ليست الثورة حدثاً يتمّ في «يوم وليلة» على قول وردة الجزائريّة. وعلم الثورات يفرض التأني في دراسة المتغيّرات الهائلة في العالم العربي وتقويمها. لو أنّ الإعلام العربي (السعودي والقطري المُحتكِر) حرّ، لكنّا استوعبنا حجم ما يجري أمام ناظرينا. المسيرة بدأت، ومن المُبكّر الحكم عليها. نستطيع أن نجزم بأنّ أيّ انتفاضة تحافظ على أيّ نظام عربي (أو على المشير طنطاوي) ليست ثورة. قد تكون هبّة أو انتفاضة. لكن المسيرة (والبوصلة هي في تونس ومصر) مُستمرّة، ولم تهدأ بعد. حجم الأخطار التي لحقت بإسرائيل جراء سقوط مبارك، دفعت بالإدارة الأميركيّة إلى التدخّل السريع (علناً وسرّاً) لإجهاض حق تقرير المصير الشعبي. والسعوديّة، بالنيابة عن مجلس التعاون الخليجي الذي يرعى النظام العربي الرسمي، تعبّر عن ضيق شديد من سرعة انتقال الانتفاضات من دولة إلى أخرى. يكفي أن تلاحظ أنّ الملك الأردني وزوجته المحبوبة في المنتديات البورجوازيّة الغربيّة، امتنعا عن حضور «دافوس» هذا العام، وهو بمثابة الحجّ. والملك لم يأتِ في زيارته السنويّة إلى كاليفورنيا للتمتّع بركوب درّاجته الناريّة. القلق والخوف من الشعوب سيّدا الموقف.لم تصل الانتفاضات العربيّة إلى طريق مسدود بعد. إنّها تتعثّر، طبعاً. لم ترتقِ إلى مرتبة الثورة في أي بلد عربي، لكنّها تتقدّم. هجمة الثورة العربيّة المُضادة جارية، وهي تنطلق إعلاميّاً من خلال «العربيّة» و«الجزيرة»، المتماثلتيْن هذه الأيّام. وحال الانتفاضات العربيّة لا تبشّر بالخير. والمجلس العسكري يتقمّص نظام حسني مبارك: لقد ولد في رحمه، طبعاً. يواجه المحتجّين بالقمع والبلطجيّة، ويطلق كلام التخوين ضد منتقديه. انتفاضة تونس نجحت مثل الانتفاضة في مصر في التخلّص من الطاغية، دون التخلّص من الطغيان. وأميركا، التي سارعت لإرسال مبعوثيها إلى بلدان الانتفاضات، تريد أن يؤدّي سقوط الطغاة إلى تهدئة الناس وعودتهم إلى الاستكانة مع الاحتفاظ بنظام الطغيان الذي يناسبها ويناسب مصالح حليفتها إسرائيل. وزين العابدين بن علي وعائلته، يُحاسبون بتهم مخدّرات ومما هو أقلّ بكثير من جرائم الطغيان. من الواضح أنّ مجلس التعاون الخليجي يرفض أن يتعرّض حاكم عربي لمحاكمة جديّة. تعلم أنّ الانتفاضة المصريّة تتقدّم عندما ترى حسني مبارك في قفص الاتهام في ملابس السجن التي تليق بجمال مبارك كثيراً (يبدو أنّ مبارك يدخل مؤقّتاً في الغيبوبة بمجرّد أن تزداد المطالبة بإدخاله السجن). ومحاكمة الطاغية العربي مسألة تقلق كلّ الحكّام العرب: حتى إنّ القذّافي، شبه المخلوع، وجد متسعاً من الوقت كي يضفي على مبارك صفات الفقر والتواضع. ووزير الخارجيّة الفرنسي رأى أنّ في وسعه، بحكم قصف طائراته لليبيا، أن ينطق باسم الشعب الليبي. وقد سمح للقذّافي بأن يبقى في البلاد (رغم سيل الدماء في ليبيا وإصرار الشعب الليبي على محاكمته).
ومبعوثو السعوديّة إلى المجلس العسكري في مصر يتوالون ثم يتوارون. والانتفاضة اليمنيّة مُجمّدة: الإرادة الأميركيّة والإرادة السعوديّة جمّدتاها. الحرب في جنوب اليمن مسألة «حيويّة» بالنسبة إلى أميركا، والحرب في الشمال حيويّة للسعوديّة. مطالب الشعب اليمني ورغباته وآماله إلى الجحيم. وانتفاضة ليبيا تغيّرت: بدأت انتفاضة شعبيّة على شكل انتفاضتيْ مصر وتونس، وتحوّلت بفعل حلف الـ«ناتو» إلى عمليّة عسكريّة غربيّة تقليديّة وبشعة. حتى تلك الأصوات الليبراليّة الغربيّة التي أيّدتها، تراجعت بعدما رأت عدم جدواها، ورأت مشاهد القتلى المدنيّين جراء القصف الجوّي (الطريف، أنّ مجلس الأمن في الأمم المتحدة ـــــ الناطق باسم «المجتمع الدولي» الذي تتخفّى أميركا وإسرائيل وراءه منذ نهاية الحرب الباردة ـــــ أصدر قراراً بفرض الحظر الجوّي فوق ليبيا، مع أنّ طائرات الـ«ناتو» تقصف وتجول وتختال، فهي فوق القرارات الدوليّة، على شاكلة إسرائيل). وتدخّل الـ«ناتو» (خليفة عبد الناصر، وفق التقارير الحماسيّة لها في محطة «الجزيرة») سيمنع ولادة نظام حرّ هناك. يبدو حميد قرضاي محترماً مقارنة بمصطفى عبد الناتو. وفي سوريا، ينتفض مئات الآلاف أسبوعيّاً، فيما يبقى النظام يدرس أمر تشكيل لجان، للنظر في إمكان تشكل لجان، من أجل درس موضوع تشكيل لجان للتمحيص. هو الإصلاح، على الطريقة البعثيّة. وأهل البحرين يعانون بصمت وعزلة قاتلة. ما ذنبهم أنّ الأسطول الخامس لا تطيب له الإقامة إلا في ربوعهم؟ ما ذنبهم أنّ الحكم السعودي جار لهم؟ قُمعوا دون صخب إعلامي، وبأكثر من غبطة غربيّة. الانتفاضات قرب آبار النفط هي أكثر من قدرة الغرب على التحمّل. لا يمكن الحكومات الغربيّة أن تسمح بأيّ تعبير حرّ في دول الخليج: ألم تُنشر وثائق من السبعينيات من محفوظات الخارجيّة الأميركيّة تتضمّن خططاً عسكريّة للاستيلاء على السعوديّة، إذا تعرّضت لقلاقل أو هزّات سياسيّة؟ إنّ الشعور بالإحباط يصاحبه شعور بالأمل بقدرة الشعوب على دفع الأمور نحو الأفضل، يساور الرأي العام العربي اليوم.
قيل الكثير عن التعامل السعودي مع الانتفاضات العربيّة. وقيل إنّ السعوديّة وأميركا (وإسرائيل في الخندق ذاته، دوماً) تعمدان إلى وأد الانتفاضات العربيّة. قيل إنّ السعوديّة وأميركا تقودان (بمشاركة قطريّة وإسرائيليّة طبعاً، لأنّ العدوّ يتابع بقلق شديد التغيير في مصر وفي العالم العربي) الثورة المضادة الجارية. لكنّ الأصح القول إنّ الانتفاضات العربيّة تتعرّض لثورتيْن مضادتيْن: واحدة سعوديّة وأخرى أميركيّة. نستطيع أن نبدأ التأريخ الجاري بسقوط حسني مبارك، أو في الأسابيع التي تلت سقوطه.
اختلفت الإدارة الأميركيّة مع النظام السعودي على إدارة الشأن المصري. كانت المشورة السعوديّة (اليوميّة) تكمن في إتاحة الفرصة أمام حسني مبارك للبقاء في السلطة، بأي ثمن، حتى لو استعمل ما يُسمّى في اللغة الدبلوماسيّة «القوّة المُفرطة». كان ذلك عندما أمر مبارك قوّات سلاح الجوّ بالتحليق فوق رؤوس المتظاهرين لترويعهم (وبقي رئيس أركان سلاح الجوّ الذي نفّذ الأمر في موقعه، مثله مثل سائر جنرالات الهزيمة الذين عيّنهم مبارك نفسه). كانت السعوديّة وإسرائيل تحثّان الولايات المتحدة في مكالمات هاتفيّة متوالية مع أوباما، على مدار الساعة، على تبنّي خيار الدم للحفاظ على مبارك. من المُرجّح أنّ إسرائيل والسعوديّة نسّقتا الموقف الواحد لإنقاذ مبارك (كانت استضافة قناة صهر الملك فهد، «العربيّة»، لنتنياهو ردّاً للجميل، وقد عبّر فيها الأخير عن حبّه ووفائه لمبارك ـــــ إنّ الصهاينة ـــــ عرباً وغرباً ـــــ على أشكالها تقع). لكنّ الإدارة الأميركيّة ارتأت سياسة أخرى. أخلصت لمبارك ولم تطالبه بالتنحّي، إلا بعدما تنحّى (كما طالبت زين العابدين بن علي بالتنحّي بعدما غادرت طائرته الأجواء التونسيّة). إنّ خبراء الحكومة الأميركيّة حذّروا على الأرجح أوباما من مغبّة التمسّك العنيد بمبارك، كما أراد الملك السعودي ورئيس الحكومة الإسرائيليّة. خافت أميركا على مصالحها، وأن تتضاعف الغضبة الشعبيّة العربيّة ضدّها. كما أنّها لم تكن تتمنّع حرصاً على أرواح، أو أجساد بالأحرى، الشعب المصري. لم تكن مقتنعة بقدرة مبارك على الصمود في وجه الغضب العارم. أدركت أنّ حجم الاحتجاجات واتساع نطاقها يعوقان أيّ فرصة لإسعاف مبارك. لكن هنا بدأ النهج السعودي بالانفصال عن النهج الأميركي في تدبير شأن الثورة المضادة. لا تمانع أميركا في سفك الدم العربي لإطالة أمد طاغية عربي، لكن استدامة مصالحها أهمّ (بدمّ أقلّ أو أكثر، وفقاً لكل حالة).
لم تكن السعوديّة في تاريخها لتتجرّأ على انتهاج سياسة خاصّة بها: كانت دائماً في الحرب الباردة تنفّذ ما تطلبه منها الإدارة الأميركيّة من مهمات، وكانت غالباً ماليّة لتمويل حركات يمينيّة رجعيّة في كلّ أنحاء العالم، من أميركا الجنوبيّة إلى أفريقيا، مروراً بأوروبا حيث كانت المملكة تموّل الحركات اليمينيّة في الانتخابات النيابيّة، لمنع اليسار من الوصول إلى السلطة. يستطيع الحزب الشيوعي الإيطالي أن يضيف آل سعود إلى سلسلة أعدائه الذين منعوه من الوصول الديموقراطي إلى السلطة. لكن المهمات السعوديّة تغيّرت في عهد الملك فهد: أرادت المملكة، متمثّلة خصوصاً بالأمير بندر، أن تقوم بمهمات غير ماليّة نيابة عن أميركا. لعلّ الأمير بندر زها بمجزرة بئر العبد كمثال على التحالف الاستخباري بين السعوديّة وأميركا. صحيح، هناك مثال أو مثالان عن تمرّد سعودي على الراعي الأميركي: يتحدّث ديفيد أوتاوي في كتابه عن العلاقات السعوديّة ــ الأميركيّة، عن مبادرة الأمير بندر لشراء صواريخ صينيّة بعيدة المدى. لم يرق الأمير لأميركا على الإطلاق. لكن هذه الهنّات توقّفت بعد 11 أيلول، عندما أجمع كلّ أمراء آل سعود على ضرورة الانصياع لأميركا.
حرصت السعوديّة على تجنّب الغضب الأميركي، وعلى كسب المزيد من رضى واشنطن. نعلم اليوم أنّ الولايات المتحدة كانت تعطي آراءها في كيفيّة صوغ فهم وتفسير جديديْن للإسلام. حظي التعليم الديني في السعوديّة بعناية خاصّة، وتلقّت المملكة سلسلة من التعليمات حول ما ينبغي حذفه وما ينبغي إضافته. (قطر قطعت الطريق على الكونغرس وجلبت مؤسّسة «راند» كي تنفض نظامها التعليمي برمّته). لم يكن في وارد السعوديّة مخالفة الأوامر الأميركيّة. والملك الذي كان يتمتّع بسمعة عروبيّة فولكلوريّة، بات أكثر الملوك السعوديّين طواعية بيد أميركا وإسرائيل (ولا يزال بعض منظّري 8 آذار في لبنان يحيكون أساطير عن سياسة خارجيّة مستقلّة لبندر بن سلطان، على أساس أنّ الملك الذي أنشأ مؤتمراً للحوار بين الأديان فقط لتناول العشاء في نيويورك مع شيمون بيريز، ينشغل بتحرير فلسطين). لكن سقوط حسني مبارك دقّ ناقوس خطر في مضارب آل سعود.
يجب العودة إلى كتاب قديم للأكاديمي البريطاني فريد هاليداي بعنوان «مرتزقة: محاربة الثورات في الخليج» لمعرفة طريقة تعامل الدول الاستعماريّة مع الأخطار التي تهدّد الأنظمة في المنطقة. يكفي أن تراجع ردود الفعل الغربيّة على الثورة في اليمن في 1962، وعلى ثورة ظفار من بعدها. لم تكن تلك الدول تعير أيّ اهتمام لمشاعر الرأي العام المُشتعلة في تلك المنطقة. لا، لم يتغيّر التعامل الاستعماري الغربي في السلوك السياسي الأميركي الحالي: لكن تجربة الثورة الإيرانيّة دفعت أميركا إلى بلورة ميزان خاص من أجل قياس الوقت المناسب للتخلّي عن الطاغية المُطيع. قرّرت السعوديّة في الحالة المصريّة أنّ أميركا لم تدافع عن وكيلها كما يجب. الخطة العنفيّة السعوديّة (التي عبّرت عن أشواق جمال مبارك) كانت مجازفة محفوفة بالأخطار. أرادت أميركا أن تحافظ على نظام الحكم في مصر، دون أن تعزّز الغضب الشعبي العربي ضد أميركا. السعوديّة توكّلت بالحفاظ على النظام العربي الرسمي بعد وفاة عبد الناصر، وكرّست هذا الدور عسكريّاً (بالاشتراك مع مبارك وبتأييد، باهظ الثمن، من حافظ الأسد) بعد الغزو العسكري الأميركي للمنطقة في 1990.
وكان التدخّل العسكري السعودي ـــــ الإماراتي في البحرين، نموذجاً لنهج السعوديّة المستقلّ. ليس هناك اتفاق في الروايات عن موعد إبلاغ السعوديّة لأميركا بقرار غزو البحرين. لكن السعوديّة قرّرت أنّها هي التي تقرّر مصائر السلالات الحاكمة في الخليج. وكان لافتاً أنّ كلّ دول مجلس التعاون رصّت صفوفها، ونسيت خلافاتها ومؤامراتها بعضها ضد بعض، حفاظاً على العروش. كان الاتفاق يقضي بتسليم زمام القيادة للحكم السعودي.
عندها، زال الاختلاف بين «الجزيرة» و«العربيّة». الثورة المُضادة جمعت بين مختلف السلالات. لكن حالة البحرين نبّهت واشنطن إلى سلوك جديد (أكثر إقداماً) لدى آل سعود. لهذا، حاولت واشنطن تنسيق خطة الثورة المضادة بين الدولتيْن.
اليمن كانت حالة توحّدت فيها الثورتان المضادتان: تحاول الدولتان أن تغيّرا النظام دون أن يتغيّر النظام، أي الحفاظ على النظام دون علي عبد الله صالح، ولكن مع الإصرار على عدم محاكمته. الفارق بين الثورتيْن المضادتيْن هو في كيفيّة إنقاذ النظام: السعوديّة تحاول، مهما سُفك من دماء، أن تُبقي الطاغية على عرشه. أما أميركا، فتتعامل مع الطغاة بلا عواطف: تريد الحفاظ على الطغاة المطيعين، لكن أولويّتها هي في الحفاظ على مصالحها الأبعد مدى. لهذا، رأت في تنصيب عمر سليمان (العزيز على قلب إسرائيل) حلاً مثاليّاً، بعدما فقدت الأمل في قدرة مبارك على البقاء في الحكم، لكن آل سعود يتعاملون مع حلفائهم الطغاة بكثير من العواطف (غير النبيلة). تخشى السعودية أن يؤدّي إذلال الطغاة في الشوارع والمحاكم، إلى انتقال نمط الإذلال إلى دول الخليج (هنا أهميّة الإجماع الخليجي الرسمي على قمع آل خليفة).
لكن هناك نهجاً ثالثاً في الثورات المُضادة، وهو يكمن في تلك الثورة المُضادة التي يقودها النظام المُهدّد. في الحالة السوريّة، مثلاً، نستطيع أن نتحدّث عن ثلاث ثورات مُضادة. هناك أوّلاً، الثورة المُضادة من النظام للحفاظ على السلطة، وهذا يتضمّن تضليلاً إعلامياً واختراقاً استخباريّاً. وتلك الثورة المُضادة جارية في كلّ الدول العربيّة، وهي لا تتوقّف حتى بعد سقوط الطاغية. لكل نظام عربي ثورة مُضادة تمتدّ إلى ما بعد خلع الحاكم. إنّ بلطجيّة المجلس العسكري المصري هم بلطجيّة مبارك أنفسهم. وشبّيحة النظام السوري لن يتقاعدوا عن العمل، حتى لو سقط النظام. والنظام السعودي يخوض أيضاً حرباً مُضادة (على نسق الحماسة القطرية في الحالة الليبيّة) من أجل خطف الانتفاضة السوريّة، ووضعها في سكّة السيطرة عبر حركة الإخوان المسلمين (وبعض أتباعهم الليبراليّين). أما الثورة الأميركيّة المُضادة في سوريا، فهي لا تتطابق بالضرورة مع الثورة السعوديّة المُضادة. ترى أميركا، أو تخشى من تهوّر أو خفّة أو غباء في الإدارة السعوديّة. تخشى أن يؤدّي الزخم التحريضي السعودي إلى ردّة فعل معاكسة، أو إلى خروج الأمر عن السيطرة خصوصاً في سوريا، التي تريدها إسرائيل تحت سيطرة سلطويّة حديديّة، لمنع المقاومة ضدّ احتلالها. وقد تكون السعوديّة في وارد تغيير النظام، لكن تصريحات هيلاري المُتراجعة تشير إلى قلق إسرائيلي من مضاعفات سقوط النظام.
والنهجان في الثورة المُضادة في العالم العربي يهدفان إلى الأمر نفسه: 1) منع انتشار الانتفاضات والقضاء عليها. 2) الضغط على تلك الأنظمة غير الموالية للمشيئة الأميركيّة في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي من أجل إضعافها. 3) السيطرة على الوضع في الحالة الانتقاليّة، من أجل منع تحوّل سقوط الطاغية إلى خلق نظام ديموقراطي جديد. 4) دعم الطغمة العسكريّة الاستخباريّة الحاكمة كي تمنع الزخم الشعبي الديموقراطي. 5) منع إذلال الطغاة بعد خلعهم كي لا تتسرّب أسرار مضرّة بالمصالح الأميركيّة ـــــ الإسرائيليّة، ومن أجل عدم نشر الرمزيّة الكامنة في محاكمة أو إعدام الطغاة ـــــ السعوديّة مهتمّة بهذا العالم النفسي كثيراً. 6) حماية المصالح الإسرائيليّة في المرحلة الانتقاليّة، والحرص على جعل المرحلة الانتقاليّة مرحلة دائمة. 7) إخراج وإنتاج سلسلة من التسويفات والتأجيلات لمنع الانتخابات الحرّة في دول سقط فيها الطاغية. 8) التحضير لاستخدام الإخوان المسلمين كمطيّة ضد اليسار وضد الجذريّين من الثوّار. 9) استخدام الهبات والقروض لتنصيب البعض وإقصاء البعض الآخر. 10) الإصرار على إبقاء النظام العربي الرسمي في يد آل سعود (وإسرائيل معهم). 11) التحضير للانتخابات الحرّة في حال استحالة منعها بالمال وبتطريز القوانين الانتخابيّة على طريقة الحكم الهاشمي في الأردن. 12) تغليب العناصر الرجعيّة على ما عداها في كل الثورات. 13) استخدام وسائل سريّة لتقويض إمكان بروز عناصر مقاومة في البلدان المُتحرّرة. 14) استخدام الإعلام السعودي والقطري من أجل التركيز على حالات تهم الراعي الأميركي، وتجاهل تلك الحالات التي تريد أميركا والسعوديّة أن تطمسها (مثل الأردن والبحرين وعمان والمغرب). 15) تكثيف حملات التحريض المذهبي ضد إيران وحزب الله، كي لا تتحوّل الانتفاضات العربيّة ـــــ أو كي لا تتطور ـــــ باتجاهٍ معادٍ لإسرائيل. 16) تسريع والتصالح بين الصهيونيّة والإخوان في كل العالم العربي: حتى مراكز الأبحاث المُوالية لليكود في واشنطن تصدر أصواتاً للتصالح مع الإخوان.
تمرّ الانتفاضات العربيّة في مرحلة حرجة جداً. الثورة المضادة مستعرة في أكثر من اتجاه، وإسرائيل ليست بعيدة عمّا يحصل. قلّلنا في أدبيّات اليسار والقوميّة العربيّة ـــــ حتى المبتذلة منها ـــــ من حجم التدخّل الإسرائيلي في حياتنا، وفي فرض النظام الإقليمي القمعي. صحيح أنّ النظام الإقليمي مُني بضربة قاصمة بسقوط حسني مبارك، وما تفجير أنابيب الغاز المُصدّر لإسرائيل إلا ضربة للمقولة الصهيونيّة (العربيّة والغربيّة) أنّ لا سياسة خارجيّة للانتفاضات العربيّة. حقّقت الثورة المضادة نجاحات لا يُستهان بها: من لجم الانتقادات الغربيّة ضد النظام السوري، إلى سرقة الانتفاضة الليبيّة، إلى تجميد الانتفاضة اليمنيّة، إلى وأد الانتفاضة البحرينيّة، إلى مد الدعم المالي والسياسي للطاغيتيْن في الأردن وفي المغرب، إلى مسرحة تمييع محاكمات عصر مبارك في مصر. لكن الثورة المضادة تعاني ضعفاً أساسياً: تقف ضد حركة الشعوب المتفجّرة. صحيح أنّ وصفة السيطرة التي تحدّث عنها «سي. رايت. ميلز» (الخداع والتملّق للجماهير والتسلية) تؤثّر على الثقافة السياسيّة العربيّة. والتغيير في مصر وفي تونس ألهم كل الشعوب العربيّة، حتى تلك التي لم تنتفض بعد، أو تلك التي تحرّكت بخفر شديد. كيف ستمنع الثورة المضادة انتشار وباء الانتفاضات؟ وإذا ما ارتقت الانتفاضة التونسيّة أو المصريّة إلى مرتبة الثورة الشاملة التي تطيح السلطة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، فإنّ خيارات الثورة المضادة ستضيق. عندها، سيرتفع رصيد النهج السعودي في الثورة المضادة باتجاه سفك المزيد من الدماء، وخصوصاً إذا استمرّ النظام السوري في قمعه.
نعيش لحظات تاريخيّة مؤجّلة. يخوض العالم العربي معركة التحرّر التي كان يجب أن تتحقّق بعد الاستقلال. لكن الأنظمة القائمة باعت وعوداً بتحرير فلسطين، مقابل فرض القمع الشامل. لم تتحرّر فلسطين وسقط النظام العربي الرسمي في ارتهان وتبعيّة أسوأ من حقبة الانتداب والاستعمار. هي معركة الاستقلال الثانية، غير أنّ القوى المسيطرة عاتية وفتّاكة. لكن الشعب العربي يتمتع الآن بما عاب كارل ماركس على الشعب البريطاني فقدانه: روح التعميم والزخم الثوري.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)