أكثر من أربعة أشهر مرّت على انتفاضة 17 شباط الليبيّة، ولا تزال القضية الأساسية لهذه الانتفاضة، وهي ازاحة ديكتاتورية نظام العقيد معمر القذافي، من دون حسم. لا شك في أنّ تعقيدات هذه القضية لا تنبع فقط من خصوصيات التشكيلة الاجتماعية ـــــ الاقتصادية للمجتمع الليبي، بل تأتي أيضاً من ارتباط واقع التناقضات الداخلية بجملة واسعة من التدخلات الإمبريالية الخارجية التي لم تكن بعيدة أصلاً عنه. وبطبيعة الحال، فإنّ تلك التدخلات لا تحفزّها مبادىء حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، بقدر ما تحفزها الشهية الى منابع النفط والغاز وأرباح الاستثمارات في هذا القطاع، لا سيما أنّ المنطقة الجغرافية للدولة الليبية مؤسسة على ارتباط اقتصادي وثيق بأوروبا الغربية عموماً.

رياح التغيير وخصوصية ليبيا

تبدو انتفاضة 17 شباط في ليبيا كأنّها ما كانت لتقوم بهذه القوة لولا المناخ الذي وفّرته كل من الثورتين التونسية والمصرية الديموقراطيتين. والحال أنّ أسباب هذه الانتفاضة هي الأسباب نفسها التي قامت عليها الانتفاضات الشعبية المختلفة في المنطقة العربية، وهي التي تتركز أساساً حول مواجهة أنظمة الاستبداد وما يرافق ذلك من مظاهر فساد وقمع شرس، وغياب للحريات مع تهميش سياسي لكلّ صوت معارض. زد على ذلك ازدياد التفاوتات الاجتماعية واتساع حدتها.
وفي الحالة الليبية، فإنّ نظام القذافي، الذي استمر اثنتين وأربعين سنة، لم يستطع خلالها فقط إزاحة وتهميش كلّ الشخصيات والقوى التي كانت تحاول معارضة حكمه البيروقراطي البرجوازي، بل أضفى على نظامه الطابع الشخصي والعائلي المغلق، إلى حد تهميش كلّ مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية.
وقد ساعدته على ذلك خصوصيات ليبيا التي تعادل مساحتها الجغرافية مجموع مساحة دول ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية وهولندا مجتمعة. وبالتالي مساحة شاسعة يسكنها نحو خمسة ملايين ونصف المليون من السكان، موزّعين على مدن وقرى (يقع معظمها على ساحل يمتد قرابة 2000 كيلومتر) متباعدة المسافات، وذلك من دون تركّزات سكانية تذكر. يضاف الى ذلك أنّ ليبيا دولة غنية، تعتمد مداخيلها على الانتاج الأحادي تقريباً: النفط والغاز.
لقد اعتمد حكم القذافي على كتائب أمنية خاصة ارتبطت به وبعائلته، كان يستخدمها نظامه بسهولة في مواجهة أو عزل أي معارضة في أي منطقة. وبغياب صناعات متعددة ومركزة، فإنّ طابع العمالة يقتصر على قطاع الحرف والبناء وقطاع الخدمات. والحال أنّ ليبيا كباقي البلدان النفطية تعتمد بنحو كبير على العمالة الوافدة. (مثلاً: كان هناك قبل بدء الانتفاضة نحو 500 الف مصري يعملون في ليبيا. عدا الأعداد الكبيرة للجنسيات الأخرى). بالطبع ليس هناك أي شكل هام من أشكال التنظيم النقابي المحلي. ينسجم ذلك مع ما يتسم به النظام الليبي من غياب لأيّ نظم من أنظمة المساءلة أو المحاسبة. ولا يغيّر من الأمر شيئاً وجود المؤتمرات الشعبية الرسمية التي شرّعها نظام القذافي، ولم تظهر يوماً بغير مظاهر كاريكاتورية ليس إلّا.

ثورة 17 شباط والمظاهر الجديدة

جاءت انتفاضة 17 شباط ردّاً طبيعياً على الاهتراء الذي وصلت اليه مؤسسات نظام القذافي، فإلى جانب استشراء فساد هذه المؤسسات المُعمّم، واستمرار أساليب القمع الذي اتبعته أجهزة القذافي، في ظل غياب الحريات العامة وغياب أدوات التعبير عنها، أخذت مظاهر الفقر وازدياد التفاوتات الاجتماعية تبرز أكثر فأكثر، وذلك منذ أواخر التسعينيات. وعلى الرغم من غياب الإحصاءات الدقيقة، فإنّ كلّ زائر مستطلع يستطيع رصد ما يتناقله الناس من ظروف حياتية صعبة. فشريحة واسعة من الشباب الذين بسن الزواج لم يجد أفرادها المنازل الكافية التي تتناسب مع الأجور التي يقبضونها بنتيجة عملهم، الأمر الذي يضطرهم الى الإقامة بعد الزواج في منازل الأهل. بالإضافة الى ارتفاع منسوب البطالة الذي يقدّره البعض بأكثر من 25 في المئة، عدا تدنّي مستوى الأجر.
نتيجة كل ذلك انفجرت انتفاضة 17 شباط التي دعت الى إسقاط النظام. واتخذت طابعاً شعبياً عاماً في بنغازي، ثانية المدن الليبية التي جلت عنها فلول كتائب القذافي، حتى وصل الأمر الى انتفاضة مناطق هامة في محيط طرابلس ـــــ الزاوية ـــــ واجهتها قوات القذافي بعنف قل نظيره.
واليوم، كل زائر للمناطق المحررة عموماً، وبنغازي خصوصاً، لا بد من أن يلاحظ جملة واسعة من التغييرات السياسية والاجتماعية على صعيد الشارع، بعدما ألّف المعارضون مجلساً وطنياً انتقالياً يقود المواجهة مع القذافي.
أوّل هذه المتغيرات هو بروز العديد من الجمعيات المدنية والأهلية تحت شتى المُسميات. وعلى الرغم من أنّ العديد منها يهدف الى العمل الاجتماعي والصحي ذي الطابع الخيري، لا يخفي البعض أنّه بصدد الإعداد لنشاط سياسي مستقبلاً. أما المظاهر الجديدة الأخرى التي يمكن رصدها فهي:
أولاً: وجود صحافة رأي عام، فتجد اليوم العديد من الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية المتنوعة بمتناول اليد، أو مفروشة في ميدان الحرية في بنغازي. فيما كان يستحيل العثور على غير صحافة السلطة عموماً، في ظل سيطرة نظام القذافي. ويؤكد البعض أنّه يوجد الآن أكثر من 65 صحيفة ومجلة.
ثانياً: إعلان الشباب عن أنفسهم بوصفهم يتعاطون الشأن العام، وهذه ظاهرة جديدة تماماً على صعيد المجتمع الليبي. وقد كانت مفاجأة لي حين شاهدت مجموعات عدّة من الشباب في ميدان الحرية، وهم يحملون منشوراتهم المستقلة ويبيعونها. كذلك تصادف في أكثر من مكان شباناً يعلنون عن أنفسهم فنانين تشكيليين أو مغنين أو موسيقيين.
ثالثاً: ثمة ظاهرة أخرى جديرة بالذكر، هي مشاركة النساء في النشاطات الاجتماعية العامة. فعلى الرغم من الطابع الإسلامي المحافظ للمجتمع الليبي، تبقى مشاركة النساء في الحياة العامة الآن ظاهرة لافتة.
وحين تطرح السؤال حول الموضوع، يؤكد بعض النساء، كما بعض الرجال، أنّ المجتمع الليبي يتميّز أيضاً بالطغيان العددي لنسبة النساء الى الرجال. وقد أشارت إحداهن الى انّ نسبة النساء تتراوح بين 55 في المئة و 60 في المئة.

التدخل الدولي والأطلسي وأسئلة الانتفاضة

مع مرور الزمن، يستمر إعلان اعتراف دول الاتحاد الأوروبي بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي ممثلاً وحيداً للشعب الليبي. فبعد الاعتراف الفرنسي والبريطاني، كرّت السبحة لتشمل دول الاتحاد الأوروبي كافة. ذلك، على الرغم من بروز تفاوتات في الموقف بين بعض هذه الدول، كإيطاليا التي لم تكن متحمّسة للضغط عسكرياً على القذافي، الأمر الذي نجد تفسيره بارتباطات رئيس حكومتها، سيلفيو برلوسكوني برأس النظام الليبي.
ويبدو اليوم أنّ الموقف الدولي بات يبحث عن مخرج سياسي يكون القذافي خارجه. ويؤكد ذلك تكرار الموقف الأميركي الذي يشدد على ضرورة خروج القذافي من السلطة. كذلك اعتراف كلّ من ألمانيا وتركيا بتمثيل المجلس الوطني الانتقالي حصراً للشعب الليبي، لا بل قطع تركيا لعلاقتها مع القذافي ونظامه.
والحال أنّ قرار المحكمة الجنائية الدولية، في 27 حزيران الماضي، القاضي بتوقيف معمر القذافي وابنه سيف الاسلام مع أحد أركان استخباراته محمد السنوسي، بتهمة القيام بجرائم ضد الإنسانية، إنما يأتي في سياق التصعيد في تطبيق قراري مجلس الأمن 1970الصادر في 27شباط الماضي، و1973الصادر في 17آذار الماضي. يقضي القرار الاول بالحظر على دخول أسلحة الى ليبيا والثاني بفرض حظر جوي فوق الجماهيرية.
من جهة أخرى، وفي الوقت الذي أتاح فيه الموقف الروسي تمرير قراري مجلس الأمن المذكورين، فإنّ موسكو تبدي تخوفها من طريقة تطبيقهما، داعية الى حلول سياسية لا عسكرية للأزمة، وإلى مصالحة وطنية ليبية، وإن من دون القذافي. علماً بأنّ الضغط العسكري لمقاتلي المجلس الوطني الانتقالي المستمر من المنطقة الشرقية، وصمودهم في مصراتة، لا بل تحسين مواقعهم فيها كما في منطقة الجبل الغربي (غرب وجنوب طرابس)، يعطي انطباعاً متزايداً حول اقتراب انهيار النظام الليبي. يعطي ذلك معنى للمبادرات الدولية والمساعي الأفريقية لحل الأزمة. مع لفت الانتباه الى انّ المعارضة مدعومة بوضوح من طائرات ومروحيات الحلف الأطلسي، والأسلحة الفرنسية التي أنزلت للمقاتلين في الجبل الغربي، تجاوزاً للقرارات الدولية. لا شك في أنّ التدخل الإمبريالي العسكري يندرج بصورة طبيعية لتأمين المصالح الملموسة للشركات الغربية، لا بل تحسين شروط عقودها النفطية الموقّعة سابقاً مع القذافي، وأيضاً الحصول على الشروط الفُضلى في مرحلة إعادة الإعمار للمدن والقرى، كما للبنى التحتية للمناطق الليبية كلعا، الأمر الذي يطرح الكثير من الأسئلة حول المصير الفعلي لطموحات انتفاضة 17 شباط في التحرر من الاستبداد والديكتاتورية، كما في التحرر الوطني والديموقراطي. هذان الهدفان لا يمكن أن يحصلا إلاّ بالارتباط بالحراك الشعبي التحرري العربي عموماً، ولا سيما بالثورتين المصرية والتونسية، بعيداً عن كل محاولات التدخل الغربي لاحتواء الثورة الديموقراطية الليبية، وحرفها عن أهدافها.

* ناشط يساري