يعود زائر القاهرة، الذاهب إليها من أجل التفتيش عن أجوبة لأسئلته الكثيرة، بأسئلة جديدة. تبدأ الدهشة حالما تدخل قاعة القادمين في مطار القاهرة الدولي: لوحة إعلانية تملأ الجدار المواجه، وفيها عبارة لرئيس الولايات المتحدة الأميركية: «آمل أن يصبح شباب الولايات المتحدة الأميركية كشباب مصر». ولن تتأخّر كثيراً حتى يطالعك «بنك قناة السويس»، هو الآخر، بإعلان جداري ضخم: «25 يناير ثورة على الفساد!». إنّه الدور الأميركي، إذاً، وقد شقّ لنفسه طريقاً عريضاً في الوضع الجديد. كذلك ها هم ممثلو «القطط السمان»، يحاولون استئناف دورهم في استنزاف عافية مصر وابتلاع المزيد من ثروة وعرق شعبها وقواها العاملة، لكنّ «الأسطة»، سائق التاكسي، لا يلبث أن يبدّد جزءاً من هذه البداية «العاطلة»: «هذا ميدان التحرير». قالها بفخر. واستطرد موجّهاً نظره إلى آلاف توزّعوا أفراداً وعائلات وجماعات صغيرة أو كبيرة، في فسحات الميدان: «من كان يجرؤ على أن يجلس هنا، وبهذه الكيفية!؟». ثم انطلق على سجيّته في لعن الحرامية والنهابين ممّن جوّعوا شعب مصر وأذلّوه دون رحمة، لينتهي إلى القول: «لكنّ شيئاً لم يتغيّر حتى الآن بالنسبة إلى الشعب المسكين!».في احتفالية الإعلان عن تأسيس «الحزب الاشتراكي المصري» الجديد، مزيد من الأسئلة أيضاً: هل باتت الثورات هي التي تصنع الأحزاب، بعدما كانت الأحزاب هي التي تصنع الثورات؟ ليس الجواب سهلاً، فبين مؤسسي الحزب الجديد مناضلون مثابرون، شكّلوا خميرة طيّبة لثورة الشباب ولشعاراتهم، وبكّروا في الحضور إلى «ميدان التحرير» استجابةً لنداء شباب مصر، مساهمين في صنع الحدث، لكنّ المهمّات كبيرة، وتحقيقها بما يتوافق مع مصلحة مصر والأكثرية الساحقة من أبناء شعبها، لا ينتظر أن نستكمل عدّتنا في بناء الحزب وإقرار برنامجه السياسي ونظامه الداخلي وانتخاب هيئاته القيادية. فالانتخابات على الأبواب: انتخابات مجلس الشعب في أيلول القادم، ومن ثمّ انتخابات رئيس الجمهورية في أواخر السنة. ولن يكون الحزب الجديد مؤهلاً بعد لخوض هذين الاستحقاقين، ولو في الحدود الدنيا. لا يختلف الأمر، بالنسبة إلى الحزب الشيوعي المصري الذي أعلن في مطلع أيار، ومن «ميدان التحرير» نفسه، استئناف نشاطه العلني، لكنّ هذا الحزب هو الآخر، مرهق بعقود طويلة من المنع والقمع، وبصعوبات خطيرة من التباسات الجمع ما بين العمل السري والعلني، وما بين عضوية «التجمّع» وعضوية الحزب... إلى تعقيدات لا تنتهي بشأن الأولويات والعلاقات والبرامج...
أما حديث «التجمّع»، فيثير الكثير من الشجون، إذ هو تحوّل، في ظلّ رئاسة الدكتور رفعت السعيد، إلى حليف شبه ثابت لنظام مبارك. وكان الحزب الوحيد الذي شارك في الانتخابات المزوّرة الأخيرة بعدما قاطعها الجميع!
ليس اليسار المصري قادراً حالياً، على المنافسة والتأثير الكبيرين، دون أن ينكر كثير من المصريين مبادرات أفراد منه، على نحو مستمر، لممارسة أشكال من الاحتجاج والاعتراض، كلّفت أصحابها العقاب والتعذيب وارتياد السجون على نحو متواصل. وتتكرّر في مصر حالات عاشتها الأحزاب اليسارية في معظم بلدان أميركا اللاتينية. فهناك أيضاً، انطلقت مبادرات من قوى وشخصيات لا تنتمي إلى الأحزاب التقليدية لليسار الشيوعي. يهمس صديق مصري في احتفالية التأسيس: اخترنا اسم الحزب الاشتراكي دفعاً لتهمة الإلحاد التي تمثّل عائقاً هائلاً أمام التواصل مع أوسع الأوساط الشعبية، إلا أنّه في سياق نقاش في حلقة أخرى، يطالب رفيق من المؤسسين بضرورة تبنّي ديكتاتورية البروليتاريا. وما بين هذين النموذجين تثور سلسلة لا تنتهي من الأسئلة بشأن الإطار المناسب، والبرنامج المرحلي، وعلاقة هذا البرنامج بالهدف الاشتراكي ـــــ الشيوعي، وبين هذه جميعاً والحاجات الحقيقية للوضع المصري وللشعب المصري.
«خبز، حرية، عدالة، اشتراكية»، تلك هي العناوين التي تصدّرت المشروع الحزبي الجديد، لكنّ النقاشات، في خارج القاعة، دارت حول قانون الأحزاب الجديد الذي أقرّه المجلس العسكري. وهو قانون مخيف ينطوي على كمية من الأحكام التعسّفية التي يؤدّي كلّ واحد منها إلى استحالة تمكين التيارات الشعبية والتجمّعات الشابة الجديدة، أو اليسارية أو الشيوعية، من الحصول على ترخيص حزب جديد.
قانون ما بعد الرئيس المخلوع حسني مبارك، لا يقلّ سوءاً عن سابقه، إلا في مسألة المرجعية. فهي في القانون الجديد مرجعية قضائية، بعدما كانت سياسية ـــــ أمنية في القانون القديم. فالقانون الجديد يضاعف من العقبات، ويطالب مؤسّسي الأحزاب الجديدة بأن يكون عددهم في مرحلة التأسيس خمسة آلاف عضو، وأن يجري توثيق العضوية بإجراءات إدارية مكلفة وطويلة، وأن تُعلَن أسماء المؤسّسين في ثلاث صحف أساسية... وتُقدّر تكاليف إنشاء حزب جديد، بحوالى مليون دولار، مما يجعل عملية تأسيس حزب إمكاناً متاحاً فقط للتيارات التقليدية والبرجوازية الكبرى. ويتعارض ذلك على نحو صارخ، مع اكتشاف «شباب الثورة» حاجتهم إلى التنظيم. فقد بلغ عدد التجمّعات الشبابية المتشكلة، حتى الآن، حوالى مئة وتسعين تجمّعاً، وطبيعي أنّه ليس بمستطاع هؤلاء أن ينالوا ترخيصاً واحداً مما يبتغون.
حديث قانون الأحزاب، يكشف، في الواقع، جانباً من الصراع الضاري الذي يدور حالياً حول حاضر مصر ومستقبلها بعد حسني مبارك. يعمل الأميركيون، بلا كلل، من أجل جعل عملية التغيير مقتصرة على حسني مبارك وعائلته وبعض معاونيه فحسب. ويقدّم الأميركيون الرشى والمساعدات، ويستخدمون نفوذهم في الجيش خصوصاً، ولدى ممثلي الطبقات الميسورة عموماً، من أجل إعادة تكوين السلطة بما يتناسب مع المصالح السياسية والاقتصادية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
ويتناول جزء من الأسئلة، المسار الذي سيعتمده تنظيم «الإخوان المسلمين» في المرحلة الراهنة. ثمة حوار مع الأميركيين وثمة وسطاء، أبرزهم حزب «العدالة والتنمية» التركي، لكنّ جزءاً كبيراً من الرأي العام المصري يتوجّس من محاولة «الإخوان» تسلّم السلطة. وما بين الجهود الأميركية ودور المجلس العسكري الحاكم، وبلورة موقف الإخوان المسلمين من التطوّرات الراهنة، تُطرح أسئلة عن اسم الرئيس المقبل لمصر، لكنّ عمرو موسى يبدو في تقدير جهات متعدّدة هو الاسم الأكثر قدرة على تأمين تقاطع القوى المذكورة والفوز بالتالي بالمنصب.
وفي مجرى كلّ ذلك، لا يفوت القوى الحاقدة من بقايا «بلطجية» حسني مبارك في الجيش وقوى الأمن، أن يحاولوا تعطيل قدرة المبادرة والحركة لدى شباب مصر. ولقد جرت لهذا الغرض عمليات قمع واعتداء متكرّرة، كانت الأخيرة منها حين اعتُقل عدد من الشباب، ومن الشابات اللواتي أُخضعن لفحص عذرية من قبيل الإذلال وتحريض العائلات وإضفاء طابع لا أخلاقي على ما يجري في ميدان التحرير!
بين باراك أوباما مستقبلاً ومودّعاً في مطار القاهرة، وبنك مصر «الثائر» على الفساد، تغرق حياة عشرات الملايين من المصريين في دوامة قاتلة من الحاجة والفقر والإهمال والمرض والهجرة والبطالة. المشكلة الاجتماعية لن تتأخر كثيراً حتى تلقي بثقلها على الحياة السياسية المصرية. يرفض المصريون أن تسمّى احتجاجاتهم انتفاضة. هم يعدّونها ثورة كبيرة أدّت إلى إسقاط الطاغية وحاشيته، لكنّهم بالتأكيد لا يرون هذه الثورة مكتملة. فثمّة ثورة اجتماعية تدقّ أبواب الكنانة كما يتوقعون. وهي ستصبح ممكنة أكثر بعدما سقط الطغاة ونظامهم الأكثر وحشية وقمعاً ونهباً وفساداً.
هذه الثورة هي ما يتحسّب له الآن، أطراف الثورة المضادة في البلاد وخارجها. وهي كما بات واضحاً، جزء من عملية تحرير شاملة لمصر وشعبها: تحريره من قيد علاقة التبعية والارتهان للمشاريع الأميركية والإسرائيلية، وتحريره أيضاً من الطغيان والاستبداد الداخليين، وتحريره كذلك من براثن مافيات النهب والاستغلال والإفقار.
للأسف، تبدو القوى الديموقراطية واليسارية، الأقلّ استعداداً لخوض المعركة، لكنّ الشعب المصري الذي فاجأ الجميع سابقاً في انتفاضات الجوع، وبالأمس في ثورة إسقاط مبارك وعصابته، قادر على اجتراح انتصارات جديدة في مصلحة مصر والعرب جميعاً.

* كاتب وسياسي لبناني