بعد ست سنوات على توقيع اتفاقية السلام بين شمال السودان وجنوبه، استقلت «جمهورية جنوب السودان» رسمياً منتصف ليل الجمعة ــــ السبت الماضي، لتكون الدولة الـ193 في العالم. وفيما عمت الاحتفالات مدن الدولة الوليدة، احتفاءً باستقلال انتظره الجنوبيون طويلاً، كان هناك من يشارك الفرحة من خارج القارة الأفريقية. ففي واشنطن، يحتفل لوبي جنوب السودان الذي يعرف باسم «تكتل السودان» في الكونغرس بثمار جهوده طوال العقدين الماضيين لتحقيق الانفصال.
أما المواقع الإنجيلية والكاثوليكية الأميركية، فقد احتفلت هي الأخرى بالانفصال الذي سعت إليه، وساعدت الجنوبيين على تحقيقه. ويفخر البعض بأنّ دور الكنيسة سيكون الأبرز في فترة الاستقلال الأولى لعدم وجود مجتمع مدني فاعل في البلاد

مليارات ومساعدات وأسلحة



ربيكا هاميلتون *
ولدت اليوم الدولة الأجدد في العالم. لقد حصلت جمهورية جنوب السودان على استقلالها من السودان، بعد حرب أهلية دموية استمرت عقوداً، وها هم السودانيون الجنوبيون حول العالم يحتفلون بذلك، وكذلك حلفاؤهم. وهناك القليل خارج السودان، من المرجح أن يكونوا أكثر سعادة من بضعة أعضاء في الكونغرس الأميركي. هؤلاء استمروا في جهودهم وعملهم حول السودان، لأكثر من عقدين.
هذا التحالف بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، الذي عرف خلال السنوات الماضية باسم «تكتل السودان»، دفع ثلاثة رؤساء أميركيين متعاقبين إلى جعل السودان أولوية في السياسة الخارجية. «إنّه ليوم عظيم»، كما أسرّ لي دونالد باين، أحد الشخصين اللذين أنشآ التكتل، وأضاف: «إنّه نصر للمقموعين».
السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة سوزان رايس، التي ترأست الوفد الأميركي لاحتفالات الاستقلال، سمت الحدث التاريخي «قبل كل شيء تقديراً لشعب جنوب السودان»، وكذلك لقادة السودان والجنوب. وأضافت أنّه داخل المجتمع الدولي «كانت الولايات المتحدة فاعلة، مثلها مثل غيرها».
ووفق مسؤول أميركي غير مسموح له التعاطي مع الإعلام، وعمل على تلك القضايا لعقود، لم يكن الاهتمام الأميركي بالسودان وليد الحظ. يقول المسؤول: «وراء كل ما يحصل كان هناك مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين عملوا وراء الكواليس لما يقارب عشرين سنة».
يأتي استقلال جنوب السودان بعد استفتاء جرى في كانون الثاني الماضي، اختار خلاله 98.8 في المئة من المصوتين الانفصال عن السودان. اتُّفق على إجراء الاستفتاء خلال توقيع اتفاقية السلام التي أنهت الحرب بين الحكومة السودانية التي تسيطر على الشمال المسلم بأغلبه، والمتمردين المتمركزين في الجنوب الذي ينقسم سكانه بين المسيحيين والوثنيين. هو الصراع الأطول في تاريخ أفريقيا، فقد خلاله نحو مليوني شخص حياتهم بحلول نهاية الحرب في 2005.
اليوم، فيما يحتفل الجنوب، تأتي الاحتفالات ممزوجة بأخبار العنف والضحايا المدنيين في جنوب كردفان، شمالي الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان.
تكتل السودان في الكونغرس الذي يرأسه النائب باين مع الجمهوري فرانك وولف والديموقراطي مايكل كابوانو، بدأ عمله في 2005، لكنّ جذوره تعود إلى سنوات خلت.
في 1989، سافر النائب وولف إلى جنوب السودان المنكوب بالحروب، وأصبح أول مبعوث أميركي يقابل قائد المتمردين جون غارنغ. لحقه باين بعد ذلك بسنوات، وبعد عودته من رحلته إلى واشنطن، حث مجلس النواب الأميركي على إمرار قرار يساند حق جنوب السودان بتقرير مصيره. أدان الكونغرس بعد ذلك الحكومة السودانية «لحرب الإبادة التي تشنها في جنوب السودان».
لقد ساند تلك الجهود من قبل أعضاء الكونغرس تحالف نشطاء كبير، أُنشئ قبل سنوات من تأسيس حركة «أنقذوا دارفور» المشهورة. لقد استطاعت قضية جنوب السودان أن تجمع الإنجيليين إلى جانب الأميركيين من أصول أفريقية، اليهود ومجموعات النشطاء العلمانيين.
لقد كانت المحاولات الأميركية لمساندة نضال سودانيي الجنوب متنوعة. يعدد تقرير صادر عن خدمة الأبحاث التابعة للكونغرس كل ما فُعل وصولاً إلى عهد كلينتون بهذا الصدد. ومن ضمن تلك المحاولات توفير أكثر من عشرين مليون دولار من الفائض العسكري الأميركي على شكل معدات أُرسلت إلى دول الجوار السوداني مثل أوغندا، أريتريا وإثيوبيا. ويقول التقرير إنّ تلك المعدات «ساعدت في قلب المعركة التي كانت تربحها الحكومة (السودانية)» ضد متمردي الجنوب. الضغط الإضافي على الحكومة توّج في 1993، مع اعتبار السودان دولة راعية للإرهاب، وفي 1997 مع فرض عقوبات اقتصادية شاملة، منعت الشركات الأميركية من العمل في السودان.
عشية استقلال جنوب السودان، قال لي مسؤول ملف أفريقيا السابق في مجلس الأمن القومي جون برندرغاست إنّه يشعر «بالندم لأنّنا لم نستطع القيام بذلك في منتصف التسعينيات حين عملت في إدارة كلينتون». وبرندرغاست يقود اليوم معظم الجهود المتعلقة بالسودان.
نالت المساندة الأميركية لحق جنوب السودان تقرير مصيره الزخم في عهد جورج بوش الابن. قال مساعدوه إنّ الرئيس السابق، بضغط من النشطاء الإنجيليين، عدّ إنهاء الحرب في السودان «إرثاً» لسياسته الخارجية. عيّن بوش مبعوثاً خاصاً للتركيز على مفاوضات السلام التي أدت إلى نتائج في 2005.
لكن الاحتفالات باتفاقية السلام في 2005، أوهنها الصراع المستمر في دارفور. في 2003، أطلقت الحكومة السودانية حملة عسكرية شرسة لسحق المتمردين في دارفور، ومعظمهم ليسوا عرباً أو مسلمين. في صيف 2004، مررت مجموعة الكونغرس ذاتها التي ساندت لفترة طويلة جنوب السودان، قراراً يدين العنف في دارفور باعتباره إبادة.
بعد ذلك، وبمساندة تجمع نشطاء دينيين وعلمانيين، تحت راية حركة «أنقذوا دارفور»، صدّق أعضاء الكونغرس أنفسهم قانون دارفور للسلام والمحاسبة. منع التشريع ذاك البيت الأبيض من مكافأة الحكومة السودانية لأنّها وقّعت اتفاقاً مع المتمردين في الجنوب، بانتظار إيجاد حلّ للوضع في دارفور.
كذلك، قام تكتل السودان بالتعاون مع حلفائه الجدد في «أنقذوا دارفور» بتأمين ما يزيد على ستة مليارات من الدولارات على شكل مساعدات إنسانية للمناطق التي أثرت عليها الحرب في السودان، بين 2005 و2010. يفيد بنك المعلومات الخاص بالمساعدة التنموية بأنّ السودان حلّ في المركز الثالث بين متلقي المساعدات الإنسانية الأميركية منذ 2005، بعد العراق وأفغانستان.
لكن السلام في دارفور، التي بقيت في السودان بعد الانفصال، لا يزال بعيد المنال. وفق تقرير نشرته مجموعة من المنظمات غير الحكومية منذ أسبوع، شنّت الحكومة 80 غارة جوية، على الأقل، على سكان مدنيين في دارفور بين كانون الثاني ونيسان من هذا العام. بعد زيارته للمنطقة الشهر الماضي، اشتكى القاضي محمد عثمان، خبير حقوق الإنسان في السودان لدى الأمم المتحدة، من القدرة المحدودة لإيصال المساعدات الإنسانية. وأضاف أنّ بعض المهجرين بسبب العنف لم يتلقوا العناية الطبية والطعام منذ كانون الثاني.
الأزمة في دارفور ليست مصدر القلق الوحيد بعد التقسيم. في أيار، سيطرت الحكومة السودانية على منطقة حدودية متنازع عليها، هي أبيي الغنية بالموارد الطبيعية. تقول الأمم المتحدة إنّ اكثر من 100000 شخص هجروا بسبب العنف. وُقِّع اتفاق للسلام، ما سمح لـ4200 جندي إثيوبي من قوات حفظ السلام بالانتشار في أبيي تحت راية الأمم المتحدة. لكن لم يُنفَّذ الاتفاق بعد، ولا يزال مستقبل أبيي غامضاً. في الخامس من حزيران، بدأت حكومة السودان بقصف جنوب كردفان، وهي ولاية منتجة للنفط ستبقى جزءاً من السودان بعد انفصال الجنوب. المقاتلون المعادون للحكومة في المنطقة هم بأغلبهم نوبيون، وهي إثنية غير عربية ومتنوعة دينياً، شمالية لكنّها اصطفت إلى جانب الجنوبيين خلال الحرب. أعطى الرئيس البشير أوامره للجيش السوداني «بالاستمرار في عملياته في جنوب كردفان حتى تُنظَّف الولاية من المتمردين». لكن وفقاًَ للأمم المتحدة، يبدو أنّ المدنيين هم من يخضع لوطأة العملية. تقول جيهان هنري، وهي باحثة في «هيومن رايتس واتش»، إنّ الوضع في جنوب كردفان سيئ للغاية، فقد «تهجر عشرات الآلاف من منازلهم، وقتل كثيرون وتعرضوا للتشويه، كذلك دُمِّرت منازل وممتلكات». عاملو الإغاثة القليلون الذين بقوا في المنطقة، قالوا في مقابلة عبر الهاتف، إنّ الأزمة تعيد ذكريات حملة الحكومة السودانية على النوبة في التسعينيات، ما أدى إلى موت الآلاف.
العنف في دارفور، أبيي، واليوم في جنوب كردفان، يعقد استراتيجية إدارة أوباما التي تعرض رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب وتطبيع العلاقات، مقابل إكمال اتفاق السلام مع الشمال والجنوب وقبول انفصال جنوب السودان.
يقول مبعوث أميركا الخاص إلى السودان، برينستون ليمان، إنّ الفشل في إنهاء المشكلة في جنوب كردفان سيجعل من «المستحيل» على الولايات المتحدة تطبيع العلاقات. لكن عضو «تكتل السودان» النائب وولف يبقى غير راضٍ عن رد الإدارة. يقول: «كل ما يحصل في جبال النوبة هو ما أراد البيت الأبيض إيقافه في ليبيا».
مهما كان المطلوب لإنهاء العنف في السودان، لن تتمكن الولايات المتحدة من القيام بذلك وحدها، وخصوصاً أنّ الخرطوم تعمق علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع بكين. تقول جيهان هنري التي تؤيد مقاربة تنسيق متعددة الأطراف: «لا يملك بلد واحد القوة اللازمة لذلك». وتضيف: «المجتمع الدولي يحتاج إلى جبهة موحّدة للضغط على السودان لإنهاء القتل، والتدمير والتوقيفات والخروقات الأخرى، ليس فقط في جنوب كردفان بل أيضاً في دارفور».
الخبراء قلقون من أنّ العنف هو راعٍ لعدم الاستقرار، ما يهدد بقاء الدولتين قيد الحياة، ويؤدي إلى تشكيك البعض بمستقبل الجهود الأميركية. لكن اليوم على الأقل، سيكون التركيز على استقبال جنوب السودان كالدولة الأجدد في العالم.

* عن مجلة «ذا أتلانتيك»

■ ■ ■

دور الكنيسة المتعاظم



مايكل تيرهايدن *
نسمع العديد من الأمور السيئة عن الكنيسة: من أنّها تتدخل في التغيير والتطوّر، وأنّها ضد العلم وتؤدي إلى الجهل، وأنّها أبقت الغرب في عصر الظلام، وأنّها لا تسامح، وتقمع وتسبب الحروب. لكن كلّ ما نسمعه غير صحيح. على العكس، الكنيسة هي غير ذلك إطلاقاً. ليست الكنيسة فقط وجه الله الحسن وبركاته الروحية، لكنّها مؤهلة، على نحو مميّز، للمساعدة في بناء
الحضارات.
إنّ الأحداث التاريخية التي تحصل في دولة السودان الأفريقية هي مثال واضح على تميّز الكنيسة وموهبتها. رغم أنّ من الممكن أن تقع الحرب مجدداً في ذاك البلد، فنحن فخورون بجهود الكنيسة في مساعدة جنوب السودان على تحقيق الاستقلال. لكن تلك الإنجازات ليست جديدة على الكنيسة، فهي أدت دوراً أهم في بناء الحضارة الغربية...
رغم أنّ اللغة العربية والإنكليزية تعدّان اللغتين الرسميتين للسودان، يتحدث السودانيون حوالى 134 لغة مختلفة. العربية هي الأكثر انتشاراً، وخصوصاً في الشمال، وتنتشر عشرات اللغات في الجنوب. السودانيون هم بمعظمهم مسلمون عرب في الشمال. في المقابل، يتألف الجنوب من قبائل أغلبها غير عربي. تتبع تلك القبائل ديانات محلية والمسيحية.
كان السودان تحت السيطرة المصرية والبريطانية المشتركة حتى 1956. منذ ذاك الوقت، كان الشمال يريد السيطرة على الجنوب بسبب موارده الطبيعية الكبيرة. في النتيجة، كان هناك العديد من الصراعات المسلحة. أدت حربان أهليتان إلى موت حوالى 2.5 مليون شخص. يستمر الصراع في المناطق الغربية التي تعرف باسم دارفور، وأدت إلى تهجير مئات الآلاف من الأشخاص.
انتهت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في 2005. ومن ضمن اتفاق السلام، أجري استفتاء من أجل استقلال الجنوب في كانون الثاني الماضي، وجرى التصديق عليه. في 9 تموز 2011، انقسم السودان بين دولتين، واحتفل جنوب السودان بأول يوم استقلال. في ذاك اليوم، أصبح جنوب السودان أجدد دولة في القارة الأفريقية.
لكن، تبقى العديد من العقبات والتحديّات، ومهما حصل يجب القول إنّ تلك الدولة لم تكن لتصل إلى هذه النقطة لولا الدور الذي أدته الكنيسة. لقد قادت الكنيسة الطريق. لم تفعل ذلك بدافع مصلحة خاصة، لكن بسبب حس المسؤولية وحب الله والناس. لم تحاول الكنيسة أن تؤثر على التصويت في الاستفتاء، بشكل أو بآخر. لكن كان للكنيسة دور أساسي في تعبيد الطريق أمام حصول
الاستفتاء...
على سبيل المثال، لقد منحت الكنيسة رؤية للشعب، وتحدثت عن سودان المستقبل قبل أن توجد دولة الجنوب. كما ساعدت الكنيسة الجنوبيين على الإيمان بأنّه يمكنهم أن يحصلوا على حق تقرير المصير بطريقة غير عنفية، وشجعت الناس على المشاركة في بناء دولتهم المستقبلية. كذلك، ساعدت الكنيسة الناخبين على فهم التبعات والنتائج المترتبة على قرارهم. ثم عملت على التأكد من حصول الاستفتاء في ظروف آمنة، وعلى نحو عادل وفي الوقت المحدد لذلك، من دون إشعال خلافات قديمة.
كذلك، مهّدت الكنيسة لأحداث الطوارئ العديدة. باستخدام شبكتها الواسعة، أنشأت مركزاً للتدريب على السلام وتخفيف الصراع. كما سعى الأساقفة السودانيون إلى الحصول على ضمانات لأمن وحقوق أكثر من 1.5 مليون شخص غير مسلم يعيشون في الشمال. كذلك تعاونت الكنيسة مع حكومة الجنوب ومنظمات مثل كاريتاس ومنظمة الإغاثة الكاثوليكية للعمل مع المهاجرين من الشمال إلى الجنوب، وهو أمر من المتوقع أن يزيد الضغوط على الدولة
الحديثة.
من المتوقع أيضاً، أن تقوم الكنيسة بدور مهم جداً في الجنوب بعد 9 تموز. الناس يثقون بالكنيسة. وهي تعتبر أيضاً آخر بقايا المجتمع المدني في مناطق فقيرة جداً، تنتشر فيها الأمية، وتفتقر إلى البنى التحتية، وحيث الحكومات المحلية ضعيفة، وينتشر الفساد. في مناطق مماثلة، تستطيع الكنيسة التواصل والعمل، متخطية الحدود الإثنية والجغرافية، وذلك بطريقة أفضل مما تستطيع الحكومة القيام به في الوقت الحالي. حتى يبرز مجتمع مدني قوي وصحي في جنوب السودان، ستكون الكنيسة مدفوعة للقيام بدور قيادي في تلك الدولة الفتية.

* عن موقع «كاثوليك أون لاين» الإخباري الأميركي

■ ■ ■

تحدّيات الدولة الجديدة



ماغي فليك *
انقسم السودان رسمياً بين دولتين، السبت في 9 تموز، مع إعلان الجنوب، الغني بالموارد الطبيعية، نفسه أجدد دولة في العالم. لكن حين تنتهي الاحتفالات، تحتاج الدولة الفتية إلى دراسة المشاكل العديدة التي تتحدى وجودها.
لن تكون الفترة التي تلي «طلاقه» من الشمال سهلة على حكومة الجنوب، وخصوصاً مع المشاكل التي تحصل على طول الحدود. ومع توقف المحادثات التي يرعاها الاتحاد الأفريقي بين الشمال والجنوب الأسبوع الماضي في أديس أبابا، حصل الانفصال الرسمي من دون التوصل الى اتفاق بشأن مستقبل الثورة النفطية. يؤدي النفط دوراً هاماً في اقتصاد البلدين، وخصوصاً الجنوب، ما يعني أنّ الأسابيع والشهور المقبلة ستتميز بالشك وبسياسة حافة الهاوية، وهي ميّزات للسياسة السودانية أدت تاريخياً إلى نتائج مبهمة في ما يتعلق بالسلام والاستقرار.
وإذا وضعنا العلاقات الخارجية جانباً، يمثّل الأمن الداخلي خطراً كبيراً على الدولة الجديدة. لدى العديد من مواطني جنوب السودان مشاكل جديّة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي حكمت البلاد خلال سنوات السلام الهش الست، وذلك بسبب سياساتها الاستبعادية والقمعية.
ففي مناطق الجنوب البعيدة المنتجة للنفط، على سبيل المثال، طُرد مسؤولون محليون لأنّهم تحدثوا علناً عن القتال الأخير بين الجيش الوطني والميليشيات المحلية، الذي أدى إلى تهجير العديد من منازلهم. في جوبا، يتعرض سائقو التاكسيات والبائعون المتجولون لتوقيف اعتباطي على أيدي قوات أمن غير منظّمة، وأحياناً عدائية، تقوم دورياً بالتحرش والترهيب وبطلب الرشوة من المواطنين.
في أحيان كثيرة، يلوم سياسيو الجنوب وقادته العسكريون حكومة الشمال على التقصير والانتهاكات. قد يكون اعترافهم ببعض أخطائهم بداية جيدة للحركة، كي تطمئن المواطنين بشأن التزام الحكومة بالحفاظ على الحقوق الأساسية والحريات التي افتقدها الجنوبيون تحت حكم الشمال.
في الوقت نفسه، يحاجج عديدون من أنّ السبب الوحيد لاستمرار السلام في السنوات الست الأخيرة، يعود إلى السياسات الحذرة والذكية للرئيس الجنوبي سلفا كير. لقد اعتمد قائد المتمردين السابق الهادئ مقاربة «انضموا إلينا، فرادى أو مجتمعين» مع قادة الميليشيات الذين تحدوا الحكومة والحزب الحاكم، وخصوصاً في العام الماضي بعد انتخابات نيسان 2010 التي أدّت الى إعادة فتح جروح الحرب بين الفصائل المختلفة. لكنّ المحلل للشؤون السودانية لدى مجموعة الأزمات الدولية زاك فيرتن يرى أنّ «الخيمة الكبيرة» التي نصبها الرئيس للجميع قد تكون مشكلة جديدة أمام الجيش الذي أصبح متخماً ويكلف الكثير من المال. فهناك حالياً أكثر من 140000 جندي في الجيش، يسحبون رواتبهم من الدولة الفقيرة، لكن قلّة منهم جاهزة للقتال.
في النهاية، سيكون هذا الجيش الوطني مقياس التقدم في جنوب السودان. جذور الجيش الجديد تعود إلى الميليشيا التي تعتبرها منظمات حقوق الإنسان ومواطنون عاديون مسؤولة عن انتهاكات خطيرة ضد شعبها. إذا أصلح الجيش فسيكون قادراً على تكوين أساس صلب لدولة تتشارك في حدودها مع دول تتنازعها الحروب، مثل جمهورية الكونغو الديموقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، إذا لم ننس السودان نفسه. لذلك تصرف الحكومة الأميركية حوالى 40 مليون دولار سنوياً، لتحديث الجيش. تستخدم تلك الأموال لتمويل بناء وتشغيل مستشفيات عسكرية، ودفع رواتب القوات الإثيوبية التي تدرب النخبة المستقبلية للجيش الجنوبي، وحتى من أجل تحسين قدرات اللغة الإنكليزية للجنود، الذين ترك معظمهم المدرسة وقضوا طفولتهم يحاربون.
لكن الولايات المتحدة لا تقوم بما يكفي لمراقبة أين تصرف أموالها. رغم جهود وزارة الخارجية في متابعة ما يفعله المتعاقدون الأميركيون الذين وظّفتهم لتدريب وتسليح الحركة الشعبية لتحرير السودان، لا يزال الجيش يتصرف بعنف في حملاته لطرد الميليشيات المناهضة للحكومة من الولايات الثلاث المنتجة للنفط. وفق الأمم المتحدة، قتل 2500 شخص، هذا العام، بسبب
العنف.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الحكومة في جوبا لم تواجه حتى الآن حقيقة أنّها ستحتاج قريباً إلى إعطاء أولوية أكبر للحاجات غير العسكرية. أكثر من 40 في المئة من موازنة الجنوب مخصصة اليوم للجيش. بعد 9 تموز، يتوقع مواطنو جنوب السودان من حكومتهم، تأمين الخدمات الأساسية كالتعليم، والرعاية الصحية، المياه والكهرباء، والطرقات. كما يجب على الحكومة أن تواجه الوعود الكثيرة التي أطلقتها للاجئين الذين يصلون الى الدولة الجديدة بعدما طردوا من منازلهم في الشمال. يصل الآلاف كل يوم، مع تأمين القليل جداً من الطعام أو المنازل لهم.
يأمل الجنوب كسب عائدات النفط في السنوات المقبلة، لكن الفساد وسوء الإدارة قد يعرقلان خطط الحكومة الكبيرة لبناء المطارات، وأنابيب النفط وسكك الحديد، من بين مشاريع طموحة للبنى التحتية. لكن رغم ذلك، الأخبار من الدولة الجديدة ليست كلّها سيئة. شهدت ليز غراند، كبيرة مسؤولي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في جنوب السودان المجاعة الرهيبة هناك في التسعينيات، وأشرفت على المساعدة التي وفّرتها الأمم المتحدة كي تستطيع الحكومة الجديدة بناء مؤسساتها من الصفر، في السنوات الأخيرة. توافق غراند على أنّ الحكومة الجديدة عانت من «بداية صعبة» مع «إنجازات رائعة» خلال السنوات الخمس الماضية. لكن العديد من المسؤولين الأممين في عاصمة الجنوب خائفون من توقف المانحين، بعد الاستقلال، عن المساعدة، ما سيؤذي الحكومة الجنوبية.
الدخول الرسمي إلى المجتمع الدولي يعطي جنوب السودان فرصة أخرى للاستمرار بالبرهنة لأكثر المراقبين تشاؤماً بأنّهم مخطئون. لكن يعتمد النجاح بالأساس على كيفية ردّ الدول الأخرى. لا تستحق الدولة الجديدة ترحيباً حاراً من العالم فقط، بل وعداً بمساندة مستمرة، مشروطة بحذر.

* عن مجلة «فورين بوليسي»