بعد الدعم الذي لاقاه لولا من النجاح الاجتماعي الاقتصادي والنصر السياسي الكاسح، أضحت ولايته الثانية مسألة ثقة، أكثر من أيّ أمر آخر. فهو لم يصبح فقط سيّد التعاطف الشعبي من دون منازع، بحكم كونه أول رئيس يؤمّن، وإن بنسبة متواضعة، رفاه هذه الشريحة الواسعة من شعبه، بل صار يتحكم تحكماً تاماً في إدارته. وغاب وزيرا لولا الأبرز عن الساحة. فكان لا بدّ من رحيل بالوتشي، «الذي كان أكثر من أخ» بالنسبة إلى لولا، وقد يتأسف شخصياً عليه، لتهدئة أعصاب المستثمرين الأجانب. أما ديرسو، سيّد الحسابات السياسية الباردة والخداع، فهو لم يحبه يوماً، بل كان يخشاه إلى حد ما. وقد حرره إقصاؤهما المشترك، فانفرد بالحكم في برازيليا. وعندما امتُحن لولا في منتصف ولايته الثانية، واجه الامتحان برباطة جأش. فصرّح بأنّ انهيار وول ستريت في 2008 قد يكون بمثابة تسونامي في الولايات المتحدة، لكنّه لن يمثّل سوى موجة صغيرة في البرازيل، فعدّت الصحافة تلك الجملة دليلاً على جهل اقتصادي متهوّر، وانعدام حس المسؤولية. لكنّه كان محقاً.

فقد أتى التحرك المضاد للتعويض عن تأثيرات دورات الأعمال فورياً وفعّالاً. فبالرغم من تراجع عائدات الضرائب، ارتفعت التحويلات الاجتماعية، وخُفضت متطلّبات الاحتياطي، وازداد الاستثمار العام ودُعم الاستهلاك الخاص. وساعدت الممارسات المصرفية المحلية على تخطي الأزمة. فالمراقبة المشددة، وإبقاء المضاعِفات النقدية أدنى بكثير من المستويات الأميركية، واعتماد قدر أعلى من الشفافية، كلّ هذا جعل المصارف البرازيلية أفضل حالاً من الأميركية، ما حمى البلاد من أسوأ تداعيات الانهيار المالي، لكنّ سياسة الدولة القوية التي جرى التضافر لتطبيقها، هي التي حركت الاقتصاد. وكان تفاؤل لولا فعّالاً؛ فبعدما طلب من البرازيليين ألّا يخافوا، راحوا يستهلكون فازداد الطلب. وبحلول الربع الثاني من 2009، تدفّقت رؤوس الأموال الأجنبية مجدداً على البلاد، ثم انتهت الأزمة مع نهاية العام. ومع اقتراب ولاية لولا الثانية من نهايتها، سجّل الاقتصاد نمواً بنسبة تزيد على سبعة في المئة؛ حتى الطبيعة نفسها كانت تبتسم لحكمه مع اكتشاف مخزون ضخم من النفط قبالة شواطئ البرازيل.
يمكن إضافة أمجاد خارجية إلى النجاحات الداخلية تلك. فنادراً ما توافقت مكانة البرازيل الدولية مع حجمها، أو أهميتها الكامنة، بل لم يحدث هذا التوافق يوماً. فقد أقام كاردوسو علاقات مع عائلتَي كلينتون وبلير في شمال الكرة الأرضية، لكن شوّهت تلك العلاقات سمعته، ليس إلّا، إذ عُدّ ناطقاً من الدرجة الثانية باسم الطريق الثالث وخزعبلاته. ودبلوماسياً، قام المبدأ الموجّه لحكمه على الولاء للولايات المتحدة. أما لولا، فقد اتبع، منذ البداية، مساراً مختلفاً. فمن دون مواجهة واشنطن، منح الأولوية للتضامن الإقليمي، فروّج لاتفاقية ميركوسور مع جيرانه جنوباً، ورفض التقليل من اعتبار كوبا وفنزويلا شمالاً. وسرعان ما قاد سيلسو أموريم، وزير الخارجية، والشخصية الأبرز في حكومة لولا، جبهة من الدول الأكثر فقراً، من أجل التّصدي لمحاولات أوروبية وأميركية لفرض المزيد من التدابير المتعلقة بـ«التجارة الحرة» ـــــ الحرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ـــــ عبر منظمة التجارة العالمية في كانكون. وقد عبّر على نحو لائق عن الأمر قائلاً: «سيتذكر العالم مؤتمر كانكون على أنّه المؤتمر الذي شهد نشوء نظام تجاري متعدد الأطراف أقل استبدادية». ويعود الفضل الأكبر في فشل كلّ من واشنطن وبروكسل حتى الآن، أي بعد ثماني سنوات، في فرض إرادتيهما على العالم الأقل تقدماً من خلال جولة الدوحة الفاشلة، إلى البرازيل.
في ولاية لولا الثانية، دفع الرئيس بلاده قدماً نحو تفعيل دورها على الساحة الدولية. كان قد أصبح رجل دولة تحاول دول العالم أجمع كسب رضاه، ولم يعد مرغماً على الإذعان لأحكام «المجتمع الدولي»، أقلّه ظاهرياً. من جهة، يُردُّ هذا التغيير إلى ثقل البرازيل المتزايد كقوة اقتصادية، لكنّه عكس أيضاً هالة لولا الخاصة كحاكم العصر الأكثر شعبية، في المعنيين السياسي والاجتماعي للكلمة. وقد ترسخ الموقع الجديد الذي حققه لدولته من خلال إنشاء مجموعة «البريك» في 2009 التي جمعت رؤساء البرازيل، وروسيا، والهند، والصين في سفيردلوفسك، لمرة واحدة فقط، فوضعوا بياناً يدعو إلى احتياطي عملة عالمي. وفي السنة التالية، استضاف لولا قمة مجموعة البريك في البرازيل نفسها. نظرياً، تبدو القوى الأربع الكبرى خارج الإمبراطورية الأوروبية / الأميركية أنّها تحدّ على الأقل من هيمنة هذه الأخيرة، هذا إن لم تمثل خياراً بديلاً عنها. واللافت للنظر هو أنّه بالرغم من أنّ البرازيل هي الدولة الوحيدة من بين الأربع التي لا تمثّل قوّة عسكرية أساسية، فهي لغاية الآن الوحيدة التي تصدّت لإرادة الولايات المتحدة في مسألة تهمّها من الناحية الاستراتيجية: فقد اعترف لولا بدولة فلسطين، ليس هذا فحسب، بل رفض أيضاً الموافقة على محاصرة إيران، حتى إنّه دعا أحمدي نجاد إلى زيارة برازيليا. وكانت تلك الخطوة بمثابة إعلان استقلال البرازيل دبلوماسياً. فجنّ جنون واشنطن، وخرجت الصحافة المحلية عن طورها نتيجة هذا الخرق لتضامن دول الأطلسي، لكن قلّة من المقترعين اكترثت للأمر. ففي عهد لولا، برزت الدولة كقوّة عالمية. وبحلول نهاية عهده، لم تعكس شعبيته الواسعة التحسّن المادي فحسب، بل فخراً جماعياً بالبلاد أيضاً.
إذا كان هذا سجلّ الرئاسة الواضح، فكيف يُفسّر تاريخياً؟ في البرازيل تطغى ثلاث وجهات نظر متناقضة. فبالنسبة إلى كاردوسو وأتباعه، الذين لا يزالون يهيمنون على النخبة الفكرية والإعلام، يجسّد لولا تقاليد القارة الأكثر انكفائية. فحكمه هو مجرّد نوع من الشعبوية الغوغائية لقائد يتمتع بالكاريزما، ويحتقر الديموقراطية والكياسة، ويشتري عطف الجماهير بالصدقة والتملّق. في البرازيل، مثّل كلّ ذاك الإرثَ الكارثي الذي خلّفه غيتوليو فارغاس، الدكتاتور الذي عاد إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع بلقب «أبو الفقراء» وانتحر انتحاراً دراماتيكياً، بعد فضح إجرامية نظامه. وفي الأرجنتين، كان عهد بيرون أكثر تخريباً وإفساداً. ولا يقلّ نظام لولا عن النظامين من حيث التلاعب بالبشر والاستبدادية، وإن على نطاق أضيق في رأي كاردوسو، فهو «نوع من فروع البيرونية»، لكن لا يخفى على أحد عنصر ضغينة المحازب في هذا الوصف: إذ يشق على السلف كثيراً أن يحجبه نجم لولا إلى هذا الحد، من حيث التقدير الشعبي، لكن هذا التصنيف الأساسي ليس غير مألوف إذا عُبِّر عنه بعلى نحو أكثر اعتدالاً، إذ يمكن سماعه بين مَن يحترمون ذكرى فارغاس، كما بين من يكرهونه.
لكن المقارنة مع فارغاس، من دون ذكر بيرون، خاطئة من الناحية التاريخية. فالاختلافات بين أشكال حكمهما وحكم لولا جوهرية، إذ إنّ كبار ممارسي الشعبوية في البرازيل والأرجنتين لم يكونوا على هذا القدر من التشابه. فخطاب فارغاس كان أبوياً وعاطفياً، أما خطاب بيرون، فكان محرضاً وعدائياً، وقد تباينت علاقاتهما مع الجماهير، حيث بنى فارغاس سلطته على دمج عمّال، انتقلوا حديثاً للسكن في المدينة، في النظام السياسي، ليكونوا مستفيدين سلبيين من رعايته، وأنشأ قانون عمل حمائياً واتحاداً مستضعفاً من القمة. أما بيرون، فقد ألهبهم ليكونوا محاربين ناشطين ضد السلطة الأوليغارشية، وعبّأ الطاقات البروليتارية في نضال نقابي استمر حتى بعد مماته. لجأ الأول إلى صور للشعب تدمع لها العيون، فيما استدعى الآخر غضب «اللوس ديسكاميسادوس»، أي اللا ـــــ متسرولين المحليين، وإنما من دون قمصان، بدلاً من السراويل القصيرة.
لم يلجأ لولا في حكمه إلى أيّ من هذه الأساليب. فقد ارتكز ارتقاؤه إلى حركة نقابية وحزب سياسي أكثر عصرية وديموقراطية من كلّ ما تصوّره فارغاس أو بيرون يوماً، لكن إلى حين تمكنه من الفوز في الانتخابات الرئاسية في محاولته الرابعة، كان حزب العمال قد تحوّل إلى حدّ بعيد إلى مجرّد ماكينة انتخابية. وفي السلطة، لم يعبّئ لولا ناخبيه الذين هتفوا له ولم يدمجهم، كما لم تقولب أيّ أشكال بنيوية جديدة الحياة الشعبية. وكانت ميزة حكمه، في حال تميّز، التسريح. فقد نظّمت النقابات أكثر من ثلاثين في المئة من القوى العاملة الرسمية، في ثمانينات القرن الماضي، عندما جعل اسمه يجسد أبرع قادتهم. وتبلغ النسبة اليوم سبعة عشر في المئة. لقد سبق التراجع فترة ولايته، لكنّه لم يتأثر بها. حتى إنّه لم يجرِ المساس بالضريبة النقابية التي تعود في الزمن إلى التشريع المستوحى من الفاشية، وطُبقت في الحقبة الأكثر قمعاً من عهد فارغاس (استادو نوفو)، تلك الضريبة التي لطالما رأى حزب العمال بحق في اقتطاع الدولة لها وتوزيعها مستحقاتها آليةً لتقويض فعالية الاتحاد العمالي، ومثّل إلغاؤها مطلباً أساسياً في أوائل الثمانينات. ومن جهة أخرى، لم تتكرر أشكال المحسوبيات التي تميّز الشعبوية الكلاسيكية؛ فبرنامج الرعاية الاجتماعية «بولسا فاميليا» يُدار بموضوعية ومن دون أنظمة المحسوبية الضيقة، ونمط الحكم متميّز للغاية.
يتجه تفسير آخر نحو وجه شبه آخر. فأندري سنجر، العالم السياسي وملحق لولا الإعلامي في ولايته الأولى، والمفكر المستقل والمبدع، يمحور تحليلاً لافتاً لنظام لولا بشأن الحالة النفسية لفقراء البرازيل، حيث يرى أنّ فقراء البرازيل يمثّلون طبقة دون البروليتاريا، وتضم نحو نصف عدد السكان ـــــ 48 في المئة ـــــ ويدفعها انفعالان أساسيان، هما الأمل بأن تخفف الدولة من اللامساواة، والخوف من أن تولّد الحركات الاجتماعية الفوضى. وبحسب رؤية سنجر للأمور، يمثّل عدم الاستقرار تهديداً للفقراء، مهما كان الشكل الذي يتخذه: نزاع مسلح، أو تضخم في الأسعار، أو نشاط صناعي. وطالما يعجز اليسار عن فهم ذلك، يحصد اليمين أصواته للمحافظة التي يتبعها. وفي 1989، ربح لولا تأييد الجنوب الغني، لكن عندما حذّر فرناندو كولور من خطر الفوضى، كسب تأييد الفقراء فحقق نصراً مريحاً. وفي 1994 و1998، استطاع كاردوسو لجم التضخّم، ما وفّر له هامشاً أكبر من أصوات الشعب. وفي 2002، فهم لولا أخيراً أنّ البنّائين والمصرفيين ليسوا الوحيدين الذين يحتاجون إلى تطمينات بأنّه لن يقوم بأي تغييرات جذرية على نحو غير ملائم في السلطة، وإنما البائعون المتجولون وسكان أحزمة البؤس أيضاً، فهم بحاجة أكبر حتى إلى تلك التطمينات. وفي 2006، انقلبت الولاءات تماماً، إذ تخلّت عنه الطبقة الوسطى، فيما صوّتت له الطبقة دون البروليتارية بأعداد ضخمة. ويُذكر أنّ لولا حصل على 51,7 في المئة من الأصوات في جنوب البلاد، عندما ترشح للمرة الأولى إلى الرئاسة في 1989، وعلى 44,3 في المئة في الشمال الشرقي الجائع؛ أما في 2006، فقد خسر الجنوب بعدما جمع نسبة 46,5 في المئة من الأصوات، وربح الشمال الشرقي مع 77,1 في المئة.
مثّل بالتالي التوّجه الاقتصادي التقليدي في ولاية لولا الأولى، والحذر المستمر، لكن بدرجة أخفّ في ولايته الثانية، أكثر من مجرّد تنازلات لمصلحة رأس المال. فقد لبّيا حاجات الفقراء، الذين هم على عكس العمّال النظاميين، لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ضد التضخم، ويكرهون الإضرابات أكثر من الأغنياء، باعتبارها تهديداً لحياتهم اليومية. لذا بعدما خلف لولا، كاردوسو، حدّ أكثر فأكثر من التضخم، حتى فيما كان يرعى الاستهلاك الشعبي مبتكراً «طريقاً أيديولوجياً جديداً» مع مشروع يجمع بين استقرار الأسعار وتوسيع السوق الداخلي. وفي ذلك، يرى سنجر أنّه أظهر اهتمامه بمزاج الجماهير وبثقافة البلاد السياسية على نحو عام، وقد وسمهما تقليد برازيلي قديم بتجنّب النزاع، كلّ منهما على طريقته. فارغاس أيضاً جسّد تلك السمة على نحو عام إلى حين حوصر في النهاية. وبالتالي يمكن بالفعل اعتبار لولا من نواح عدّة ـــــ من حيث قدرته على إزالة الهموم المتعلقة برأس المال والعمل، واستغلال ظروف خارجية مؤاتية لتحقيق التنمية الداخلية، والتأكيد على المصالح الوطنية، والأهم من ذلك، إنشاء رابط مع الجماهير التي كانت سابقاً عاجزة عن التعبير ـــــ وريثاً فارغاس، إذ إنّه يقدّم مزيجاً قوياً من السلطة والحماية، تماماً كما فعل «أبو الفقراء» في الماضي، لكن بطرق أخرى، منحه كلٌّ من جذوره الشعبية كمهاجر معدم من الشمال الشرقي، وتعهداته الديموقراطية، التي لا تترك مجالاً للشك، شرعيةً وصداقية كمدافع عن الشعب، أكثر بكثير مما قد يملكه يوماً صاحب مزرعة غني من الجنوب، ترك الفقراء يتخبطون في بؤسهم. لم يعدّ لولا نفسه من سلالة فارغاس. فالرئيس الذي تماثل معه كان كوبيتشك، باني برازيليا، ومتفائل آخر لم يصنع لنفسه يوماً عدواً بملء إرادته.
لكن بالنسبة إلى سنجر، تأتي المقارنة بحاكم أكثر شهرة في مكانها. ألم يكد لولا أن يصبح روزفلت البرازيل؟ تجسدت عبقرية فرانكلين د. روزفلت في تبديل المشهد السياسي من خلال مجموعة إصلاحات رفعت في النهاية ملايين العمّال المحتاجين والموظفين الغارقين في الضيق، من دون ذكر الذين خسروا وظائفهم نتيجة الكساد، إلى صفوف الطبقة الوسطى في أميركا ما بعد الحرب. وأي طرف يطلق حركية اجتماعية نحو الأعلى، وعلى نطاق مماثل، سيسيطر على الساحة السياسية وقتاً طويلاً، كما فعل الديموقراطيون في خضم «الصفقة الجديدة»، مع العلم أنّ المعارضة ستتأقلم في نهاية المطاف مع التغيير، وستنافس من المنطلق ذاته، كما فعل أيزنهاور في 1952. وإذ قام لولا بتغييرات مماثلة، يمكن إظهار تشابه دقيق بين انتصار لولا عامي 2002 و2006 وانتصار روزفلت عامي 1932 و1936: أغلبية ساحقة في البداية، يليها انهيار ناتج عن تصويت الطبقات الشعبية بكثافة للرئيس، فيما انقلبت الطبقات الأعلى ضده. فمن المتوقع أن تشهد البرازيل دورة سياسية طويلة بالقدر نفسه، تحرّكها ديناميات الارتقاء الاجتماعي عينها.
لا يُعدّ البحث عن أوجه شبه مع فرانكلين د. روزفلت أمراً جديداً في البرازيل. فقد أحب كاردوسو أيضاً أن يقارن مشروعه بمشروع الحلف الديموقراطي الجامع في الشمال. وقد يقترب لولا أكثر من الذي يُشبَّه به، لكنّ التناقضات بين الصفقة الجديدة وإدارته لا تزال واضحة. فقد أُدخلت إصلاحات روزفلت الاجتماعية بضغط من الأسفل، في موجة من الإضرابات المتفجرة وانتساب متزايد إلى النقابات. ومثّل العمال المنَظمون ابتداءً من 1934 قوة هائلة اضطر إلى تملقها بقدر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. في المقابل، لم يلقَ لولا دعماً ولا تحدياً من أي نضال صناعي مماثل (كان الريفيون الذين لا يملكون أراضي وقاموا بهذه المحاولة ضعفاء جداً، وهُمّش تحركهم بسهولة). وفيما واجه روزفلت كساداً كبيراً لم تتخطّه الصفقة الجديدة فعلياً، ولم ينقذه من فشلها إلا اندلاع الحرب العالمية الثانية، واجه لولا ذروة ارتفاع أسعار السلع في فترة من الازدهار المتزايد. وفيما اختلف حظّاهما، تباين أسلوباهما تبايناً تاماً: فالأرستقراطي الذي أبهجه بغض أعدائه له، والعامل الذي لم يرد استعداء أيّ كان، لا يمكن أن يكونا على قدر أكبر بعد من التناقض. ولو أتت نتائج حكميهما النهائية متطابقة تماماً، لبدت العلاقة المباشرة بين الأسباب والنتائج ضعيفة.
مع ذلك، ثمة وجه شبه ما في نقطة معينة. فحدّة العدائية تجاه روزفلت في الدوائر المحافظة، حتى اندلاع الحرب لم تكن متناسبة قط مع السياسات الفعلية لإدارته. وكيفما بدت الأمور، يمكن القول إنّ الخلل نفسه حصل في البرازيل، حيث لم يُقابَل كره لولا للنزاع بالمثل. فمَن يكوّن انطباعاً معيناً عن حكومته من الصحافة الأجنبية المعنية بشؤون الأعمال، قد ينصدم مما تنقله الصحافة المحلية. فمنذ البداية تقريباً، عبّرت كلّ من مجلّة «ذا إكونومست» وصحيفة «فاينانشال تايمز» عن إعجابهما بالسياسات المراعية للسوق والمواقف البنّاءة اللتين تميز بهما عهد لولا، ولطالما قابلتاهما بغوغائية نظام تشافيز في فنزويلا وانعدام مسؤوليته: فرجل الدولة الذي وضع البرازيل على مسار ثابت نحو الاستقرار الرأسمالي والازدهار، يستحق كل ثناء، لكن قارئ صحيفتي «فولها» و«استادو»، فضلاً عن مجلة «فيغا»، كان يعيش في عالم مختلف. فبحسب ما يرد عادة في مقالاتها، كان يحكم البرازيل حكماً سيئاً ديكتاتور فظ، ومدّع لا يفهم بتاتاً المبادئ الاقتصادية، كما لا يكنّ أدنى احترام للحريات المدنية، ويمثّل تهديداً دائماً للحرية والملكية على حدّ سواء.
لم يكن لدرجة الحقد الموجهة ضد لولا أي علاقة تقريباً بما كان يقوم به فعلياً، إذ خبّأت وراءها ضغائن أكثر وأكبر. فقد عنى نظامُ لولا بالنسبة إلى الإعلام فقدانَ السلطة. منذ 1985وانتهاء الحكم العسكري، كان أصحاب وسائل الإعلام والتلفزيونات يختارون فعلياً المرشحين ويحددون نتائج الانتخابات. والقضية الأشهر كانت دعم إمبراطورية غلوبو للرئيس السابق كولور، ولم يكن تتويج الصحافة لكاردوسو حتى قبل أن يترشح، ليقلّ عنها إثارة للدهشة، لكن علاقة لولا المباشرة مع الجماهير كسرت تلك الحلقة، فأقصت الإعلام ودوره عن قولبة المشهد السياسي. فللمرة الأولى، لم يكن الحاكم رهن أصحاب المؤسسات الإعلامية، وقد كرهوه لذلك، لكن ضراوة الحملات اللاحقة ضد لولا ما كانت لتستمر لوْلا وجود جمهور متعاطف معها، وقد تمثّل في طبقات البلاد الوسطى التقليدية، المتمركزة على نحو أساسي، لا حصراً، في المدن الكبيرة، وبخاصة ساو باولو. لم يكن سبب العدائية داخل تلك الطبقة فقدان سلطة لم تملكها قط، بل فقدان منزلة معينة. فالرئيس الحالي كان عاملاً سابقاً غير متعلم اشتهر بلغته الركيكة، ليس هذا فحسب، بل كانت الخادمات والحراس والمستخدمون والرعاع على أنواعهم أيضاً، يحصلون، في عهده، على سلع استهلاكية بقيت مخصصة قبل ذلك للمثقفين، فراحوا يسرفون في الغرور في حياتهم اليومية. وقد أزعج ذلك الكثيرين من الطبقة الوسطى: فارتقاء النقابيين والموظفين الحكوميين يعني انحدارهم في العالم، ما سبّب ظهوراً قوياً لـ«رهاب الشياطين»، وهي التسمية التي استخدمها الصحافي والناقد الجريء، إيليو غاسباري. فأدّى امتزاج الغم السياسي، الذي يشعر به أصحاب المؤسسات ورؤساء التحرير، مع الضغينة الاجتماعية، التي تسيطر على القرّاء، إلى ظاهرة تتصف بمرارة غريبة في معظم الأحيان، هي ظاهرة المعاداة لنظام لولا، التي تتعارض وأيّ إدراك موضوعي لمصلحة الطبقة.
* أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، عن مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» (ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)