تعود الحالة المتردية التي تشهدها الإدارة العامة في لبنان، في الدرجة الأولى، إلى الأضرار التي تسببت فيها الحرب الأهلية. وإذا لم يصر إلى إيجاد استراتيجية شاملة تضم مجموعة من المقترحات لبدائلَ وحلول، تتناول معظم المشاكل الإدارية القائمة، فأنا على قناعة تامة بأنّ التأخير في معالجة مواضع الخلل سيؤدي إلى تفاقم الوضع بما يؤثر سلباً على استقرار المجتمع اللبناني وازدهاره، ويضعف بالتالي الثقة بالحكومة الجديدة ويحد من فعاليتها. تعاني الإدارة العامة في لبنان حالة متفاقمة من الفساد، إذ لم تشهد البلاد أيّة محاولة جديّة للإصلاح والارتقاء بالإدارة العامة منذ أكثر من أربعين عاماً! أما اليوم، فيمثل مجلس الخدمة المدنية الدائرة المسؤولة عن الموارد البشرية في الجمهورية اللبنانية، الهيئة الأولى للرقابة ضمن الإدارة. وقد قادت خطة تحديث وتحسين أداء المجلس إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات، بما فيها وضع هيكلية استراتيجية لسياسة عامة تهدف إلى تطوير عملية إدارة الموارد البشرية، وتنظيم خطة تطوير مجلس الخدمة المدنية. وقد تم استناداً إلى تلك السياسة تعديل المرسوم الاشتراعي الرقم 114، وإعادة النظر في نظام تقييم أداء الموظفين الحكوميين. ولاقى هذا المشروع النجاح في بعض الأحيان، والفشل في أحيان أخرى، إلا أنّ الحاضر الأبرز كان التدخلات السياسية على طول
الطريق.

المشاكل الداخلية

تواجه الإدارة العامة في لبنان العديد من المشاكل، وبخاصة في ما يتعلق بالفساد المنتشر بين الموظفين الحكوميين، التي تعد من أخطر المشاكل التي تواجهها الإدارة، ذلك أنّها تُظهر الانقسام بين الموظفين الحكوميين من حيث ولاء كل منهم لقيادته السياسية، بدلاً من الحرص على المصلحة العامة، إلى جانب انقسامهم السياسي، في حين أنّ المنفعة العامة هي بكل بساطة الهدف الأول للعمل الإداري في القطاع العام.
تتفوق التبعية السياسية لدى الغالبية العظمى من الموظفين الحكوميين على علاقتهم مع الدولة، إذ يرون أنّ وجودهم في الدولة ليس إلّا وسيلة لخدمة مصالحهم ومصالح السياسيين وأصحاب بعض المناصب وأنصارهم.
كذلك، حكم العثمانيون لبنان لأكثر من 400 عام، وقد عرفوا خلالها بفسادهم وعقليتهم الإقطاعية. لذا اقتصر ما نقلوه إلينا على تكريس نظام الفساد الإداري وتسليم مقاليد الأمور إلى عدد من العائلات الإقطاعية وملاك الأراضي الذين تقاسموا النفوذ على المناطق في ما بينهم.

الأسباب

أصبحت الضوابط وإجراءات المراقبة ضعيفة جداً، لأنّ لبنان لم يشهد أي تحرك إصلاحي منذ أكثر من أربعين عاماً، مما أدى إلى ترسخ البيروقراطية نظاماً جعل من الموظفين الحكوميين كسالى، يمتنعون عن تقديم الخدمات المطلوبة ضمن إطار عملهم. ويتعارض هذا الواقع مع مبدأ «الأخلاقيات الموحدة» Unified Ethics الذي يقول بأنّ مزايا المبدأ والغرض والشخصية تشكل للمدير أو للموظف الحكومي المنطلق الأخلاقي الذي يقوم عليه في تفكيره وقراراته وأفعاله.
كذلك تبيّن بعد إجراء العديد من الأبحاث، انعدام فاعلية أنظمة الضبط والمحاسبة في الإدارة، فحتى الوزارات التي يطلب منها بحسب القانون إعداد تقارير نصف سنوية في هذا الخصوص تمتنع عن القيام بذلك.
وفي الواقع، غالباً ما تكون العلاقات الشخصية للموظفين الحكوميين في ما بينهم، وعلاقاتهم مع الأطراف السياسية قوّية إلى حد تجاوز سلطة القانون بما يخدم تلك العلاقات، فيؤدي ذلك إلى ارتكابهم مخالفات جديّة للقوانين المطبقة. وهذا أمر غير مقبول أبداً، إذ يرتكب الموظفون الحكوميون، من خلال مثل تلك الممارسات، العديد من الانتهاكات للدستور والقوانين الإدارية، كما أنّه يتنافى مع مبدأ المنفعة العامة الذي يفرض التصرف وفق ما هو مناسب والالتزام بالإجراءات المتبعة.

الذرائع/ الاعتراضات

عند تدقيق مجلس الخدمة المدنية في عمل مختلف الهيئات العامة (الإدارة المركزية واللامركزية والمؤسسات العامة المستقلة)، وجد ضعفاً في التنسيق بين المديرين في القطاع العام في ما يتعلق بالهيكلية الإدارية. وكانت الذريعة هي موافقة السياسيين على الهيكلية القائمة على أنّها مؤقتة! أما الذريعة الأخرى فهي المصلحة العليا للدولة أو ما بات يعرف بـ«Raison d’Etat».
بالأسلوب ذاته، مثّل التوازن الطائفي ذريعة مناسبة، وظّفها مديرو القطاع العام والسياسيون أيضاً، بناءً على مبدأ التوزيع «6+6 مكرر» لكافة وظائف القطاع العام من الدرجة الأولى (المدير العام ـــــ المدير). وقد تمّ الاتفاق في 1989 على تقسيم كل الوظائف العامة من الفئة الأولى بالتساوي ما بين المسيحيين والمسلمين.

الضغط والمخاوف السياسية

هناك انقسام واضح وكبير بين السياسيين في الحياة السياسية اليومية في لبنان، إذ يطمح كلّ منهم من مكانه، وانطلاقاً من مصالحه الخاصة ومصالح طائفته، إلى الحصول على حصّته ضمن الإدارة دون إبداء أي اهتمام بنظام «الجدارة» (Meritocracy) في تعيين الموظفين الحكوميين أو أي اهتمام بالتوصيف / البنيان الوظيفي اللذين وضعهما مجلس الخدمة المدنية. علماً أنّه لا يجري على الإطلاق تطبيق «مبدأ فصل السياسة عن الإدارة» (Politics-Administration Dichotomy)، وهو مبدأ أوجده الرئيس الأميركي وودرو ويلسن، المعروف بـ«أبو الإدارة العامة»، ويدور حول الفصل ما بين الإدارة العامة والشؤون السياسية. يضاف إلى ذلك بروز مخاوف من طريقة التعامل مع مسألة عدم تطبيق هذا المبدأ، وتسود مثل هذه المخاوف في صفوف الموظفين الحكوميين الذين لم يتأثروا بالفساد، وبين أعضاء هيئات التدقيق والمحاسبة. وتتعارض التصرفات الصادرة عن هاتين الفئتين من الموظفين مع مبدأ الأنماط الثلاثة للمطالبة بالشرعية (Validity Claim) وهي الحقيقة والصواب والصدق، وهي مبادئ أساسية في علم الإدارة.

الحلول المقترحة   

توصي دراسات معمّقة عديدة الإدارة العامة اللبنانية بأهمية تطبيق عملية الإصلاح خطوة بخطوة والاعتماد بالشكل الرئيسي على خطط قصيرة ومتوسطة المدى. وللتوضيح، أقترح اعتماد إطار زمني من خمس سنوات، إذ علينا أن نكون واقعيين في نظرتنا إلى حقيقة أنّه إن لم تضمن الحكومة اللبنانية تطبيقاً فعالاً وواسع النطاق للتدخل المخصّص الذي توجّهه، على سبيل المثال لا الحصر، الخيارات الاستراتيجية، فلن نشهد أي تغيير يذكر. وضمن الخطة الخمسية، يجب على المعنيين اعتماد نظام فترة مكثّفة من أربعة أشهر، بدل اعتماد فترة من عشرة أشهر يتمّ تنفيذ مخططاتها على أربعة مستويات، تليها فترة مراجعة وتقييم لعملية الإصلاح تدوم لشهرين، ثم اعتماد فترة ثلاث سنوات متتالية لتغطية السنوات الخمس كي يكون بالإمكان إكمال خطة الإصلاح. وتجدر الإشارة هنا إلى نقطة إضافية، لكن مؤثرة للغاية وهي «الاهتمام»، إذ يجب على الموظفين الحكوميين والمواطنين اللبنانيين أيضاً أن يكونوا مقتنعين بهذه الخطة وأن يبدوا اهتمامهم بها، فالمواطن هو محرّك رئيسي لأنه في أغلب الأوقات من يحرض الموظف الحكومي ويدفعه نحو الفساد.
يجب أن يكون الإصلاح منهجياً، وأن يبدأ من الحلقة الداخلية ويتوسع باتجاه الخارج. وهنا يتعين على المعنيين أيضاً استخدام مبدأ المنفعة العامة لتوضيح أنّ الهدف من وراء العمل الإداري في القطاع العام هو تحقيق قيمة عامة وشاملة. إذ يجب أن تبدأ عملية الإصلاح من الداخل، وتتجه نحو الخارج بنحو تقدّمي (ما يسمى بالعملية غير القابلة للتراجع Irreversible Process).
للتوعية أهمية بالغة في عملية الإصلاح الإداري، وعلى وجه الخصوص في بلد مثل لبنان، حيث يتعين على عامة الناس أن يعوا تماماً مجريات الأمور، ويجب منح الفرصة للمواطنين كي يعبّروا عن آرائهم وأفكارهم، فتلك هي الطريقة الوحيدة التي تكفل استرجاع ثقتهم بالإدارة. ويُعرف هذا المبدأ بـ«الميدان العام» (Public Sphere)، وهو مبدأ وضع قواعده عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jurgen Habermas).  
يمكن القول بأنّ المجتمع المدني قد لعب، إلى حد ما، دوراً في المجتمع اللبناني، وعلى الأخص بعد نهاية الحرب الأهلية في 1990. ويتمثّل الدور الأساسي الذي لعبه في أنه نجح، إلى درجة معينة، في عملية إعادة تأهيل العلاقة بين المواطن والحكومة، وذلك من خلال تنفيذ المشاريع العامة. ويعد إشراك المجتمع المدني في هذا التحرك الإصلاحي على درجة عالية من الأهمية لأنّه المحيط الذي يشتمل كل مراحل الإنتاج والتبادل، ما يشكل جزءاً من القطاع الخاص ويتمتّع بمعالم واضحة تميّزه عن الدولة.
كذلك، من الأفضل والمفيد أكثر، وجود هيئة تدقيق واحدة تعنى بالإدارة العامة للموارد البشرية على كل الصعد والمستويات، وأن تكون مسؤولةً مباشرة أمام مجلس الوزراء، ويعدّ مجلس الخدمة المدنية بهيكليته وتوزيع دوائره الهيئة المخولة لأداء هذا الدور.
وأخيراً وليس آخراً، يوصى بإنشاء وزارة للإصلاح الإداري والتطوير، أو وزارة للإدارة العامة ذات حقيبة وزارية مستقلة، بما أنّ الوزارة الحالية، وهي مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، هي وزارة دون حقيبة وزارية ودون مسؤوليات تنفيذية. كذلك إعادة تفعيل وزارة التصميم حاجة ماسة، لأنّها ستؤدي دوراً محورياً وموازياً للدور الذي ستؤديه وزارة الإصلاح الإداري، إذ ستوظّف كلتا الوزارتين مجلس الخدمة المدنية، بوصفه أداةً تنفيذية فعالة.

خلاصة  

نستنتج من المشاكل والأسباب والذرائع / الاعتراضات والحلول التي ذكرناها أنّ باستطاعتنا أخيراً القول إنّ هذا المقترح يؤيد ويدعم الحاجة القصوى إلى إحداث إصلاح إداري عميق التأثير وواسع النطاق في لبنان، كما يبيّن أنّ الجهود التي بذلت سابقاً فشلت في تحقيق أيّة نتائج تذكر، نظراً لوجود مجموعة من العوامل السياسية والمؤسساتية والتطبيقية.
وإذا ما كان بمقدور الحكومة اللبنانية، بالتعاون مع كبار المسؤولين الحكوميين، وممثلي المجتمع المدني والقطاع الخاص، تحويل هذا الاهتمام نحو اتخاذ خطوات استراتيجية لتحقيق الإصلاح والتنمية، فيجب على الحكومة ألّا تفوّت عليها الفرصة المتاحة حالياً بل تستغلها بأفضل وجه.  
* باحث ومستشار في السياسات العامة،
مؤسس «المبادرة المدنية
للإصلاح العام في لبنان» (CIPRIL)