تعيش فتح أزمة عميقة. السنوات الخمس الأخيرة كانت الأشد وطأة على الحركة التي احتكرت مواقع السلطة والنفوذ في الساحة الفلسطينية، لأربعة عقود. وضع صعود التيار الإسلامي الفلسطيني الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اختبارات حقيقية وصعبة. وفي غضون عامين، كان الرسوب الكبير النتيجة النهائية لهذه الاختبارات. مرّة في انتخابات 2006 التي خسرتها فتح، ومرّة في الهزيمة العسكرية التي تلقتها في 2007، في قطاع غزّة. لكن شيئاً لا يُعادل الخسارة الجسيمة المتمثلة في عجز فتح عن استدراك مأزقها واستخلاص العبر. وفيما يُجادل الكثيرون بأنّ إخفاقات حماس في الحكم ستمنح فتح فرصة جديدة، فإنّ شكوكاً عميقة تحيط بهذه الفرضية. إنّ جزءاً كبيراً من المراجعات التي حصلت لتقويم ما جرى لفتح، في السنوات الأخيرة، ارتكز على الفكرة القائلة بأنّ مشكلة الحركة ذات طابع بنيوي، تتمثل في غياب الحدود الفاصلة بينها بوصفها تنظيماً، وبين السلطة الفلسطينية بما هي مشروع مؤسسات دولة. لكن خسارة فتح لسلطتها على غزة بعد سيطرة حماس، وإبعادها عن السلطة وموارد الدعم الغربي في سياق مشروع عبّاس ـــــ فيّاض لتقديم نموذج للإدارة السياسية والمالية الرشيدة تحت رقابة دولية، خلق البيئة الملائمة لاختبار هذه الفكرة. تبيّن أنّ ابتعاد فتح عن مواقع السلطة خلّف فراغاً هائلاً في الفضاء العام الفلسطيني الذي يُفترض بفتح أن تملأه بما هي تنظيم جماهيري عائد إلى موقع المعارضة ليعمل ويعبئ. طُرحَ السؤال الجوهري إذن: أين فتح؟
عزّز هذا الغياب، والحال هذه، المنطق الكامن وراء الادّعاء بأنّه، على مدار سنوات طويلة سابقة، لم يكن ثمّة تنظيم حقيقي، وأنّ فتح أسّست لمنظومة زبائنية متكاملة، تتحوّل فيها لبوابة العبور إلى مواقع النفوذ في السلطة الفلسطينية. وفي اللحظة التي حصل فيها فك الارتباط مع السلطة، فإنّ هذه المنظومة بدأت تفقد أسسها الموضوعية. لقد اعتادت فتح، على مدار عقود، أن تكون في موقع النفوذ الأول، بالقرب من موارد المال، وحين خسرت كلّ ذلك، دخلت في تيه حقيقي حول تعريف ذاتها، فهي تعاني اليوم، قبل كل شيء، أزمة هويّة. يمكن على هذا الأساس فهم الأسباب التي تقف وراء المعارضة الفتحاوية لسلام فياض. لقد حلّ فيّاض محل ياسر عرفات رجلاً وحيداً يوزّع الأموال والعطايا والمناصب، لكن وفقاً لمنظور جديد، مختلف عما تريده فتح.
يدرك الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بدقة المسار السياسي الذي اختاره. لا يسعه الآن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. يريد الذهاب بمشروع التفاوض إلى نهاياته القصوى، وعلى نحو متوازٍ، يريد التقدم بنموذج دولة المؤسسات الذي يُعدّ أحد أوراقه في إقناع المجتمع الدولي بأهمية قيام الدولة الفلسطينية. من وجهة نظر عبّاس، فإنّ فتح العاجزة، التي تضرب الفوضى أركانها، لا يمكنها أن تكون قائمة على مشروع من هذا النوع. لذلك، يدأب على دعم فياض في مقابل تيار كامل في فتح يرفضه، ويسعى إلى استبداله. كان الرئيس الفلسطيني من بين القلّة القليلة التي عرفت أنّ النجاح الوحيد لمؤتمر فتح في آب 2009، الذي كان التعويل عليه فاتحة مرحلة جديدة لإصلاح الحركة، يكمن تحديداً في عدم فشله. استطاع أن يحصل منه على ما يريد من شرعية، وفرض هيمنته قائداً أوحد، ثم شقّ طريقه الخاص. إنّه لا يختلف كثيراً عن الراحل عرفات سوى أنّه يستخدم قفازات ناعمة.
أصابت هذه القفازات في آخر جولة القيادي محمد دحلان. أُبعد جزء كبير من رجاله عن دائرة القرار، وأوعز عبّاس بحجب المواقع الإلكترونية المقربة منه، وأخيراً اتخذت اللجنة المركزية قراراً بفصله. ليس هذا سوى فصل جديد في مسلسل التنافس بين مراكز القوى في فتح. لا يدور الصراع حول إصلاح فتح (فدحلان ليس إصلاحياً على كل حال) بل حول مواقع النفوذ في حركة انسد على ما يبدو أفق إصلاحها. ستمثل عودة فتح للسلطة عبر الانتخابات ـــــ إذا جرت ـــــ إعادة إنتاج لكل الأخطاء الكبيرة التي رافقت مسيرة فتح مع السلطة. لكن السؤال المطروح الآن ليس قدرة فتح على العودة للسلطة، بل قدرتها على الذهاب موحّدة لأيّ استحقاق سياسي قادم. إنّ حركة تعاني أزمة هويّتها الخاصة، وعجز آلياتها الداخلية عن توفير مؤسسات لصناعة القرار في ظل وجود هذا العدد الكبير من التيارات والرؤيات والمصالح المتناقضة، يصعب عليها أن تبقى موحّدة. وسيكون من الطبيعي أن تتعمّق عملية الفرز داخل أطرها بحيث تعبّر الجماعات المختلفة فيها عن رؤياتها الخاصة، عبر أشكال جديدة خارج الفضاء الهجين الذي تمثله فتح الآن، فهل يكون دحلان أوّل المنشقّين؟

* صحافي فلسطيني