تتفق كافة القوى السياسية في مصر على ادّعاء الانحياز للفقراء ومحدودي الدخل، ورفع مستوى معيشتهم، ومراعاة البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية. حتى إنّ العدالة الاجتماعية هي العامل المشترك الذي يتردد في خطابات اليساريين والليبراليين والقوميين والإسلاميين والحكومة، على السواء. لكن ترديد مقولات العدالة الاجتماعية والانحياز للفقراء كثيراً لا يعني أيّ شيء بالنسبة إلى حياة الكادحين، ما دام لا يترجم عبر مواقف أو سياسات مباشرة. ولا يوجد عموماً حزب أو قوى سياسية، تتبنى صراحة مقولات الظلم الاجتماعي واضطهاد الفقراء، رغم أنّ السياسات التي تطبّقها الأحزاب الحاكمة لا تؤدي إلا إلى ذلك. ونظام مبارك كان المثال الأوضح، عندما تحدث دائماً عن انحيازه للفقراء ومراعاة البعد الاجتماعي بينما سياساته افقرتهم واضطهدتهم. وبينما تتحدث حكومة عصام شرف كثيراً عن العدالة الاجتماعية والاهتمام بالفقراء، فإنّ مشروعها لموازنة العام المالي 2011 ـــــ 2012 عكس وضعاً أكثر تعقيداً. فالحكومة التي تعلن التزامها بالعدالة الاجتماعية، هي نفسها التي تعلن أيضاً التزامها بسياسات السوق الحرة، وعدم التراجع عنها.
وإذ تعدّ الموازنة العامة للدولة أحد أهم المؤشرات الأكثر صدقية إلى انحيازات الدولة، فإنّ الموازنة التي قدمتها الحكومة تصدق عليها بحق مقولة موازنة الأيدي المرتعشة. فالموازنة التي حاولت الحكومة من خلالها ادعاء انحيازها للفقراء، نجحت بالفعل في إغضاب المستثمرين ورجال الأعمال، لكنّها فشلت بالمقابل في إرضاء الفقراء. فمن ناحية، خفضت الموازنة دعم الصادرات الذي يوجه لكبار الرأسماليين، من أربعة مليارات جنيه إلى 2.5 مليار. كذلك وضعت شريحة جديدة للضرائب على الدخل، لمن يزيد دخله على عشرة ملايين جنيه سنوياً بنسبة 25%، بعدما كانت الضريبة على الدخل موحدة بنسبة 20%، ورفعت حدّ الإعفاء من تسعة آلاف إلى 12 ألف جنيه سنوياً. وفرضت ضريبة جديدة على توزيع الأرباح والاستحواذ والدمج بنسبة 10% . رغم ما يبدو على هذه الإجرءات من جديّة، فإنّ مقارنتها بأوضاع سابقة في عهد مبارك ستجعلها تبدو في غاية التساهل. فدعم الصادرات كان قبل عامين ملياري جنيه فقط، والشريحة العليا للضرائب كانت تصل إلى40% قبل توحيد الضريبة في 2005، وضريبة توزيع الأرباح والدمج والاستحواذ كانت 32% قبل 2005.
إجراءات خجولة ومترددة للغاية حاولت الدولة اتخاذها لتوفير 7.2 مليار جنيه، بحسب بيانات مشروع الموازنة. لكن حتى تلك الإجراءات التي لم تصل لأخرى كانت مطبقة في عهد مبارك، أغضبت الرأسمالية بشدّة، كما اتضح من بيان جمعية رجال الأعمال المصريين الذي رفض تلك البنود «جملة وتفصيلاً»، حسب البيان، «لما لها من بالغ الأثر السلبي على الاستثمار بصفة عامة». وطالب البيان «بعدم المساس بدعم الصادرات»، فيما طلب من الحكومة توفير إيرادات من رفع سعر أنبوبة الغاز المنزلي المدعومة للفقراء.
ومن ناحية أخرى، لم تتمكن الحكومة من نيل رضا الفقراء، في مقابل إغضابها للأغنياء على هذا النحو. فالبند الأبرز في الموازنة هو رفع الحد الأدنى للأجور إلى 700 جنيه شهرياً، ويستفيد منه 1.9 مليون عامل بالدولة، بتمويل 7.5 مليارات جنيه. وهو كان أدنى كثيراً من طموحات العمال الذين يطالبون، منذ خمس سنوات، بحد أدنى للأجور يكون 1200 جنيه شهرياً، ليتناسب مع مستويات الأسعار. كذلك أثار تحديد الحد الأدنى للأجور من دون أيّ مفاوضات مع ممثلي العمال، الكثير من الشكوك حول الحديث المستمر عن الحوار الاجتماعي. وإجمالاً زاد بند الأجور في مشروع الموازنة العامة بنسبة 21.6% عن ميزانية العام السابق، فيما زاد إجمالي الموازنة العامة 25% عن العام السابق. وفي الوقت نفسه، زاد بند الدعم بنسبة 32.2%، وهو البند الذي يتضمن دعم المواد البترولية الذي يستفيد منه أصحاب الشركات والمصانع، وارتفع من 67.68 مليار جنيه في الموازنة السابقة إلى أكثر من 99 مليار جنيه في الموازنة المطروحة، من إجمالي 138.79 مليار هو كل بند الدعم. وفي الوقت نفسه، انخفض دعم السلع التموينية الذي يستفيد منه الفقراء من 23.5895 مليار في الموازنة السابقة، إلى 18.88 مليار في الموازنة المطروحة.
هذه مجرد ملاحظات سريعة على أول موازنة عامة طرحتها الدولة بعد ثورة قدم فيها الفقراء تضحيات ضخمة، ليتخلصوا من نظام لم يكتف بالانحياز لصالح رجال الأعمال ضد الفقراء، بل أتى برجال الأعمال مباشرة إلى الحكم. لكن الآمال والطموحات التي انعقدت على حكومة ما بعد الثورة سرعان ما تتبدد، عند رؤية ترددها وارتباكها في التعامل مع أول مشروع للموازنة العامة. فالحكومة تعرف جيداً أنّ الثورة فرضت استحقاقات للفقراء يجب أن تسدد. وتعرف أيضاً أنّها لن تتمكن من سداد تلك الاستحقاقات من دون المساس بامتيازات رجال الأعمال التي حصلوا عليها في عهد مبارك. لكن إلى أيّ مدى سيتسامح المستثمرون في ذلك، وإلى أيّ مدى ستحتمل الدولة إغضابهم؟ هذا ما أجاب عنه مشروع الموازنة. وعلى الرغم من أنّ ما عرضته الدولة كان خجولاً للغاية، فإنّها لم تستطع حتى التمسك به. فتحت ضغط رجال الأعمال ومؤسساتهم وإعلامهم، اضطرت الدولة إلى التراجع عن فرض ضريبة توزيع الأرباح والدمج والاستحواذ، مضحية بـ2.5 مليار جنيه. هذا هو التراجع الوحيد الذي أقدمت عليه الدولة حتى الآن، في مشروع الموازنة العامة الذي طرحته، ومع ذلك فهو مؤشر على الطريق الذي ستسلكه، عندما يشرع رجال الأعمال في الضغط من أجل مصالحهم.
لا يمكن اتهام الحكومة بأنّها تخلّت عن أي من تعهداتها. فمقولات العدالة التي رددتها، هي نفسها التي رددها مبارك لعقود، والتمسك بسياسات السوق الحرة مع مراعاة البعد الاجتماعي، كان نفس ما يقال من قبل. ولا يمكن تطبيق سياسات السوق الحرة ودعم المستثمرين، من دون أن يدفع الفقراء التكلفة. الفارق بين اليوم والأمس أنّ نظام مبارك لم يأت بعد ثورة منتصرة استطاع المصريون فيها إطاحة نظام انتصر على كل الأزمات وتجاوز كل الظروف. هذا بالضبط مأزق النظام المصري اليوم. فتحت ضغط ثورة منتصرة، عليه أن يقدم بعض التنازلات للجماهير، ويتبنى خطاباً اجتماعياً يغازل الفقراء. وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن يتبنى سياسات السوق الحرة، بما يضمن علاقته بصندوق النقد والبنك الدوليين ويتخذ إجراءات تزعج الرأسماليين.
الخطاب الذي تقدمه الحكومة، والوعود التي تقطعها، لن تطعم الفقراء ولن تشعرهم بتغيّر حقيقي في حياتهم. والمعارك التي خاضوها ضد نظام مبارك حتى أطاحوه، قطعت الطريق على أي إمكانية لإرهابهم بالقمع والاستبداد. الخيارات أمام النظام المصري محدودة للغاية: إما الانحياز للفقراء أو للأغنياء، والوقوف في منتصف الطريق لن يرضي أيّاً من الطرفين. المناوشات الخجولة التي يقوم بها النظام مع رجال الأعمال، ستشعرهم بالقلق وتدفع المستثمرين إلى البحث عن سوق أكثر أمناً، لكنّها لن ترضي الفقراء، لأنّها لن تؤدي إلى تحسن في أحوالهم. السبب الضمني لقيام الثورات هو استحالة القيام بإصلاحات جزئية تنقذ النظام وتهدئ الجماهير. ولو كانت هناك ثمة إصلاحات يمكن الإقدام عليها، لكان نظام مبارك أولى بها. وما لم يتمكن نظام مبارك من القيام به لإنقاذ نفسه قبل سقوط مئات الشهداء، لن تتمكن أنظمة تالية على الثورة من القيام به. قد تكون الخيارات صعبة أمام النظام التالي على الثورة، لكن التردد في عصر الثورة نتائجه أكثر صعوبة.
* صحافي مصري