تميّز موسم الربيع العربي بحراك اجتماعي وسياسي منقطع النظير، على مدى التاريخ الحديث للمنطقة، وتفاوت التفاعل مع هذا الفصل من منطقة إلى أخرى. أعطت الثورة المصرية والتونسية زخماً، كسر كل الحواجز المانعة أو المتحفظة للبعض، في المناطق التي كانت ترى خصوصية في الحالة المصرية والتونسية، وتحوّل إلى مد ثوري غطى سماء الوطن العربي. كسرت منطقة الخليج أكبر الحواجز، واستجابت لهذا الزخم في الشارع العربي. وتمثلت تحركات الشارع في مطالبات إصلاحية لها جذور، وخلفيات تاريخية ارتأت النخب ملاءمة الأجواء الإقليمية لطرحها على الساحة. تعالت الأصوات النخبوية في المملكة العربية السعودية واندمجت شعبياً في البحرين، لتحقيق هذه المطالب المتشابهة الى حد ما في مضمونها، وإن اختلفت الوسيلة. فقد صدرت بيانات من السعودية تطالب بمزيد من الإصلاح السياسي، يدور في الفلك نفسه الذي خرج من اجله الشارع البحريني، مستلهماً أدبيات الجمعيات السياسية: ملكية دستورية، ومشاركة حقيقية في القرار، والتأسيس لدولة المؤسسات والقانون، والانتقال نحو مجتمع مدني متكامل. ولم تطرح مفهوم الثورة بالصيغة المصرية والتونسية، وإن شذّ البعض.ومع اختلاف الوضع التفصيلي للحالتين، فإنّ المفارقة هنا أنّ المطالب الأساسية لأغلبية المعارضة البحرينية، تتطابق مع الطموح المتمثل في الخطاب الإصلاحي في السعودية، لكن سرعان ما انقسم الموقعون على البيانات في المملكة، حول اتخاذ موقف من حركة الشعب البحريني. انقسام نخبوي لا يُطَمئن إلى صدقية وعمق هذه المطالب أمام الرأي العام على المدى البعيد. كان الصمت موقفاً من الانتفاضة البحرينية في أحسن الأحوال، إلا أنّ مسببات هذا الانقسام تنوعت لدى الشرائح الموقعة. هناك، أولاً، أغلبية صامتة منفصلة عن شؤون الإقليم ولا تعي عمق تقارب المطالب التي وقّعتها في وضع سياسي لا يختلف تماماً عن تشخيصها هي نفسها لذلك. ظهرت هذه الفئة، وكانت العملية الإصلاحية في المملكة وليدة اللحظة، وتفتقر إلى أيّ عمق فكري، كما أنّها أسهمت في عزل المملكة عن الإقليم، بدل أن تؤكد تفعيل الخطاب وتحويله إلى خطاب مستمر، يحاكي هموم الشارع المحلي، ويواكب التطورات الإقليمية، مستفيداً من تحركات الشارع العربي، وداعماً للمطالب الإصلاحية في الخليج بوصفه «الشقيق الأكبر» لكل خطاب إصلاحي في دول الخليج الصغيرة. ارتبط هذا الصمت أيضاً بعمى إعلامي خليجي، وغضٍّ للبصر في أحسن الأحوال، عن التعاطي مع الموضوع على نحو مهني. وأسهم ذلك في ترسيخ التخوف من ثبوت دخول إيران في تحرك الشارع البحريني. وتركت القضية برمتها في عهدة قنوات تعبوية، أججت الوضع ليطاول كلّ الخليج، رغم نفي هذا التصور من جانب أغلب الجمعيات المعارضة. السبب الرئيسي لهذا الصمت يدور بين عدم الفهم العميق للأطروحة السياسية التي يتغنى بها الموقعون، وصدقية التعاطي مع أدبيات تلك الخطابات. وقد أسهم ذلك الصمت النخبوي والإعلامي، في تحويل القضية البحرينية الى قضية إقليمية معقدة، جارفاً كلّ المطالب الإصلاحية في البحرين الى مناحٍ مختلفة، ومحوّلاً أوراق البيانات إلى رماد، نازعاً عنها صدقية الاستمرار والتفاعل لتكوين طرح جدي صلب يستثمر المتغيرات في مسار المطالبة بالإصلاح السياسي. عندما تناقض الأغلبية من النخب السعودية باكورة بياناتها في هذا الموسم العربي، ومطالبها بالدستور والديموقراطية حلاً لإصلاح البلاد، بوقوفها حائرة امام أول اختبار إقليمي يشابه الى حد كبير ما تطمح اليه، فإنّ صدقية البيانات تسقط، وإن كانت محقة. فهي لم تكن جزءاً من عملية تفاعلية مع المجتمع والإقليم، كما لم تكن عميقة في فهم الأطروحة السياسية بحيث تتعامل بديناميّة مع الظروف والمعطيات على جميع الأصعدة.
الفئة الثانية هي التي تلبس الطائفية لباساً مزدوجاً مع الحقوق والحريات، فتنزع ألبستها على حسب الموسم والفصل. هذه الفئة كانت ولا تزال غير قادرة على التعبير عن الإيمان الحقيقي بما تطالب به وتوقعيه، لأنّها تأمل أن تكون هذه المطالب وسيلة لا غاية. فهي لم تؤمن يوماً بمدنية الدولة، ومشاركة المواطن في اتخاذ القرار. هذه الفئة تتأوّه يومياً لدماء الشعب السوري (المطالب بالإصلاح المستحق) ولكن تسقط عن مخيلاتها دماء الشعب البحريني ومآسيه خلف القضبان، والعكس أيضاً صحيح. في المشهد البحريني، أسهمت هذه الفئة في تأجيج الكراهية بين أبناء المنطقة، وجعلت من الخلاف السياسي عقيدة لها. تبرز هذه الفئة على الضفتين السنية والشيعية، كمؤجج لا يعيش إلا على درء الفتن التي لا بد أن تخلق. وقد أضاف التأجيج الإعلامي، مع صمت بعض النخب التي أحجمت عن اتخاذ موقف واضح من قضية البحرين بسبب الخوف من الطائفية لا بسبب طائفيتها، بعداً إشكالياً آخر للأزمة. فالواضح أنّ تلك النخب رفضت الذهاب نحو معركة مع الجمهور المشحون طائفياً، باعتبار أنّ ذلك قد يحرق المطلب الإصلاحي في الداخل، دون أن تدرك النخب تلك أنّ ازدياد الشحن المذهبي هو ما سيحرق كل مطلب إصلاحي، عبر منح التشدد والتخندق المذهبي مساحة كبيرة لتعزيز التشنج وطرح مفاهيم سيئة في أدبيات العمل الإصلاحي قد تتأصل مستقبلاً. الديموقراطية في أدبيات الفئة المذهبية هي لعبة سياسية، يمكن عن طريقها امتطاء الكراسي والسلطات. والديموقراطية لدى تلك الفئة ليست حرية الشعب وحقوقه. ولعل التطبيل الأخير لفوز أردوغان وعودة المارد العثماني، يدل على هذه النقطة. فلا مفهوم للمواطنة بتعريفها الإنساني، بل تتعقد التركيبة أمام تعريف الوطن والمواطن، وتكاد تنعدم عند بعض مفاصل التعريف الحرجة، فتختلف المشاهد والحقوق حسب أهواء الحزب والتيار أو الطائفة والمذهب.
القلة الأخيرة هي آحاد المثقفين الذين تفاعلوا عكس التيار العام (السياسي والإعلامي) مع مطالب الحركة في البحرين، وكانت الصفة الغالبة تنبع من المبادئ الحقوقية الإنسانية والشرعية الدولية التي تكفل حقوق الشعوب في المطالبة بحقوقها الأساسية، متبعة الأسلوب السلمي، مع التأكيد على التوافق على المطلب الأساس في البحرين. استمرت تلك الفئة في استكمال مسيرتها بتفعيل مطالبها من خلال خطوات ترجع الى جوهر البيانات الإصلاحية، والتأكيد على أنّها هي المرجع لكل خطوة أو موقف. تستمر تلك المجموعة في التفاعل مع قضايا المنطقة بأسلوب يتناغم مع مبادئها التي وقّعت عليها، مما يعطيها نصيباً أكبر من الصدقية في طرحها. ولعل بيان مقاطعة الانتخابات البلدية الأخير، أبرز دليل على أنّ هذه الفئة فاعلة في مشروع إصلاحي مواكب للعملية السياسية، وتصنف نفسها جزءاً من هذ الحراك والوعي العربي من أجل التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما أنّ تلك الفئة تحافظ على مسافات متوازنة في التعاطي مع الدولة والتيارات المتناحرة، مبعدة نفسها عن التشنج لكونه في نظرها هدراً لطاقات لا بد أن تشحذ في خدمة المشروع الإصلاحي والنهوض بثقافة المجتمع. قد تواجه هذه المجموعة تحدياً في تحوّلها الى تيار شعبي، لكن تبلور الفكرة الإصلاحية لديها لا يزال مواكباً لجزء كبير من هم الشارع، وعميقاً في توصيف العلاج السياسي.
هذا الانقسام بين النخب أمام قضية لها عناصر البيانات الإصلاحية نفسها، تزامن مع ضياع الموقف الشعبي الذي اندفع أو انكفأ بسبب التشويه الإعلامي والتعبئة المضادة، أو الصمت التام. ومن المهم اليوم إعادة النظر في سير عملية الإصلاح والمطالبات التي تصدر كلّ فترة كردّ فعل لمحرك خارجي معين، ولا تلبث أن تنطفئ شعلتها مع غياب الموسم. في البحرين، انتظرت النخب الى أن تحوّلت الأمور الى عملية أمنية عنيفة. وبدل أن تكون هي الحضن الإقليمي والعمق الممتد لأي إصلاح في المنطقة، وتحافظ على الاستقرار الاجتماعي فيها، أسهمت النخب في إحداث الخلل الاجتماعي والفكري لعملية الإصلاح في الخليج، والمملكة خصوصاً. قد يكون غياب تيار إصلاحي بالمعنى الواضح والصريح، يمكن أن يسجل مواقفه في المحطات المحلية والإقليمية المختلفة، عاملاً مؤثراً، لكن لا يزال التخبط في التعاطي مع الإصلاح كهدف لا كوسيلة موجوداً.
عندما تسقط النخب أمام أول اختبار حقيقي يحاكي همومها ومطالبها، يُنتج ذلك أزمة أدبية وأخلاقية لعمق هذه الحركة الإصلاحية ويطرح الاستفسار: هل هي حاجة وطنية، أم تفاعل وقتي مع مؤثرات إقليمية، أم تسجيل موقف، كما يحب البعض تسميته؟
المطالبات بالملكية الدستورية في البحرين أيضاً، تزامنت بداياتها مع تلك التي في المملكة العربية السعودية، في ستينات القرن الماضي، لكن يبدو أنّ التناغم الخليجي بدأ يفقد زخمه. وأصبح اليوم البعبع الطائفي يخيف الكثير من النخب السعودية لتنسجم مواقفها مع مطالبها وتملك مستوى أكثر من العمق الفكري المسهم في تفعيل المطالب الإصلاحية. في الخلاصة، يمكن القول إنّ موقف غالبية النخب السعودية، الموقعة على بيانات الإصلاح، مما حدث في البحرين من الصمت واللامبالاة من جهة، أو التلون الطائفي والتخندق المذهبي من جهة أخرى، يُفقد المطالب الإصلاحية إمكان تفعيلها على نحو صحيح، لتكوّن مشروعاً واقعياً يمكن طرحه للشارع أو القيادة. هكذا، تتحوّل المطالب الى مجرد بيانات لا تتعدى التسويق الإعلامي، كاستجابة طبيعية للمؤثرات الإقليمية.

* كاتب سعودي