لقد نادى خطاب الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الأوروبية الغربية بالديموقراطية، في جميع أنحاء العالم، لعقود أثناء الحرب الباردة. وكان النموذج السوفياتي في حينها، في واقع الأمر، قد أصبح جذاباً لكثير من البلدان في آسيا وأفريقيا (فضلاً عن أميركا اللاتينية)، إذ لم يكن نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة، والمعروف باسم قوانين جيم كرو، مثالاً يمكن أن تحتذي به شعوب انتهت لتوّها من تحرير نفسها من نير الاستعمار الأوروبي الذي اتخذ من التفوق العنصري الأوروبي مبرراً لحكمه الاستعماري.
وهذا، كما هو معلوم، ما دفع بالولايات المتحدة إلى تدشين طريق إنهاء نظام الفصل العنصري، الذي استُهل بالمحاكمة القانونية الشهيرة «براون ضد مجلس التربية والتعليم» في 1954، التي مهدت السبيل لإنهاء الفصل العرقي في المدارس الأميركية في جنوب البلاد.
وبما أنّ الولايات المتحدة عملت في جميع أنحاء العالم على القضاء على حق تقرير المصير الذي انتزعته أخيراً شعوب آسيا وأفريقيا، تحت غطاء مناوءة «الديموقراطية الغربية» لـ«لشيوعية الشمولية»، الذي خلف ملايين القتلى على يد الولايات المتحدة وحلفائها (بدءاً من كوريا، مروراً بالكونغو، وأندونيسيا، وفييتنام، وكمبوديا، ولاوس، ومن غواتيمالا إلى البرازيل إلى الأرجنتين والأوروغواي والسلفادور، وتشيلي، وجنوب أفريقيا والشرق الأوسط)، فليست الحروب الوحشية التي شنتها على العراق وأفغانستان، في العقد الأخير، سوى استمرار للنهج المناهض للديموقراطية ذاته. على الرغم من ذلك، يشير مؤيدو سياسة الولايات المتحدة الخارجية إلى انتصارين أساسيين لها على الجبهة الديموقراطية، وهما: سقوط الاتحاد السوفياتي الذي تلته «دمقرطة» أوروبا الشرقية، ونهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. يحدو الولايات المتحدة الأمل أن تسير بسياساتها على هدي هذين المثالين، لتحقيق أهداف مماثلة في البلدان العربية التي لم تستطع سحق انتفاضاتها.
ولكن مطالبة شعوب الكتلة الشرقية بالدمقرطة إنما كانت للحفاظ على (لا التخلي عن) جميع المكاسب الاقتصادية لفترة الحكم الشيوعي، إضافة إلى إرساء الديموقراطية. أما الولايات المتحدة، فقد سوّقت لوهم «الديموقراطية الغربية» كغطاء لإفقار أغلبية شعوب المنطقة ولتفكيكٍ كاملٍ البنية الرعاية الاجتماعية التي أفادت منها هذه الشعوب، على مدى عقود. وهكذا، خلال بضع سنوات، وعبر ما أطلقت عليه نعومي كلاين اسم «عقيدة الصدمة»، تحوّلت روسيا من بلد يعيش فيه أقل من مليوني شخص تحت مستوى الفقر العالمي إلى بلد يعاني فيه 74 مليون نسمة من الفقر. وقد حذت بولندا وبلغاريا حذوها. وكما ازداد عدد أصحاب المليارات، وارتفع هامش الربح للشركات الأميركية في الكتلة الشرقية السابقة، بمساعدة من المنظمات الإمبريالية اللامعة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فقد انتقلت الولايات المتحدة، تحت ضغط دولي، بثبات لإبرام اتفاق لإنهاء الفصل العنصري السياسي في جنوب أفريقيا.
وإن اضطرت شعوب الكتلة الشرقية إلى التضحية بنظام الرعاية الاجتماعية وبالرفاه المعيشي، مقابل نهب صريح لبلدانها من قبل رأسمالية عصاباتية على غرار المافيا، فقد بيعت «الديموقراطية» لشعب جنوب أفريقيا مقابل تكثيف الفصل العنصري الاقتصادي، والتنازل الكامل عن السيادة الاقتصادية للبلاد. ففيما بقيت طبقة رجال الأعمال بيضاء عرقياً، رغم تطعيمها بعدد ضئيل جداً من غير البيض (كما فعلت نظيرتها في الولايات المتحدة منذ السبعينيات)، فقد ظلّت الطبقات الفقيرة على طبيعتها العرقية المعهودة. أما اليوم، فها هي جنوب أفريقيا دولة مثقلة بالديون ومقيّدة عبر توقيعها على اتفاقيات وبروتوكولات اقتصادية عديدة، تمنعها من إعادة توزيع الملكية الخاصة الممتلكة عنصرياً من البيض (والمحمية بموجب الدستور الجديد للبلاد). كذلك لا تستطيع تلك الدولة توفير زيادات في الأجور، نتيجة التزاماتها تجاه صندوق النقد الدولي الذي يصرّ على «ضبط النفس» في مسألة زيادة الرواتب. والنتيجة كانت تزايد الفقر العرقي الطابع، المستشري في البلاد، وتعاظم الفصل العنصري الاقتصادي تحت غطاء «إنهاء» الفصل العنصري السياسي.
في الشرق الأوسط، كانت اتفاقات أوسلو، التي جرى التوقيع عليها في الوقت ذاته تقريباً الذي كانت تُفرض فيه الديموقراطية على الطريقة الأميركية في أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا، أسوأ من ذلك. فقد سرّحت السلطة الفلسطينية (استجابة لتعليمات الولايات المتحدة وإسرائيل) المجتمع المدني الفلسطيني الذي كان قد استرد عافيته على نحو ملحوظ، خلال الانتفاضة الأولى، فيما ظهرت المنظمات غير الحكومية التي تموّلها الدول الغربية بقوة على الساحة. وقد احتوت هذه المنظمات غير الحكومية المفكرين الفلسطينيين، والتكنوقراط، والأهم من ذلك كله، الناشطين السياسيين السابقين في خدمة الأجندة الغربية التي حوّلت تلك المنظمات غير الحكومية الأجنبية إلى «المجتمع المدني» المحلي. كلّ ذلك بينما كانت الحكومات الغربية تموّل السلطة الفلسطينية الفاسدة، المتعاونة مع الاحتلال الإسرائيلي. أما الفقر، فقد عمّ معظم الضفة الغربية وكامل قطاع غزة، مواصلاً تدمير حياة الفلسطينيين هناك. وفي هذه الأثناء، كان يجري تحويل العراق أيضاً من العصر الحجري، الذي وصل إليه بفضل قنابل الولايات المتحدة، إلى «ديموقراطية « المافيا التي فرضتها واشنطن عليه، فيما سُحبت كافة الخدمات الاجتماعية التي كانت قائمة في عهد صدام. ومن ثمّ سُلّم النفط العراقي إلى الشركات الأميركية، لاستكمال عملية النهب والتدمير الأميركية الجارية في ذلك البلد.
وقد أُغرقت الدول العربية الأخرى، ولا سيما مصر، بالمنظمات غير الحكومية المموّلة من الغرب، بينما كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يعملان على ضمان بقاء الثروة المحلية في يد رأس المال الدولي وطبقة رجال أعمال محلية صغيرة ومطيعة، تدعم الديكتاتوريات المحلية. أما النشطاء في مجال حقوق النساء والعمال، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق الفلاحين، والدفاع عن حقوق الفقراء والمضطهدين الذين كانوا أعضاءً في مجتمعاتهم التي يدافعون عنها، فلم يعد يمكن العثور على الكثير منهم. فقد جرى الآن توظيفهم في المنظمات غير الحكومية، المموّلة غربياً، وأُغدقت عليهم رواتب خيالية، ومن ثم جرى تقديمهم وإظهارهم كأنّهم هم المجتمع المدني المحلي. ولكن بما أنّ تسريح المجتمع المدني العربي فشل في نهاية المطاف في إحباط الغضب الشعبي المصري والتونسي ضد اثنين من أكثر الأنظمة فساداً في آسيا وأفريقيا ما بعد الاستقلال (أو حتى في أميركا اللاتينية)، فقد استنبطت الولايات المتحدة وحليفتاها، السعودية وقطر، مجموعة من الخطط الاقتصادية الجديدة لـ«دعم» الانتفاضات الأخيرة، وخاصة الاقتصاد المصري الأكبر والأكثر أهمية.
لقد وردتنا بشرى كرم الولايات المتحدة وشهامتها مبكراً. في الواقع، في اليوم الأول بعد إطاحة مبارك الذي دعمته إدارة أوباما حتى آخر يوم له في منصبه (وحتى بعد تنحيته)، بشّرتنا صحيفة «نيويورك تايمز» بأنّ «البيت الأبيض ووزارة الخارجية يبحثان بالفعل موضوع تخصيص أموال جديدة لدعم صعود الأحزاب السياسية العلمانية» في مصر. وبعدها بأيام قليلة، أعلنت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في 17 شباط/ فبراير 2011 أنّه «يسرني أن أعلمكم اليوم أنّنا سنعيد برمجة 150 مليون دولار لمصر، لنضع أنفسنا في وضع يسمح لنا بدعم انتقالنا هناك، وبمساعدة مصر، في تحقيق الانتعاش الاقتصادي». وقالت للصحافيين «وستزوّدنا هذه المبالغ المالية بالمرونة للاستجابة للاحتياجات المصرية والمضي قدماً». وبعد مرور شهر، في 16 آذار/ مارس، أعلنت كلينتون نيابة عن حكومة الولايات المتحدة: «إنّنا نعتقد أيضاً أنّ هناك إصلاحات اقتصادية ضرورية (يجب اتخاذها) لمساعدة الشعب المصري في الحصول على وظائف جيدة والعثور على عمل، لتحقيق أحلامهم. وهكذا، نحن نودّ المساعدة في هذين المسارين: الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي».
بالفعل، انتهت استعدادات إدارة أوباما وحلفائه الأوروبيين والسعودية وقطر «للمساعدة» قبل 19 أيار/ مايو، تاريخ إلقاء أوباما خطابه عن الانتفاضات العربية، الذي أعلن فيه: «أولاً، لقد طلبنا من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تقديم خطة في مؤتمر قمة الدول الثماني G8، الذي سيعقد الأسبوع المقبل، لما يجب القيام به لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحديث اقتصادَي تونس ومصر. ويجب علينا معاً مساعدتهم على التعافي من العطل الذي سبّبته الاضطرابات الديموقراطية، ودعم الحكومات التي ستنتخب في وقت لاحق هذا العام. ونحن نحثّ الدول الأخرى على مساعدة مصر وتونس تلبية لاحتياجاتهما المالية على المدى القريب».
وإن كان ذلك غير كاف، فقد قدّم أوباما حيلة مضحكة لتخفيف الخمسة والثلاثين مليار دولار من ديون مصر ــــ مبارك على الشعب المصري بـ«إعفاء» مصر ما بعد مبارك من بعض هذه الديون «تصل قيمتها إلى مليار دولار... والعمل مع شركائنا المصريين على استثمار هذه الموارد لتعزيز النمو وروح المبادرة التجارية». ولكن يجب أن تقابل هذا الإعفاء من المليار دولار زيادة أكثر في مديونية مصر. ومن دون مفارقة، فقد أعلن أوباما، في الخطاب ذاته، «سنساعد مصر على استعادة أسواقها عن طريق ضمان قرض من مليار دولار لتمويل البنية التحتية وخلق فرص العمل... ونحن نعمل مع الكونغرس لإنشاء صناديق للمبادرة التجارية للاستثمار في تونس ومصر».
وكما خلق إفقار أوروبا الشرقية ثروة هائلة للنخب المحلية الجديدة وأسيادها من الشركات الأميركية والأوروبية، يؤكد أوباما أنّ المساعدة المالية الأميركية «ستكون على غرار الصناديق التي دعمت التحوّلات في أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين. فستُنشئ مؤسسة الاستثمار الخاص وراء البحار، وهي مؤسسة تمويل تابعة للحكومة الأميركية، قريباً، مشروعاً بـ2 مليار دولار لدعم الاستثمار الخاص في مختلف أنحاء المنطقة، وسنعمل مع حلفائنا لإعادة تركيز البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير بحيث يوفر الدعم نفسه لعمليات الانتقال الديموقراطي والتحديث الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما فعل في أوروبا». ولكن هذا ليس كل شيء، فالولايات المتحدة ستُطلق أيضاً «مبادرة شراكة تجارية واستثمارية شاملة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». وإقراراً منه بأنّ جشع السعوديين والأميركيين أدى إلى توجه كلّ أرباح النفط لضخّ الاستثمارات في الاقتصادات الأوروبية والأميركية منذ السبعينيات، على حساب المنطقة ذاتها التي رزحت تحت فرض سياسات إعادة التكيّف الهيكلي لصندوق النقد الدولي (ومنها الخفوضات في الدعم للفقراء وخفض الأجور للعمال، وزيادة الدعم للأغنياء، وتقييد حقوق الطبقة العاملة، وإلغاء القوانين التي تحمي المنتجات المحلية، وبيع البلاد لرأس المال العالمي، ورفع أسعار المواد الغذائية)، ما سبّب الاضطرابات الجارية، يريد أوباما اليوم أن يذهب جزء من عائدات النفط إلى الاستثمار داخل العالم العربي. وأوضح أوباما: «سنعمل مع الاتحاد الأوروبي لتسهيل مزيد من التجارة داخل المنطقة، وبناءً على الاتفاقات القائمة، سنعزز التكامل مع الأسواق الأميركية والأوروبية، وسنفتح الباب لتلك البلدان التي تتبنّى معايير عالية من تحرير التجارة والإصلاح لبناء ترتيب للتجارة الإقليمية. وتماماً كما مثّلت عضوية الاتحاد الأوروبي حافزاً للإصلاح في أوروبا، ينبغي أن تخلق رؤية اقتصاد حديث ومزدهر قوة دافعة للإصلاح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».
جنباً إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا، عمل أوباما على الإعداد بسرعة. ففي نهاية أيار/ مايو، تعهد زعماء مجموعة الدول الثماني الصناعية الأكثر ثراءً بإرسال مليارات الدولارات من المساعدات لمصر وتونس. وأعلن ساركوزي أنّه «يأمل أنّ حزمة المساعدات ستصل في نهاية المطاف إلى ما مجموعه 40 مليار دولار، منها 10 مليارات دولار من السعودية وقطر والكويت». كذلك أجرت قطر، في الوقت ذاته، مباحثات مع شركائها الخليجيين لإعداد خطة جديدة لإنشاء بنك الشرق الأوسط للتنمية لدعم الدول العربية في الانتقال إلى الديموقراطية. وقد استلهمت خطتها، وفقاً لتقارير صحافية، من البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية «الذي ساعد على إعادة بناء اقتصادات ومجتمعات دول الكتلة الشرقية في نهاية الحرب الباردة». ويتوقع بنك الشرق الأوسط للتنمية، قيد الإنشاء، أن يوفر عشرات المليارات من الدولارات من القروض السنوية للتحوّلات السياسية. وتسعى قطر إلى الحصول على دعم من المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة لهذه المبادرة. والواقع أنّ السعودية سبق أن قدمت، قبل بضعة أسابيع، منحة قيمتها 4 مليارات دولار للمصريين، فيما أعلن صندوق النقد الدولي، قبل أيام، عن قرض قدره 3 مليارات دولار سيقدمه إلى مصر. مع هذا كلّه، فقد هرب يوسف بطرس غالي، وزير مال مبارك، الذي لطالما أشاد بكفاءته صندوق النقد الدولي ووصفه بوزير المال الأكثر كفاءة، والذي عيّنه الصندوق في 2008 رئيساً للجنته المالية، خارج البلاد. وقد حكمت عليه محكمة مصرية قبل أيام بالسجن ثلاثين عاماً بتهمة الفساد. وكان بطرس غالي قد استقال من منصبه في صندوق النقد الدولي قبل أسبوع من سقوط مبارك في شباط/ فبراير الماضي، وقبل فراره من البلاد. ولكن صندوق النقد الدولي لا يرتدع ولا يرعوي. فـ«مساعدته» لمصر ستتواصل، ولن تقف في طريقها مسائل تافهة من هذا القبيل. وعلاوة على ذلك، وكجزء من الجهود الرامية إلى سحق التظاهرات الشعبية ومطالب إرساء الديموقراطية في الأردن، منحت المملكة العربية السعودية 400 مليون دولار «لدعم الاقتصاد الأردني وتخفيف العجز في الميزانية». وقد قدمت أيضاً المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي (الذي سمّي أخيراً «نادي الخليج للثورات المضادة»)، قبل بضعة أسابيع، دعوة إلى النظامين الملكيين الوحيدين الباقيين على قيد الحياة، خارج الجزيرة العربية، أي الأردن والمغرب، للانضمام إلى المجلس.
ولكن إذا كانت الصفقة الأميركية في أوروبا الشرقية قائمة على إفقار الغالبية العظمى من الشعب تحت غطاء الديموقراطية، عبر تمكينها الشركات الأميركية من نهب اقتصاداتها، وإذا كانت الصفقة في جنوب أفريقيا قائمة على حماية النهب العرقي في البلاد من قبل المواطنين البيض وشركائهم الدوليين، والحفاظ على المستوى نفسه من هذا النهب، تحت غطاء الديموقراطية أيضاً، فما هو إذاً شكل التبادل السياسي والاقتصادي الذي يجري الإعداد له في العالم العربي؟
من الواضح أنّ الهدف في البلدان التي انتصرت فيها الثورة ــــ المضادة المدعومة من قبل الولايات المتحدة والسعودية هو الحفاظ على المستوى نفسه من النهب الإمبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة، مصاحباً بقمع الشعوب المعبّأة، وبتعزيز النخب الاقتصادية المحلية (والبحرين وعُمان والأردن، أمثلة نموذجية على ذلك) أو إنقاذ حاشية الديكتاتوريات المنهارة (سواء الحليفة للولايات المتحدة أو غير الحليفة) كي تقوم بقيادة التحوّل السياسي واستئناف الشراكة مع الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً (وليبيا واليمن وحتى سوريا هي الأمثلة في هذه الحالة). ولكن ماذا عن مصر وتونس حيث استُهدف عدد كبير من حاشية النظامين اللذين أطاحتهما الانتفاضتان بتهم الفساد والتواطؤ في أعمال العنف التي شنّتها الأنظمة البائدة؟ إنّ المحورالأميركي ــــ السعودي يسعى إلى تركيز جهوده هناك.
وقد أعربت نخبة من رجال الأعمال التي نجت بأعجوبة من اتهامات رسمية في مصر، وهي نخبة ضخمة، عن قلقها من التظاهرات والإضرابات وتعطيل الاقتصاد (وتعطيل أرباحها). منهم الملياردير نجيب ساويرس الذي يتصور نفسه مؤيداً، إن لم يكن زعيماً، للانتفاضة المصرية. وكان والده وأخواه قد أصبحوا أيضاً من أصحاب المليارات في سنوات قليلة، بعد دخولهم في شراكة مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، أيام سياسة «انفتاح» السادات، وخاصة بعد غزو الولايات المتحدة للمنطقة في 1990 ــــ 1991. وهو مع العديد من «الشرفاء» من رجال وسيدات الأعمال، على استعداد لحمل الشعلة للولايات المتحدة في مصر «الديموقراطية»، تماماً كما حملوها بأمانة في ظل مبارك. وقد أسّس ساويرس حزباً سياسياً جديداً، وهو يرفض الآن الانضمام إلى التظاهرات الجارية أيام الجمعة، التي، حسب ادّعائه، تضعف الاقتصاد. وقد أعلن أخيراً أنّه «من الخطأ أن يتهم كلّ رجال الأعمال في البلاد بارتكاب جرائم»، مصرّاً على أنّ «الكثيرين منهم شرفاء وقد ساعدوا في خلق فرص عمل للمصريين». كذلك تحتفل الولايات المتحدة وأوباما برجال أعمال من الشباب كالساذج وضحية «متلازمة استوكهولم» وائل غنيم (وإصابته بـ«متلازمة استوكهولم»ــــ وهي حالة سيكولوجية يتعاطف فيها المخطوف مع خاطفيه ــــ هي العذر الوحيد المقبول لغنيم الذي أمضى معظم مقابلته التلفزيونية الشهيرة مع منى الشاذلي بالبكاء والدفاع عن خاطفيه من رجال الشرطة السرية لنظام مبارك). وكان غنيم قد قام بجولة في الولايات المتحدة أخيراً، تحدث خلالها إلى مديري بنوك دوليين، فضلاً عن اقتصاديي البنك الدولي، بصفته «زعيماً» للثورة المصرية، نيابة عن شركة غوغل ذاتها.
ولكن معظم المصريين والتونسيين، على عكس شعوب أوروبا الشرقية تحت الحكم الشيوعي، فقراء بالفعل. والشكل الرئيسي لنظام الفصل العنصري الذي يحكم المصريين والتونسيين، بخلاف نظرائهم السود والفقراء في جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري السياسي، هو الفصل الطبقي والاقتصادي. فما هو المقابل إذاً الذي يتحتّم عليهم دفعه لقاء منحهم الديموقراطية على الطريقة الأميركية؟
الإجابة بسيطة. هناك تفهّم متزايد لدى واضعي السياسة الأميركية بأنّ على الولايات المتحدة ركوب موجة الديموقراطية في المنطقة، ولا سيما في تلك البلدان التي لم تقدر على إخماد انتفاضاتها. وبذلك، فإنّه ينبغي عليها خلق الظروف السياسية التي من شأنها الحفاظ على معدل السلب والنهب الإمبرياليين نفسه لاقتصاداتها، كما كان من قبل. وتسعى جميع الأموال السعودية، تليها الأموال الأميركية، وخطط وقروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لدعم النخبة من رجال الأعمال والمنظمات غير الحكومية المموّلة من الخارج، بهدف تسريح المجتمع المدني المعبّأ حديثاً، عن طريق استخدام اللغة النيوليبرالية ذاتها لإعادة التكيّف الهيكلي التي دفع بها صندوق النقد الدولي منذ أواخر السبعينيات. والواقع أنّ أوباما وشركاءه يدّعون الآن أنّ المطلب الرئيسي الثوري للشعب في مصر وتونس، إن لم يكن في العالم العربي بأسره، هو فرض مزيد من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وهو مطلب سيستجيب له الغرب بكل محبة. أما أنّ هذه هي السياسات الإمبريالية ذاتها التي فرضها على بولندا صندوق النقد الدولي (وأنتجت حركة «التضامن» في 1980)، وأدت في النهاية إلى إسقاط الاتحاد السوفياتي، وقادت إلى إفقار العالم بأسره، مع إيلاء اهتمام خاص بأفريقيا والعالم العربي، وأميركا اللاتينية، فيعتبرها أوباما تذمرات اشتراكية ليست ذات قيمة. وبهذا المعنى، فإنّ الولايات المتحدة لن تضمن استمرار هذه السياسات الاقتصادية الإمبريالية التي فرضها رأس المال العالمي واعتمدها مبارك وزين العابدين بن علي فحسب، بل سيجري تكثيفها تحت غطاء الديموقراطية.
ثمة تحرك للحدّ من الاحتجاجات الاقتصادية والإضرابات العمالية المستمرة في مصر وتونس. وحال إجراء الانتخابات لإرساء طبقة جديدة من خادمي النظام الجديد، سنسمع أنّه يجب اعتبار كل المطالب الاقتصادية «معادية للثورة»، ويجب أن يحاكم من يقوم بها أو يحرّض عليها بتهمة محاولة «إضعاف»، إن لم يكن «تقويض»، «الديموقراطية» الجديدة. وإن أقامت الولايات المتحدة تحالفات جديدة مع أحزاب إسلامية محلية، كما يبدو واضحاً، فقد نسمع حينها أنّ الاحتجاجات الاقتصادية والمعارضة للسياسات النيوليبرالية الإمبريالية هي «ضد الإسلام». إنّ «الديموقراطية» التي ستفرضها الولايات المتحدة في المستقبل القريب، على افتراض أنّ شيئاً من هذا القبيل سيحدث فعلاً، تصبو على وجه التحديد إلى إبقاء الفقراء مقموعين وإلى نزع الشرعية عن مطالبهم الاقتصادية. فالصفقة التي ترنو الولايات المتحدة إلى تحقيقها، عن طريق فرض نظام سياسي ليبرالي ما، في كلّ من مصر وتونس، ليست سوى نهب إمبريالي أكثر، لا أقل، لاقتصاديهما ولسبل كسب العيش للطبقات الفقيرة التي تمثّل الأغلبية العظمى من السكان. والهدف الأكبر للولايات المتحدة هو خطف الانتفاضات المنتصرة على الأنظمة الديكتاتورية، تحت غطاء الديموقراطية، لمصلحة النخب التجارية المحلية والدولية ذاتها التي كانت في السلطة في ظل حكم مبارك وبن علي. سيعتمد نجاح الولايات المتحدة وحلفائها المحليين في الوصول إلى هذا الهدف على مدى مقاومة الشعبين المصري والتونسي لهذا المشروع.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، وقد صدر كتابه ديمومة المسألة الفلسطينية عن دار الآداب في ٢٠٠٩