للمرة الثالثة منذ 1948، تنوي القيادة السياسية الفلسطينيية إعلان الدولة الفلسطينية. فبعد إعلان حكومة عموم فلسطين في غزة في أيلول/ سبتمبر 1948، وإعلان الاستقلال على الضفة الغربية وقطاع غزة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، تُعِد القيادة الرسمية الفلسطينية العدّة لإعلان الدولة الفلسطينية على حدود 1967، في شهر أيلول المقبل. مع اقتراب هذا الموعد، يحتدم النقاش في ما ستؤول إليه هذه المبادرة، وخاصة بعد رفضها من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية. ومع أنّ أكثر التساؤلات تداولاً حالياً هو إذا ما كانت منظمة التحرير الفلسطينية ستُقدِم بالفعل على هذه الخطوة، وعدد الدول التي ستعترف بالدولة، وقدرة مؤسسات السلطة على الإمساك بزمام الأمور، فإنّ السؤال الأهم في هذا السياق هو إلى أيّ حد يخدم إعلان الدولة الفلسطينيين؟ فمع تَبني مشروع النقاط العشر في المجلس الوطني الفلسطيني في 1974، مروراً بإعلان الاستقلال في 1988، واتفاقية أوسلو وما تبعها من الاتفاقيات، نمت وتطورت فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، بكونها جزءاً من حلّ الدولتين، حتى أصبحت عقيدة، بل ديناً يتبعه البعض، بدون تناول فكرة الدولة وحلّ الدولتين بطريقة نقدية، وطرح الأسئلة المهمة. الأحرى أن نسأل، كما ردد محمود درويش في ظروف مشابهة: «ماذا نريد؟». هل سيؤدي الإعلان إلى حلّ القضية بشكل عادل نسبياً؟ هل سيلبي مطالب الفلسطينيين، على اختلاف مواقعهم الجغرافية (الضفة الغربية وغزة واللاجئين والداخل)؟ هل سيكون على حساب شريحة معينة؟ من المستفيد الأكبر من الدولة؟ هل هم النخب أم الطبقات الأكثر معاناةً مثل اللاجئين؟ هل ثمة تضارب في المصالح بين تلك النخب والطبقات المتضررة من مشروع الدولة؟ هل الدولة هدف أم وسيلة؟ وإذا كانت وسيلة، فما هو الهدف؟
لقد أعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أنّ خطة إعلان الدولة ليست من باب الخدعة أو المناورة، أو كما كتب في مقالته في صحيفة «نيويورك تايمز»، هي ليست «المسرح السياسي». من وجهة نظره، سيؤدي إعلان الدولة والاعتراف الأممي بها، إلى تدويل الصراع قانونياً وسياسياً، وسيفتح الطريق لملاحقة إسرائيل في الأمم المتحدة والمحافل الدولية ومحكمة العدل الدولية. لكن بالرغم من محاولة تصوير هذا الإعلان على أنه إنجاز كبير، تشير دراسة متروية ومعمّقة لخطوة كهذه، إلى أنّ احتمال تحقق النتائج المنشودة ضعيف جداً، بل إنّ هذه المبادرة تحمل في طياتها مخاطر عدّة، قد تكون نتائجها على الفلسطينيين أفدح من نتائج اتفاقية أوسلو.
فالاعتراف الدولي في الجمعية العامة لن يقيم الدولة، وتصويت أغلبية الدول في الجمعية العامة لن يضمن انضمام الدولة إلى الأمم المتحدة. فالعضوية محكومة بميثاق الأمم المتحدة الذي ينص في مادته الرابعة على أنّ قبول أي دولة في الأمم المتحدة يكون بقرار من الجمعية العامة، بناءً على توصية مجلس الأمن. و«توصية مجلس الأمن»، كما صرحت محكمة العدل الدولية في قرارها الاستشاري الصادر في 1950، يجب أن تكون إيجابية، وفي حال عدم توصية مجلس الأمن بقبول دولة معينة، لا تستطيع الجمعية العامة ضم تلك الدولة إلى عضوية الأمم المتحدة.
إنّ احتمال انضمام الدولة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة ضئيل جداً، بسبب الفيتو الأميركي. لكن، لنسلم جدلاً بأنّ الدولة المعلنة ستحصل على الاعتراف الدولي، وستنضم إلى الأمم المتحدة، كيف سيكون تأثير ذلك على ديناميات الصراع؟ يأمل الرئيس الفلسطيني وفريقه أن تؤدي هذه الخطوة إلى قوننة الصراع عبر ملاحقة إسرائيل قانونياً، في المحافل الدولية. لكن الصراع قانوني، وإن لم يكن في إطار دولة فلسطينية. ومجال العمل في الإطار القانوني مرهون بموازين القوى والمصالح والعلاقات الدولية، ولن يؤدي إعلان الدولة إلى توسيع مجال العمل القانوني إلا بالشيء القليل؛ إذ إنّ موازين القوى والمصالح لن تتغير بمجرد إعلان الدولة. فالدولة الفلسطينية لن تستطيع التوجه إلى محكمة العدل الدولية؛ لأنّ إسرائيل لا تقبل الولاية الجبرية للمحكمة. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى أغلب معاهدات حقوق الإنسان، فلم تُوقع إسرائيل البروتوكولات الاختيارية لتلك المعاهدات التي تتيح تقديم الشكاوى ضدها مباشرة. كذلك إنّ أيّ إجراءات عقابية تجاه إسرائيل، منوطة بقرار من مجلس الأمن المرهون بالفيتو الأميركي. أما على صعيد الجمعية العامة، فمجال العمل مفتوح للفلسطينيين، بدون الحاجة إلى إعلان الدولة، فمنظمة التحرير تستطيع بسهولة تجنيد أغلبية في الجمعية العامة. وبالفعل، استُخدمت هذه الإستراتيجية في السابق، من دون الحاجة إلى دولة. فقد اتخذت الجمعية العامة قراراً في 2003، لإحالة ملف الجدار الفاصل على محكمة العدل الدولية، لتقديم فتوى قانونية استشارية. وقد أصدرت المحكمة تلك الفتوى في 2004، وقضت بعدم قانونية الجدار. لكنّ السلطة، للأسف، لم تستنفد كل الأدوات والمنافذ التي قدمتها تلك الفتوى، ولم تسع إلى استصدار غيرها.
يبدو أنّ التطور الوحيد الذي يمكن أن يطرأ على الصعيد القانوني، نتيجة لإعلان الدولة، هو انضمامها إلى اتفاقية روما المتعلقة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، بهدف مقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين. ومع أنّ تطوّر كهذا هو تطور إيجابي، إلا أنّه لا يضمن مقاضاة مجرمي الحرب، إذ إنّ كون فلسطين دولة، وانضمامها إلى الاتفاقية، سيزيل أحد المعوقات الرئيسية، ولكن ستبقى معوقات أخرى كثيرة، وعلى أي حال، ستمر سنوات عدّة، قبل أن يُفضي أي تحقيق إلى اعتقال أو نتائج. فحتى في هذا المجال، إعلان الدولة لن يكون له التأثير الكبير. أما بالنسبة إلى المكاسب السياسية، فلا يبدو أنّها ستكون كبيرة. لن يؤثر التغيير الاسمي من «سلطة حكم ذاتي» إلى «دولة» على الواقع الميداني أو السياسي. ليس من المتوقع أن يؤدي إعلان الدولة إلى انسحاب إسرائيلي، أو تسليم المعابر الحدودية إلى الفلسطينيين، أو سيطرة الدولة على الموارد الطبيعية، أو المجال الجوي، أو الصادرات والواردات، أو ضمان حرية الحركة. فميدانياً، سيبقى الأمر على ما هو عليه، وسيضطر محمود عباس إلى استصدار تصريح مرور، كلما أراد الخروج من رام الله. ودولياً، لن تتأثر صورة إسرائيل كثيراً، فقد احتلت إسرائيل مناطق تابعة لسيادة دول أخرى، لفترات طويلة، كاحتلالها لسيناء وجنوب لبنان، بل ضمّت مناطق محتلة إلى سيادتها، كما هي الحال في الجولان، ولم تكن لتلك الافعال أيّ تداعيات باستثناء الاستنكار والشجب.
لعل الأثر الأكبر لإعلان الدولة الفلسطينية، سيكون على مستوى إعادة تعريف الصراع بما يعود بنتيجة سلبية على الفلسطينيين. فإعلان الدولة في مثل هذه الظروف، سيؤدي إلى المزيد من التشويه في رؤية العالم للصراع. فقبل مرحلة أوسلو، كانت الأمور واضحة نسبياً: إسرائيل دولة شرّدت الفلسطينيين في 1948، واحتلت ما بقي من الأراضي في 1967. أما بعد أوسلو وقيام السلطة، فقد أدت المناصب الرمزية الخالية من السيادة الفعلية إلى تعقيد الوضع: فالفلسطينيون شعب تحت الاحتلال، ويطالب بحق تقرير المصير من جهة، ومن جهة أخرى للفلسطينيين رئيس ورئيس وزراء وحكومة ووزارات وسفارات وبرلمان وشرطة تتعاون على نحو مكثف مع إسرائيل، وتعلن قيادتها مراراً أنّ إسرائيل ليست العدو. شكلياً، يقوم الفلسطينييون بحكم أنفسهم، لكن فعلياً الأمور بيد إسرائيل، والصلاحيات التي يمارسها الوزراء والسفراء ليست لها علاقة بالسيادة. أدت تلك الصورة المشوهة والواقع المربك، إلى تعقيد الأمور للمراقب العادي، وفتح المجال لإسرائيل للتنصل من التزاماتها كدولة محتلة، والادعاء أنّ الفلسطينيين «يتمتعون» بحكم ذاتي وحقوق، وأنّ أوضاعهم الاقتصادية جيدة، وأنّ المسؤولية لكلّ ما يجري تقع على عاتق الفلسطينيين. لذلك، ليس على إسرائيل حرج في اتباع سياسات لضمان أمنها.
هنا تكمن خطورة إعلان الدولة في مثل هذه الظروف، إذ إنّ هذه الخطوة ستؤدي إلى إعادة تعريف الصراع على المستوى الدولي، من صراع بين دولة احتلال وشعب نصفه واقع تحت الاحتلال ونصفه الآخر في الشتات، إلى صراع عادي على الحدود بين دولتين. ستزداد الصورة تشوهاً، وسيزداد الواقع ارتباكاً. سيصبح للفلسطينيين دولة، لكن بدون سيادة، رئاسة ومؤسسات لكن بدون سلطة أو سيطرة، وتمثيل ورموز سيادية بدون قدرة على اتخاذ قرارات سيادية، واعتراف دولي مناف للواقع على الأرض. فيظهر الأمر للخارج بأنّه نزاع عادي على الحدود، لكن باطنه إعادة إنتاج السيطرة الإسرائيلية بوسائل أخرى.
مع هذا التحوّل، ستفقد القضية الفلسطينيية تَميّزها كآخر الصراعات ضد الاستعمار، وستفقد قدرتها على تجنيد التضامن الدولي، كحركة تحرر وطني. ستصبح خلافاً حدودياً لا فرق بينه وبين الخلافات الحدودية الكثيرة بين الدول. وسيحمل إعلان الدولة تداعيات سلبية كثيرة على اللاجئين الفلسطينيين. فإسرائيل ترفض حق العودة، بل وأي مسؤولية عن تهجير اللاجئين. وعند إعلان الدولة، وفقدان القضية الفلسطينية لكثير من عوامل القوة المعنوية وعناصر الدعم والتضامن الدوليين، سترتكز أي مفاوضات مستقبلية على مقومات الدولة وحدودها والإجراءات الأمنية. ستُستنفَد كل عوامل الضغط الباقية في هذا الاتجاه، تحت مسمى «بناء الدولة»، وستبقى قضية اللاجئين، وحق العودة، مسألتين هامشيتين تعطيها القيادة الرسمية بعض الاهتمام مرة في السنة، أي في خطابات إحياء ذكرى النكبة.
وقد يسأل السائل: إذا كان إعلان الدولة قد يؤدي إلى هذه النتائج السلبية، فلماذا ترفضه إسرائيل؟ يمكن تفسير الموقف الإسرائيلي بمحاولة للتقليل من حالة «عدم اليقين» (uncertainty). فمع أنّ إسرائيل تتمتع بتفوق عسكري وسياسي، إلا أنّ سياستها ترتكز على تجنب المخاطرة والتشبث بالأمر الراهن الذي تستطيع هي تغييره تبعاً لمصالحها، بدون إثارة الكثير من الضجة الإعلامية. فالوضع الحالي في الضفة الغربية هو الأمثل بالنسبة إلى إسرائيل، الأمن مستتب بتمويل فلسطيني ـــــ عربي ـــــ دولي، والضفة الغربية تحت سيطرتها شبه المطلقة، وهي مفتوحة كسوق للبضائع الإسرائيلية، فلم التغيير إذاً؟ الأفضل من ناحية إسرائيل هو الوصول إلى دويلة فلسطينية (أو كيان سياسي يُسمى دولة)، بتصميم وقياس تمليه إسرائيل، ويقبل به الفلسطينيون، تُظهره للعالم كتنازل كبير، ويضع أمام الفلسطينيين التزامات كبيرة. المسألة بالنسبة إلى إسرائيل إذاً هي مسألة تكاليف العملية، لا مبدأ الدولة بحد ذاته. لقد باتت الدولة الفلسطينية المحدودة السيادة، على جزء من أراضي الضفة الغربية وغزة، موضع الإجماع الصهيوني، بل إنّها مصلحة إسرائيلية، إذ ستحل هذه الدولة «مشكلة» إسرائيل الديموغرافية، من ناحية إنهاء السيطرة المباشرة على الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه، تحل بعض التناقضات الداخلية لتعريف الدولة كدولة يهودية، وتطبيع مكانتها السياسية والدولية، ومنحها المزيد من الشرعية.
في «مديح الظل العالي»، طرح درويش عدداً من الإجابات الممكنة لسؤاله «ماذا تريد؟»، مثل العلم والجريدة والسيادة فوق الرماد، لكنّه ما لبث أن رفض تلك الإجابات وسخر منها. وكرر درويش إجابته هو عن تلك الأسئلة، قائلاً: «أنتَ، أنتَ المسألة». وأنهى قصيدته ساخراً من رمزية فكرة الدولة قائلاً: «ما أوسع الثورة، ما أضيقَ الرحلة، ما أكبَرَ الفكرة، ما أصغَر الدولة!». قد تكون العودة إلى فكرة «أنتَ، أنتَ المسألة» التي تضع الإنسان في قلب المعادلة، بدلاً من الدولة أو الكيانات أو المصالح الأخرى، أفضل نقطة انطلاق للإجابة عن هذه الأسئلة، وللبحث عن جدوى الدولة والبدائل الممكنة وأهميتها.
* باحث ومستشار قانوني سابق
لمنظمة التحرير الفلسطينية