هل يحل الإسلام السياسي مكان الأنظمة التي حكمت باسم القومية والعروبة؟ وهل يمكن أن تكون نتيجة الانتفاضات التي شهدها ويشهدها العالم العربي، العودة إلى الإصلاح الإسلامي، وهي الدعوة التي شهدتها المنطقة في أوائل القرن الماضي، بعد انفراط عقد الإمبراطورية العثمانية؟ دار، في حينها، نقاش فكري بين مؤيدي اللامركزية العثمانية التي تمحورت حول ضرورة نمو حركة إسلامية وسطية، حملت العنوان الإصلاحي.
ونشير هنا إلى أنّ النزعة الإصلاحية كانت تعني التحديث الإسلامي الذي كان من أهدافه حماية الإسلام من السيطرة الغربية، متسلحة بإدراك عقلاني لوضعها وحاجاتها. أي كانت حركة شباب إسلامي ليبرالي يدرك أنّ على الإسلام أن يتغلب على قصوره الذاتي وأن يستعيد حيويته ويتولى الحكم، وهذا ما حاولت تجسيده حركة الإخوان المسلمين في مصر في 1928 على يد حسن البنا. فقد اعترضت الحركة على فساد المجتمع الذي بدأت تنتشر فيه أفكار وعادات غربية، وشجبت تغطية مشايخ الأزهر لهذا الأمر، وأعلنت موقفاً صريحاً ضد الانتداب الانكليزي. لكن السياق العام للأحداث، والتحوّلات التي جرت في مصر، كما التركيز الغربي على أهمية مصر التي تعدّ استراتيجية بالنسبة إلى أفريقيا وإسرائيل، لم يسمح لحركة الإخوان المسلمين بتفعيل حضورها الذي كثر اللغط حوله. ولم تتح للحركة الفرصة التي أتيحت لإسلاميي تركيا.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن النموذج التركي الإسلامي، وما الحراك الإخواني في مصر وتونس وسوريا، وشد الأزر الذي يلاقيه من حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، والدعم القطري من خلفه، سوى مؤشرات على محاولة تشكيل مشروع إسلامي معتدل وديموقراطي أوحت الولايات المتحدة بالقبول به، أثناء الانتفاضة في مصر. وجرى الحديث عن ذاك المشروع بعد المشاركة الفعالة للإخوان الذين ساهموا، بعد تريّث في البداية بإنجاح الثورة التي بدأها شباب ليبراليون مدربون على استعمال تكنولوجيا المعلومات، وآخرون يساريون. أما في تونس، فقد أثارت عودة راشد الغنوشي، وطرح المشاركة الإسلامية في الحكم، الاستغراب في البداية، لكنّها ما لبثت أن وجدت تبريرها في التجربة التركية العلمانية، والانفتاح الذي أنجب حزب العدالة والتنمية. وما الشروط التي نقلتها تركيا لسوريا، حول ضرورة انخراط الإخوان المسلمين في الحكم، وتعيين نائب رئيس منهم، سوى محاولة واضحة لإدماجهم في السياسة السورية، وهو الطريق السلمي المطلوب من أجل تغيير النظام.
لكن السؤال الأساسي هو: هل يمكن النموذج الإسلامي التركي أن يكون صالحاً للدول العربية المنتفضة؟ لقد اتسمت المرحلة الممتدة من الستينيات الى بدايات الألفية الثالثة باستبعاد تام لكلّ ما هو إسلاموي، عن الساحة السياسية العربية، ولا سيما في البلدان التي حكمتها فكرة القومية العربية، أي العراق وسوريا ومصر وليبيا. ربما لم يكن تطبيق الفكرة القومية متجانساً، أو ربما حادت تلك الفكرة عن المبادئ الأساسية، لكنّها واجهت معارضة إسلاموية، كانت تنظم صفوفها وتحاول اختراق الأرضية السياسية بسرية. أي عملت تلك المعارضة تحت الأرض تارة، وفوقها طوراً، ولا سيما في المعقل الأساسي للإخوان في مصر، حيث يمكننا التمييز بين حركات إسلاموية متطرفة استمدت من أفكار أبو الأعلى المودودي والسيّد قطب فكرها الجهادي المكفر لكل من لا يتفق معها، وفكر حسن البنا الذي كان مشروعه أسلامياً وسطياً. لكن السؤال الأساسي هو: لماذا توافق الولايات المتحدة والغرب عموماً، ولا سيما ألمانيا وبريطانيا، على فكرة حلول الإخوان مكان الأنظمة الحالية؟
يمكن الرجوع الى دراسات قامت بها مراكز أبحاث عربية وأميركية بعد أحداث 11 أيلول، حاولت من خلالها استبطان أفكار حول بديل للإسلام المتطرف. إذ جرت نقاشات حول الإسلام كدين دنيا ودولة، وضرورة دمج الإسلام بالديموقراطية، وإبعاد الدين عن السياسة، أي اعتماد كالفينية جديدة إسلامية. لم يتوقف السجال حول الإسلام والديموقراطية طيلة العقد المنصرم، بل جرى البحث في مفهوم الشورى، وتطابقه مع الديموقراطية، والبحث عن قوى إسلامية يمكنها أن تقود ذلك المشروع.
أما السؤال الأساسي فهو «لماذا اليوم»، بعدما أعلن الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي، أن الإسلام رأس الإرهاب بعد 11 أيلول 2001، واجتاح العراق ودمر وحدته، وانغمس في الحرب الأفغانية، وأقام السجون السرية لتعذيب الإسلاميين وحرق مصحفهم؟ لماذا اليوم بعدما قام الغرب بالتنسيق الأمني مع معظم الدول العربية، من أجل القضاء على التطرف؟ ما هي المتغيّرات التي تجعل أوباما يتوجه الى المصريين ليقول لهم «السلام عليكم»، كأنّه لا يعطي الشرعية إلا للشعب؟
تثبت الدراسات التي تناولت مصر، وموّلها الأميركيون، بلا جدال، أنّ المعارضة الأقوى في مصر هي معارضة الإخوان المسلمين، وأنّ المد الإسلامي في العالم العربي، وعلى الرغم من الموقف الغربي تجاه الإسلام، كان في تطوّر مطّرد، وأنّ اضطهاد الإسلام زاد من حدّة العداء للغرب، ولم يؤد إلى التدجين المطلوب. وتثبت تلك الدراسات أنّ الغرب سعى إلى تحقيق مصالحه، ودعم بعض الأنظمة الفاسدة والمستبدة التي قدمت له خدمات جلّى، ما ساهم في القضاء في الأثناء على الليبراليين الحاملين للأفكار الغربية، والساعين الى تطبيقها. تحوّل هؤلاء إلى ناشطين حقوقيين يقدمون تقارير لمنظمات إنسانية ـــــ سياسية غربية، فلاحقتهم في بلادهم تهمة العمالة لدى الغرب، دون أن ينالوا شرعية المشاركة في الحكم. لا يدع ذلك مجالاً للشك بأنّ الغرب لا يبحث في إعادة إنتاج غرب مثله، بل عن عالم تابع له على الصعد السياسية والاقتصادية.
هناك سؤال ينبغي أن يطرح: ما هي شروط حلول الإسلام الإخواني في السلطة في كلّ من مصر وتونس، وما هي الشروط التي تملى على سوريا في ذلك الشأن؟ لماذا يلاقي الثوار في ليبيا الدعم ومعظمهم من الإسلاميين، وبعضهم كان متطرفاً؟ هل في الأمر محاولة لإعادة توازن مع إيران الشيعية، أم تبرير ليهودية الدولة في إسرائيل، المحاطة بدول إسلامية؟
في طيّات الانتقال السريع من قتال الإسلاميين والمتطرفين، إلى إعلان موت بن لادن، يجري التأسيس لصورة إسلام جديد معتدل، شرطه الأساسي العلاقة غير المشروطة مع الغرب، ومن خلفها الطموح إلى علاقات عقلانية بالمفهوم الغربي مع إسرائيل. ربما تزامن ذاك الطرح مع بروز حزب العدالة والتنمية كفاعل سياسي على الساحة الإقليمية، هو الذي ابتعد عن الإسلام السياسي التقليدي، وأصر على اعتبار نفسه حزباً ديموقراطياً إسلامياً كالأحزاب الأوروبية الديموقراطية المسيحية، ولا سيما أنّهم مارسوا في الحزب السياسة حسب المسار العلماني. كما أنّ برنامجهم الانتخابي يفصل الدين عن السياسة، ولكن لا يعني ذلك فصل الدين عن المجتمع.
هؤلاء الإسلاميون الجدد في تركيا هم أحفاد الدكتور المهندس نجم الدين أربكان، الإسلامي الذي كان صاحب الباع الطويل في الصراع الدائم مع العسكر، حامي العلمانية، الذي وقف ضد العلاقة مع إسرائيل وطالب بإغلاق المحافل الماسونية في تركيا. انفتح أربكان على الدول العربية والإسلامية، وأنشأ مجموعة الثمانية الإسلامية. كما عمل على تنمية الصناعة والمساهمة في دعم الاقتصاد. انفتح الإخوان عليه، لكنّهم نظروا بريبة إلى أردوغان الذي استفاد من خبرة المعلم، ولا يزال يقطف ثمار انتصار خطه من 2002، حتى الانتخابات الأخيرة في حزيران 2011. هكذا حافظ حزب العدالة والتنمية على أسس النظام الجمهوري، وبعكس المؤسس لم يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية، وأعلن اتّباعه للأهداف السياسية التي رسمها أتاتورك، لكن في إطار القيم الإسلامية، نسج علاقات تعاون مع إسرائيل عسكرياً وسياسياً، وكان أول حزب إسلامي يضع يده في يد إسرئيل.
لا شك بأنّ الإخوان المسلمين هم الفريق السياسي الأكثر تنظيماً في مصر، أما في سوريا فهم ليسوا بقوة التنظيم المصري، لكن تنظيمهم يعدّ الأقوى بين التشكيلات الاجتماعية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو عن مدى تقبل البيئة السياسية في كلّ من مصر وسوريا لتولي الإخوان السلطة. لا شك بأنّ الانتقال السياسي في هذا الوقت بالذات، هو محرقة للإخوان في مصر الذين يعون هذا الأمر، فهم على غير عجلة من أمرهم، ولا يستعجلون الأمر. فهم حريصون على الانتقال الى الديموقراطية التي من خلالها يمكنهم تطوير رؤيتهم السياسية ومصالحهم، بشكل لا يتنافى مع مصالح الشعب المصري ومطالبه. لذلك لا يتحمس الإخوان لقيادة الحكم، بل للمشاركة بدون قيود في الانتخابات التشريعية، وانتخابات المجالس المحلية، فنظرتهم إلى السلطة هي نظرة تدريجية وهم معجبون بتجربة الإسلاميين الأتراك الذين استفادوا من الانفتاح في زمن الرئيس تورغوت أوزال الذي أرسى أسس الليبرالية الاقتصادية والسياسية في الثمانينيات، ما أدى الى التعددية في السياسة التركية. المسار إذاً طويل لبلوغ الهدف المنشود، مع أنّ الإخوان في مصر قد تغلغلوا في الاقتصاد منذ الثمانينيات، لكن الوضع المصري كان مختلفاً، إذ إنّ الانفتاح في عهد السادات لم يطل الأوضاع الاجتماعية ـــــ السياسية.
أما في سوريا، فإنّ الوساطة التركية التي قادها العدالة والتنمية، هدفت الى إقرار النظام بتعددية سياسية تمكن الإخوان من العمل كحزب سياسي في الداخل، وتتيح له المشاركة على قاعدة الإصلاح الديموقراطي، ما يسمح بنموهم السياسي والاقتصادي، على نحو طبيعي في البيئة السورية المحافظة. إنّ هلع النظام من خطوة تعدّ انقلاباً على الذات، وعلى تاريخ الصراع البعثي ـــــ الإخواني، دفعته إلى تبني التعددية الحزبية، لكن بشروط، أهمها منع الأحزاب الدينية، ما أجج الصراع الداخلي في الأطراف التي يتمركز فيها الإخوان المسلمون، ودعوة هؤلاء الى مؤتمرات في الخارج وفي تركيا. وطالب الإخوان، إثر ذلك، بإسقاط النظام، ما أدى الى اصطدام العدالة والتنمية بالنظام السوري. قد تكون الطريق محفوفة بالمخاطر، لكون البيئة السورية هي بيئة تعددية إثنياً وطائفياً ومذهبياً، وهي تشكل سلسلة مترابطة وممتدة من العراق الى تركيا، فالأردن ولبنان. لذلك يصعب التنبؤ بمسار الأمور، لكن الزمن السياسي قد تغير، ما يفرض تعديلاً ديموقراطياً في السياسة، يجعل من الآخر مقبولاً، لا بقوة السيف، بل من خلال التنافس السياسي الذي وحده يقرر إمكان قبول المجتمع بحكم الإخوان في مصر، أو قبولهم كحزب منافس في سوريا.
مرجع
الدكتورة هدى رزق، «الأصولية في مصر: غياب الديموقراطية أم فشل التنمية»، الفرات للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
* باحثة لبنانية