تتحرك الطائفية السياسية عبر نشاط منظوماتها وآلياتها الداخلية في الدولة والمجتمع. حركتان متداخلتان تبدوان على تناقض كبير، وهما ليسا كذلك: الأولى، أنّها تتحرك كالمدحلة الفالتة، فلا تكتفي بتدمير ما هو قابل للتدمير وفي متناولها، بل تطاول كلّ العلامات والرموز والبُنْىات المادية والمعنوية المناقضة في العمق لطبيعتها الرجعية تاريخياً والهدامة مجتمعياً. الحركة الثانية، هي أنّها تدور وتناور على شتى الجبهات، لتصفيح صبوات أنصارها وأوهامهم وتحويلها إلى أهداف وشعارات مغلفة باللفظ الوطني والديموقراطي أحياناً. لكنّها تدافع بكل استماتة عما تسلبه من حقوق ومحوزات الطوائف الأخرى، وتعدّه استرجاعاً لمسلوبات حدثت في الماضي. لعل أخطر ما في هاتين الحركتين هو استهدافهما لرموز وبُنْىات مادية ومعنوية، ذات مضامين توحيدية مضادة للتفريق والاستقطاب الطائفي، ضمن دائرة ما يسميه بعض علماء الإناسة والاجتماع «رأس المال الرمزي». هنا قراءة تحليلية في مثال طازج من العراق. بعد أسابيع على تسيير تظاهرات حاشدة في قضاء سامراء ذي الأغلبية العربية السنية، رفضاً لمحاولة استيلاء الوقف الشيعي العراقي على ضريح ومرقد الإمامين العسكريين هناك، وهما تحت إشراف وإدارة الوقف السني، منذ سنين طويلة، وبعد ما قيل عن قيام متنفذين من الشيعة بعمليات شراء «غير طبيعية» لأراضٍ واسعة محيطة بالمرقد، أقدمت القوات الحكومية التابعة لـ«قيادة عمليات بغداد» على اقتحام مرقد الإمام ـــــ أو السيد ـــــ إبراهيم بن علي. ومنعت تلك القوات الأهالي من العرب السنة من زيارة الضريح ودفن أمواتهم أو زيارة قبورهم فيه، كما اعتادوا أنْ يفعلوا، منذ مئات السنين، جنباً إلى جنب مع مواطنيهم الشيعة. السيد إبراهيم هو أحد أبناء الإمام علي الهادي، عاشر أئمة المسلمين الشيعة الاثني عشرية، وكان مرقده على الدوام رمزاً من رموز التواصل «الضد طائفي» والتوحيد المجتمعي، بين أكبر طائفتين دينيتين في العراق. فكان يوحّد الأهالي بغض النظر عن انحدارهم الطائفي، في المناسبات الحزينة والسعيدة. كان مرقد السيد إبراهيم يقوم بالدور البناء والإيجابي ذاته الذي قام به طوال قرون مرقدا أبيه وعمه في سامراء، حتى حلّت كارثة الاحتلال الأجنبي والإفرازات السياسية والاجتماعية والسياسية التي جاء بها ومنها ظاهرة الطائفية السياسية والإرهاب التكفيري والطائفي الذي فجر المرقد في نهاية المطاف، لتندلع موجة مرعبة من الاقتتال الطائفي.في نهاية 2004، أقدم مسلحون من تنظيم القاعدة على تفجير المرقد، فبكاه العرب السنّة قبل الشيعة، ولكنّهم توقفوا جميعاً عن زيارة أطلاله أو دفن موتاهم في المقبرة القريبة منه، لأنّ التنظيم لم يكتفِ بتفجير المرقد، بل أهدر دماء كلّ من يقوم بتلك الطقوس والممارسات التي عدّها «جاهلية لا يقوم بها إلا مشركٌ أو كافر». ثم حلّت نهاية نفوذ تنظيم القاعدة العسكري والمجتمعي، في تلك الأرجاء، وحُرِّر مرقد السيّد إبراهيم والمناطق المحيطة به. غير أنّ تطورات أخرى كانت على وشك الحدوث، لتقطع تلك السيرورة الاجتماعية الطبيعية والمتساوقة مع التراث العلائقي العميق، بين مكونات المجتمع العراقي المتنوع.
لجأت سلطات بغداد إلى تكليف قوات عسكرية تابعة لقيادة «عمليات بغداد» القيام بتلك المهمة، ولم تُنَطْها بالقوات المحلية التابعة لمحافظة الأنبار، وهذا بحد ذاته انتهاك سافر للدستور ، ولشكل العلاقات بين المركز والمحافظات والأقاليم الاتحادية. السلطات المركزية لم تقرر بعد ضمّ المرقد إلى الوقف الشيعي، ولكنّها في طريقها إلى فعل ذلك. وبعض وجهاء الأنبار قالوا لوسائل الإعلام إنّ لديهم معلومات تؤكد أنّ السلطات المركزية تريد ما هو أكثر من ذلك، هو أنْ تقتطع تلك المنطقة من ناحية الكرمة شرق الفلوجة، وتضمها إلى منطقة الشعلة «ذات الأغلبية العربية الشيعية»، والتابعة لمحافظ بغداد الكبرى.
من الواضح أنّ المهيمنين سياسياً وأمنياً، وهم من الأحزاب الإسلامية الشيعية ذات التوجهات والخلفيات الطائفية المتباينة الشدّة والوضوح، يسعون إلى انتزاع كلّ ما يمكن انتزاعه من مراقد وأضرحة ومؤسسات دينية مصنَّفة شيعية كان يُديرها الوقف السني، وقد نجحوا في ذلك في أماكن عدّة. لكنَّ هؤلاء، وهم يستعيدون ما يظنونه حقوقاً لطائفتهم، يقومون في الوقت نفسه بتدمير آخر الرموز والعلامات الدالة والمؤسِّسة للتعددية المجتمعية الدينية والقومية العريقة، واستكمال مشروع التطهير الطائفي والعرقي «الهادئ» لدفن تلك التعددية. من الطبيعي أنَّ الفعل التدميري على الأرض لا توقفه أو تُقَنِّعه الخطابات والمسميات الوطنية الرنانة التي يتسلح بها الطائفيون الشيعية أو غيرهم، لكن قد تعطيه شيئاً من «المشروعية المنطقية الزائفة» التي تلخصها عبارة «هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا». ولكنّ أحداً لم يتساءل حتى الآن عن ثمن هذا الاسترداد، وهل هو ثمن طبيعي أم أنّه مستقطع من «لحم» الوطن الواقعي والتاريخي وتراثه الذي لا يزال حيّاً يناهض مشاريع التطييف والشرذَمة.
لم تخرج ردود الأفعال على هذه الممارسات عن دائرة التشنج، والسطحية المختلطة بالأسباب المادية المتعلقة بالعوائد والإيرادات القادمة من إدارة تلك المراقد.
إنّ عملية التطهير والفرز الطائفي التي تنشط الأحزاب الإسلامية الشيعية لإنجازها، تختلف نوعياً عن عملية التطهير والفرز القومي التي أنجزتها، أو كادت، الأحزاب القومية الكردية بهدوء في المناطق التي تخضع لسيطرتها. هاتان السيرورتان للتطهير والفرز هما أخطر ظاهرتين سلبيتين أفرزهما واقع الاحتلال الأجنبي ومشروعه السياسي المعبَّر عنه بنظام حكم المحاصصة الطائفية والعرقية، على أرضية ما يسمونه «العملية السياسية». ولكن هل يطعن وجود السبب المادي والمالي في مشروعية الدفاع عن تلك الرموز التوحيدية المجتمعية، في وجه المدحلة الطائفية المقابلة؟ طبعاً لا، لكن سيكون من المفيد تزويد هذا الدفاع بعمقه الوطني والديموقراطي المفتوح على شبكة الأهداف العامة للحركة الوطنية الديموقراطية العراقية التي طال انتظار ظهور قطبها الحقيقي. ولعل طول الانتظار يرتبط بالنوعية المرتجاة لهذا القطب بأنْ يكون متمايزاً ومنفصلاً ومختلفاً عن الكيانات والأحزاب السائرة في سياقات العملية السياسية الاحتلالية التي ارتكبت بحق شعبها أكبر الخطايا والآثام السياسية عبر تبنيها عملياً لخيار الحرب والاحتلال لإسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية أولاً، وباصطفافها مع المشروع الاحتلالي منذ بداياته في «مجلس الحكم» السيئ الصيت، وما جاء بعده.
إنّ مطلب وضع كافة المرافق والأوقاف والنشاطات المالية للمرجعيات الدينية تحت الإشراف المباشر والعلني لمؤسسات الدولة، سيبقى مطلباً صحيحاً، ولكنّه ليس آنياً وعاجلاً، فهو لا يتقاطع أو يتناقض مع ضرورة الدفاع عن وجود رموز التواصل والتوحيد المجتمعي ومثالهما في مراقد أئمة المسلمين الشيعة التي يجب أن تبقى كما كانت، في عهدة الأوقاف السنية، مثلما يجب أن تبقى مثليتها السنية في عهدة الوقف الشيعي، إنْ وجدت.
ليس لدينا أيّة أوهام في هذا الصدد، فمن المنتظر والمتوقع أنْ تقيم الأطراف والمرجعيات الدينية الدنيا، ولا تقعدها، لمجرد التلويح بوضع ثرواتها ومواردها المالية الضخمة تحت إشراف الدولة وسلطات الضرائب، ولا جديد في هذا الصدد، فقبل أكثر من قرن كتب ماركس ما معناه: «إنّ الكنيسة يمكن أنْ تكون مستعدة لمناقشة مبادئ الإيمان الكنسي الثلاثة والعشرين كلّها، ولكنّها غير مستعدة أبداً لمناقشة إمكانية حجب أو استقطاع 1% من ثرواتها ومواردها المالية من قبل أيٍّ كان!».
إنّ الوقوف في وجه المدحلة الطائفية السياسية اليوم بهدف إنقاذ رموز التوحيد والتواصل الوطني والمجتمعي له الأولوية. أما تنفيذ سياسة ديموقراطية حيادية فعالة في التعامل مع الكيانات والمرجعيات الدينية والطائفية فيمكن أنْ يكون أحد أهم أهداف مرحلة ما بعد جلاء الاحتلال واستعادة الاستقلال الوطني الحقيقي، وكنس حكم المحاصصة الطائفية واستبداله بنظام ديموقراطي علماني متين.

* كاتب عراقي