكات لأنّ الإعتاق حصل في مرحلة متأخرة، عندما كان عدد العبيد يتضاءل، وصارت الحركة الاقتصادية المرتبطة بالاسترقاق في مراحل متقدّمة من التراجع. فلم يكن هذا الإعتاق مسألة ارتبطت بالنخبة حصرياً، بل اتّخذت عملية إبطاله شعبيّاً العديد العديد من المبادرات المبتكرة لوضع حد له. لكن عندما تم الإبطال، لم يصب كلّ أسياد العبيد بالإفلاس، ونال العبيد الحريّة القانونيّة وحدهم. على المستوى الاجتماعي، كانت مفاعيل الإعتاق اللاحقة متواضعة: فقد ازدادت هجرة العِرق الأبيض من أوروبا بشكل أساسيّ.
بعدما أُجريت التغييرات اللازمة، هل من تشابه بين ما جرى وبرنامج الرّعاية الاجتماعيّة بولسا فاميليا والسُّلف النّقديّة والحدّ الأدنى للأجور؟ أحبّ لولا أن يقول: «الاهتمام بالفقراء مسألة زهيدة الكلفة وبسيطة». هل يدفع هذا الشّعار إلى رفع المعنويات أو الشعور بالكدر؟ قد يكمن في غموضه الأخلاقيّ نوع من نقش على ضريح عهده. لقد امتلك لولا، مقارنة بأسلافه، الخيال المولود من التماثل الاجتماعيّ، الخيال الذي جعله يدرك أنّ الدولة البرازيلية تستطيع أن تكون أكثر سخاءً مع الأفقر حالاً بطُرق أحدثت تغييرات جوهرية في حيواتهم. لكنّ هذه التنازلات لم تأتِ على حساب الأثرياء واليسيرِي الأحوال الذّين تحسنت أوضاعهم كثيراً في خلال هذه السّنوات، بكل المعايير.
إذا كان هذا مهم حقاً، يمكن طرح السؤال الآتي: ألا يجسّد ذلك أكثر النتائج الاقتصاديّة المبتغاة، أي تحقق أمثليّة باريتو (Pareto optimality)؟ ولكن إذا ترنحت سرعة النموّ، فقد تنعكس الآثار اللاحقة لهذه العملية ظروفاً يختبرها المتحدّرون من العبيد، شبيهة بتلك التي أحدثها الإعتاق. فمنذ أن اعتُمد الشعار المستوحى من أوغست كونت، والمكتوب على علم البرازيل ـــــ النظام والتقدّم ـــــ مباشرةً بعد زوال الاسترقاق، شكّل أملاً يرفرف في الرّيح لوقت طويل. تقدّم من دون نزاع؛ توزيع من دون إعادة توزيع. إلى أي مدى هذا شائع تاريخيّاً؟
بيد أنّ الوضع قد يكون مختلفاً هذه المرّة، فالعقد الأخير لم يشهد أي تعبئة للطّبقات الشّعبيّة في البرازيل. لقد وُرث الخوف من الفوضى وقبول الهرميّة اللّذان لا يزالان يفرّقان صفوف الشعب ضمن أميركا اللّاتينيّة من الاسترقاق. ومع أنّ التّحسين المادّي ليس تمكيناً اجتماعيّاً، إلّا أنّ واحداً قد يؤدّي إلى الآخر. فثقل الفقراء الانتخابيّ المحض، مقابل نطاق انعدام المساواة الاقتصاديّة المحض، ناهيك عن الظّلم السّياسيّ، كل هذا يجعل من البرازيل ديموقراطيّةً تختلف عن أيّ مجتمع في شمال الكرة الأرضية، حتّى تلك المجتمعات التّي شهدت في السابق أشدّ التوترات بين الطّبقات أو أقوى الحركات العماليّة. لقد بدأ التّناقض بين القوتَين الكبيرتَين يتطوّر للتّو، وإذا استحال التحسن السلبيّ يوماً انخراطاً فعّالاً في العمل، فستتغيّر نهاية القصّة.
* أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، عن مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» (ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)