تتلاحق التفجيرات شبه اليومية في العراق، لتخلف عشرات القتلى والجرحى، في تصعيد خطير لم يستدعِ من الحكم ورموزه سوى التصريحات المكرَّرة، والتلميحات الكيدية، من هذا الطرف ضد ذاك. وكأنّ هذا المسلسل الدموي الطازج لم يعد كافياً للساعين وراء التصعيد، كُشِفَ النقابُ أخيراً عن مجموعة من المجازر المروِّعة التي ارتكبتها أطراف طائفية وتكفيرية ضد المدنيين، منها مثلاً مجزرة «زفاف التاجي» في 2006. ويبدو أنّ الصدفة وحدها قادت إلى كشف هذه الجريمة بعد اعتقال شخصين عثر بحوزتهما على وثائق وصور وتسجيلات فيديو، وعشرات الوثائق الشخصية العائدة للضحايا في تلك المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 70 شخصاً، جميعهم من المدنيين. التفاصيل التي أدلى بها المعتقل الأول فراس فليح الجبوري كانت مروعة وصادمة، أذهلت العراقيين، وأحدثت موجة عارمة من الغضب والحزن، ونكأت جروحاً لم تكد تندمل في الذاكرة الجمعية لهذا الشعب الصابر المبتلى. ما يزيد من الشعور بالمرارة، أنّ سفاح مجزرة «زفاف التاجي» الأول، كان قد نجح في اختراق إحدى منظمات حقوق الإنسان وصار رئيساً لها. نعم، ذبّاح تكفيري، ورئيس منظمة لحقوق الإنسان في الوقت ذاته! فرصة كهذه لم يفوّتها المالكي، فبادر إلى انتقاد وإهانة المجتمع المدني العراقي، وكافة منظمات حقوق الإنسان، في مؤتمر صحافي «لأنّها أصبحت ملاذاً للإرهابيين». وسرعان ما جاء الرد على المالكي في مؤتمره ذاك: اقتحمت سيدتان عراقيتان تقود إحداهما، وهي هناء أدوار، جمعية حقوقية، مؤتمره الصحافي واحتجتا في وجهه، وطالبتاه بالاعتذار عن تلك الاتهامات والإهانات، وبإطلاق سراح أربعة شبان يساريين من منظمي تظاهرات ساحة التحرير. إضافة إلى ما سبق، فإنّ المعتقل فراس الجبوري المتهم بالمساهمة في تلك المذبحة، حائز على شهادتي ماجستير في العلوم السياسية والتاريخ، وقد نجح في التقرب من قيادة قائمة «العراقية»، وضُبطت له صور عدّة مع رئيسها علاوي، ومسؤولين آخرين. بل قيل أيضاً إنّه كان مسؤولاً عن فرع القائمة في إحدى مناطق الرصافة ببغداد، لكن حركة علاوي «الوفاق»، وليس «العراقية»، هي التي سارعت إلى التبرؤ من الجبوري، ونفت أيّة صلة لها به، رغم الصور والأدلة التي نشرت على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، موضحة أن ما قيل مجرد «أصوات مسعورة تكيل التهم لنا لتشويه سمعتنا».
لن نخوض كثيراً في التفاصيل السوداء لتلك المجزرة، لكنّنا نقول باختصار إنّها حدثت حين اختطفت مجموعة من ميليشيات «الجيش الإسلامي»، تضم أكثر من ثلاثين مسلحاً، قافلة من المدنيين من عشيرة بني تميم، المشاركين في حفل زفاف، قادمة من منطقة «التاجي» شمالي بغداد وتتوجه نحو منطقة الدجيل ـــــ التي جرت فيها محاولة اغتيال صدام حسين في تموز 1982 فارتكب مجزرة ضد أهاليها، حوكم بسببها بعد الاحتلال وحكم عليه بالإعدام. قتل عناصر الميليشيا الرجال، واغتصبوا النساء ثم قتلوهن، واغتصبوا العروس ثم مزقوا جسدها، وتركوها تنزف حتى الموت، ليتبين في ما بعد أنّها من طائفة العرب السنّة. ويبدو أنّ القتلة ضاعفوا لها العقاب والعذاب، لموافقتها على الزواج من عراقي من طائفة اخرى. وأخيراً، قذف المسلحون بخمسة عشر طفلاً إلى النهر، بعدما ربطوهم بأثقال. السفاح الثاني الذي اعتقل ويدعى حكمت فاضل الجبوري، أدلى ببشاعات أخرى، لن نتوقف عندها. وفي معرض اعترافاتهما، أكد المعتقلان أنّ الشيخ المصري «أبو ذيبة»، هو الذي أفتى بجواز ارتكاب تلك الفظاعات (حامل شهادتي ماجستير، وينفذ فتوى للشيخ المصري أبو ذيبة بالقتل والاغتصاب!). أما مسرح الجريمة، فكان في قبو جامع يعود لأحد الشيوخ، وقد اعتقل لاحقاً.
قد يرى البعض أنّ الربط بين هذه الجريمة البشعة التي أخرجت أو عثر عليها صدفة في الأرشيف المخضب بالدماء، وبين التفجيرات وعمليات الاغتيال شبه اليومية المستمرة، مجرد ربط شكلي. نحن نعتقد عكس ذلك تماماً، ونرى أنّ مجازر اليوم هي استمرار لمجازر الأمس، سواء ارتكبها فريق مسلح من هذه الطائفة أو القومية العراقية أو من تلك، وسواء اعترف بها مرتكبوها أو ظلّت في حرز حريز. والقصد من هذه المجازر تدمير أية قوى مناهضة للاحتلال والطائفية، بتخطيط وتوجيه وتنفيذ مباشر أو غير مباشر، من الاحتلال الأميركي.
اليوم، مع اقتراب استحقاق جلاء القوات المعلن وفق الاتفاقية الأمنية، تتزايد حاجة الاحتلال إلى المجازر النوعية الكبرى. وكما كان تنظيم القاعدة والتنظيمات الحليفة له خير أداة بيد الاحتلال، فقد كانت بعض الميليشيات الشيعية والكردية وسيلته المثلى لزيادة سفك الدماء العراقية، وإشاعة أجواء عدم الاستقرار، والتدمير الشامل. الناطق الرسمي بلسان التيار الصدري، الشيخ صلاح العبيدي، أكد موقفاً مشابهاً لما نحن بصدده. قال إنّ عمليات الاغتيال والاختطاف ينفّذها عناصر من القوات الأمنية الحكومية، أما علميات تفجير العبوات والسيارات المفخخة والتفجيرات بالأحزمة الناسفة، فينفذها المحتلون الأميركيون، مباشرة أو بالواسطة والتسهيلات. هذا التيار يكاد يكون الطرف السياسي الوحيد في تمسكه بموقف رفض التمديد لبقاء قوات الاحتلال، خصوصاً بعد دخول المالكي، وتحالفه «دولة القانون»، مرحلة « التأتآت السياسية»، ومحاولته رمي مسؤولية اتخاذ قرار بهذا الصدد على الكتل السياسية تارة، أو على البرلمان تارة أخرى.
هكذا يفرّط المالكي، كما اعتاد أن يفعل دائماً في الأزمات والمواقف الكبرى، بالموقف الوطني اللازم والصحيح، وبفرصة تنفيذه، خوفاً على موقعه في الحكم. فبدلاً من أن يستغل تهرب أغلب الأطراف الطائفية والقومية من مسؤولية اتخاذ قرار بخصوص وجود الاحتلال، واعترافها بأنَّ ذلك القرار من مسؤولية السلطة التنفيذية بقيادة المالكي، فيعلن رفضه للتمديد فوراً، وبوضوح، ودون تردد أو مواربة، ويتحمل مسؤولياته ويؤلف حكومة أغلبية إذا ما حرك الاحتلال حلفاءه الأقربين أمنياً وسياسياً، بدلاً من ذلك نراه يُكَرِّس سياسة الكرسي الثالث، ويتحول إلى طرف في لعبة رمي الكرة السياسية. لقد بلغت استقالة المالكي السياسية وتهربه من الموقف الوطني حداً مثيراً للسخرية، فحين سأله أحد الصحافيين العراقيين قبل أيام: «وأنت دولة الرئيس.. ما موقفك، مع تمديد لبقاء الاحتلال أم ضده؟»، ردَّ المالكي بنبرة غريبة تقطر استهزاءً وتثير الرثاء: «دول كبرى فشلت في أن تنتزع مني جواباً عن هذا السؤال، وتريد أنت أن تناله بهذه السهولة؟».
إنّ ما كُشف عنه النقاب من مجازر أرشيفية مرعبة حتى الآن، ليس إلا قمة جبل الجليد والمصائب، وهناك الكثير من المجازر والجثث لم يكشف عنها بعد. وإذا كان ضحايا هذه المجزرة من طائفة معيّنة، فإنّ مجازر أخرى سيكون أغلب ضحاياها من الطائفة أو القومية المقابلة، وفي كلا النوعين من المجازر، فإنّ الضحية هو الإنسان العراقي البسيط، يقتله مجانين الطوائف والميليشيات، بعدما استولى عليهم سعار الدم والحرائق.
نختم بالإشارة إلى ما كتبه بعض الزملاء، داعين ـــــ عن حسن نية في الأغلب الأعم ـــــ إلى عدم نكء الجراح، وعدم الكتابة عن هذه المجازر، فالكتابة والكلام عنها ـــــ كما يظنون ـــــ يثيران الأحقاد، ويشددان من الاستقطاب والتحريض الطائفي. مع احترامنا للنيات الحسنة لحَمَلَة هذه الأفكار فإنّنا نرى، وعلى العكس من ذلك، ضرورة الكتابة والتحليل، وكشف تفاصيل المجازر والجرائم التي ارتكبت، وطرحها أمام أنظار الضحايا وغيرهم، وعدم اللجوء إلى دفنها تحت البساط على طريقة الزوجة الكسول.
إنّ الكلام التحريضي المُبَرِّر للجرائم، أو الداعي إلى الثأر من الطرف المقابل بارتكاب مجازر مماثلة مرفوض قطعاً، لكن التحليل وكشف الحقائق والتفاصيل، وتسجيل الإدانة للقتلة الطائفيين أياً كانوا، ومن أية طائفة أو قومية جاؤوا، ومن خلفهم المحتل الأميركي، هو الأسلوب الوحيد لقطع الطريق على مجازر أخرى مقبلة. بكلمات أخرى، إنَّ التستر على جرائم اليوم، يعني ضمناً بذر البذور لجرائم الغد، وليس أمام الشعوب الراغبة في النهوض والخروج من قاع كوارثها وخيباتها سوى التسلح بالشجاعة والصدق في نقد الذات الفردية والجماعية حين تنظر إلى ماضيها وحاضرها.

* كاتب عراقي