تعوَّدتُ، منذ سنين، أن أختمَ جميع مداخلاتي التلفزيونية، مهما كانت الإشكالية السياسية التي أُسأَل عنها، بالقول إنّه لا حلّ سوى بأن تمضي الأنظمة التسلطية العربية إلى مزبلة التاريخ! حتى إنّ شائعة لئيمة سرت في أوساط الزملاء في باريس، خلال الزوابع الثلجية التي شهدتها أوروبا في الشتاء الماضي، مفادها أنّ إحدى الفضائيات سألتني ما العمل في مواجهة مثل هذه العواصف؟ فأجبتُ إنّه لا حلّ سوى بذهاب الأنظمة التسلطية العربية إلى مزبلة التاريخ! وها أنا أكتشف، بعد كلّ هذا العمر، أنّ العداء المزمن الذي أكنّه للأنظمة التسلطية كان شعوراًَ أحادي الجانب. فقد تبيّن لي أنّ أكثر من طاغية عربي يبادلني، في مقابل العداء كلّ المحبة والتقدير! توصّلتُ إلى هذا الاكتشاف الصاعق، أخيراً، على أثر تحقيق تلفزيوني أنجزه الزميل سيف الخياط لفضائية «العراقية»، عن الأرشيف الباريسي السرِّي للسفارة العراقية في عهد صدّام. فجأة، ودون مقدمات، وجدتُه منتصباً قبالة مكتبي، يرمقني بنظرات تنضح بالريبة والغضب، حتى خِلتُ أنّه سيشهر في وجهي حذاءه، كما فعل مع مواطنه منتظر الزيدي، في واقعة التراشق بالأحذية الشهيرة في نادي الصحافة العربية بباريس، التي مثّلت «مباراة الإياب»، بعد الجولة الأولى الأشهر التي داعب فيها حذاء الزيدي أنف الرئيس جورج بوش! بعد لحظات عسيرة من الصمت المريب، نطق سيف الخياط وقال: ممكن سؤال؟ قلتُ: أكيد، تفضل! قال: متى زرتَ بغداد لآخر مرّة؟ أجبت: في 1991، حين غطّيت حرب الخليج الأولى، وأنجزتُ كتابي «بغداد تحت القصف: شاهد على العدوان» («دار الحكمة» ـــــ الجزائر). وإذا به يقطّب حاجبيه، ويضرب كفّاً بكفّ، قائلاً بحسرة واستغراب: 1991 يا عثمان! قلت: شو قصّتك! هل هناك المشكلة؟ قال: أجل، تريد أن تعرف!؟ ودون أن ينتظر مني جواباً، شهر حزمة من الأوراق وألقى بها على مكتبي في حركة مسرحية، وضحك ساخراً، مثل مدّع عام أدرك أنّه أجهز على الجاني الواقف أمامه في قفص الاتهام بدليل دامغ لا يمكن أن تقارعه حجّة!
تناولتُ حزمة الأوراق، وإذا بي أكتشف أنّ صدّام حسين ـــــ الذي رفضتُ على الدوام الكتابة في الإعلام الموالي له، أو حضور مهرجاناته الشعرية، أيام كنتُ أقرّض الشعر في أعوام شبابي الغابرة ـــــ أُعجبَ بكتابي الآنف الذكر، فأمر بأن تُرسَل إلي هدايا وإكراميات شتى: فلوس ودعوات لزيارة بغداد وشحنات من تمور البصرة كهدايا في مناسبة رمضان!
بالطبع لم يصلني شيء من كلّ ذلك، ولم أسمع بالأمر أصلاً. فقد كانت السفارة العراقية تُوكل أمر تسليمي تلك الهدايا إلى زميل في إذاعة مونتي كارلو الدولية يشتغل حالياً مراسلا لقناة إخبارية مرموقة تبث من دبي. وكان، حفظه الله، يوقّع بالنيابة عندي، ويتسلّم تلك الهدايا، ثم يحوّلها إلى جيبه! لم أندم على الأموال، فأنا أزعم أنّني لست ممن يأكل من رغيف كهذا، كما يقول المثل الفرنسي. أما أن يرسل إلي «زعيم» شحنة تضم 25 كلغ من أرقى تمور البصرة، فتلك هدية لم أكن لأفوّتها! وخاصة أنّها جاءت خلال شهر الصيام، حيث تضعفُ العزائم أمام شهوة الطعام، وتزدادُ النفس الأمّارة بالسوء حيلة وشراسة. لا شك أنّني لو علمتُ بالأمر، في حينه، لوجدتُ أكثر من مبرِّر لقبول الهدية. كنتُ سأقول في نفسي أو لنفسي: يا بني، إني أرى أنك أبليتَ بلاءً حسناً، دفاعاً عن العراق، في كتابك عن قصف بغداد. وهذه التمور ليست «رشوة»، بل عربون عرفان بالجميل. خذها وتوكل على الله. إنّ الله غفور رحيم. ثم إنّ النبي الكريم أوصى بالإفطار على التمر واللبن في رمضان!
فجأة، وأنا غارق في حسرتي على تُموري السليبة، انتابني شعور مرعب: ماذا لو كانت هذه الواقعة العراقية مجرد غيض من فيض؟ فقد كُلِّفت في نهاية التسعينات، بإنجاز دراسة لحساب مركز أبحاث فرنسي عن تجربة «صندوق التضامن الوطني» التونسي، تحت عنوان «التنمية التكافلية كوسيلة لمكافحة التطرف». ولقيتْ تلك الدارسة اهتماماً لم أتوقعه، وبالأخص بعد هجمات 11 أيلول. فبالاستناد إليها كتب مدير «الإكسبرس» الفرنسية الأسبق، دونيه جومبار، افتتاحيته الشهيرة: بن علي ضد بن لادن! ثم فوجئتُ بالرئيس بن علي ذاته يستشهد، في خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ببعض ما ورد في تلك الدارسة، مقترحاً «تعميم التجربة»، عبر تأسيس «صندوق عالمي للتضامن والتنمية التكفالية»! من يدري، لعل إعجاب الجنرال ـــــ الرئيس بما كتبتُ دفع به، هو الآخر، إلى أن يغدق عليّ الهبات والهدايا، على غرار ما فعل صدام حسين: أموال ودعوات وشحنات من ياسمين سيدي بوسعيد، في مناسبة حلول فصل الربيع؟ بالطبع لن تعدم تلك الهدايا وسيطاً قليل الذمة، يضعها في جيبه بدل أن يوصلها إليّ!
استرجعتُ مساري المهني الميمون، على مدى ربع القرن الماضي، فتضاعفتْ شكوكي وزاد قهري: لقد انتصرتُ للموقف المغربي في مشكلة الصحراء الغربية ضد الموقف الرسمي لبلادي الجزائر، ودافعتُ بشراسة عن سوريا خلال الهجمة الدولية (الأميركية) الأولى، في 2005، ثم قادتني تجربتي الوليدة في مجال الإنتاج التلفزيوني إلى العمل مع التلفزيون الحكومي المصري. ماذا لو كانت الدعوات التي روَّجت الدعاية الاستخبارية الجزائرية بأنّ وزير الداخلية المغربي السيّئ الصيت، إدريس البصري، كان يوجِّهها إلي للإقامة في فندق المامونية الشهير في مراكش، حقائق لا أكاذيب! وهل يُعقَل أن يصمّ قائد ملهم من مصافّ السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد أذنيه عن نضالات إعلامي مثلي، وُلِد وترعرع وأفنى عمره في معسكر «الممانعة»؟ ثم هل يمكن أن تضيع كلّ الخدمات الجليلة التي قدّمها إلى التلفزيون المصري، في عهد النظام المخلوع، كصيحة في واد؟ لا إكرامية من السيد الرئيس، ولا لفتة كرم من «ماما سوزان»، أو حتى من الوزير رشيد محمد رشيد، الذي كشفت الثورة أنّه كان يغدق على كل إعلامي يسهم في تلميع صورته أو تغطية نشاطاته كوزير للاقتصاد والتجارة الخارجية، لكنّه، سامحه الله، لم يضمّ اسمي يوماً إلى قائمة المستفيدين من كرمه، بالرغم من أنّني رافقتُه في أكثر من رحلة ميمونة من باريس إلى مارسيليا، ومن ليون إلى «كان»!
هل يُعقل أن يكون كلّ هؤلاء قد قابلوا جهودي المتفانية بالجحود والإنكار؟ أم هل ضاعتْ ودائعهم في الطريق، كما ضاعت تمور صدّام؟ وأنا، طوال كل هذه السنين، آخر من يعلم!
والآن، ما نفع استفاقتي المتأخرة، وقد بات الطغاة العرب ـــــ ويا للحسرة! ـــــ فصيلة آيلة للانقراض؟ مع ذلك، أودّ أن أناشد من بقي على قيد الحياة (أو الحكم) من أصدقائي الطغاة، بأخذ الحيطة، حتى لا تضيع ودائعهم في الطريق. لذا، سأذيّل هذه المقالة بإيميلي الشخصي، راجياً منهم إرفاق أيِّ هدايا أو إكراميات موجّهة إلي مستقبلاً بـCC على هذا البريد الإلكتروني!
أما الوسطاء والموفدون، الذين قد تسوّل لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء الاستمرار في الاستيلاء على مستحقاتي، فأقول لهم: لن أسكت عنكم بعد اليوم. سأطاردكم «بيت بيت»، زنقة زنقة، لأستعيد حقوقي المهدورة حتى آخر تمرة!

([email protected])
* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس