يرتكز مشروع الملك عبد الله على دعائم واضحة بدأت تتضح في آخر عهد سلفه الملك فهد. ويمكن تلخيص هذا المشروع في الآتي: تمكين المرأة، الحوار والتنوع والانفتاح، تجديد الخطاب الديني، المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي، تحقيق المواطنة، محاربة الفساد وتحسين أداء الأجهزة الحكومية للوصول إلى دولة الرفاه.اهتمام الملك بقضايا المرأة بدأ مبكراً منذ كان في ولاية العهد، والدليل على ذلك تصريحه الشهير في المنطقة الشرقية في 1999 عن حقوق المرأة. أثار ذلك التصريح استياء المشايخ، مما استدعى تصريحاً لمسؤول بارز، قال فيه: «تصريح ولي العهد عن حقوق المرأة لا يتناقض مع الشريعة الإسلامية». ولاحقاً، بدأت المرأة السعودية تظهر في الوسط الاقتصادي والحكومي بنحو لافت، في قرارات ـــــ تسجل للملك ـــــ هي الأولى من نوعها في المملكة. فدخلت المرأة في مجالس إدارة الغرف التجارية، وعيّنت نورة الفايز نائبة لوزير التربية والتعليم، والدكتورة هيا العواد وكيلة لوزارة التربية والتعليم، والدكتورة أروى الأعمى مساعدة لأمين مدينة جدة السابق عادل فقيه. كذلك زاد عدد المستشارات غير المتفرغات في مجلس الشورى، وتأسست جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن (للبنات)، وعُيّنت الدكتورة هدى العميل مديرة لها، ومنحت الدكتورة خولة الكريع وسام الملك عبدالعزيز. وكُسر تابو الاختلاط عبر جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، حين أقال الملك الدكتور سعد الشثري من هيئة كبار العلماء، يوم جاهر بمعارضة الاختلاط وطالب بفرض وصاية دينية على الجامعة. وساهم الملك في كسر تابو النقاب بظهور ابنته الأميرة عادلة بنت عبد الرحمن للعلن ـــــ وهي صاحبة نشاطات وتصريحات تنويرية خصوصاً في مجال حقوق المرأة ـــــ واستقبال الملك المتكرر للوفود النسائية، وغير ذلك من القرارات والتلميحات.
الحوار والتنوّع والانفتاح واضحة في مشروع الملك عبد الله، ومنها دعوته إلى الحوار الوطني حين كان ولياً للعهد (رغم الملاحظات التي ارتآها مراقبون حول عدم تطور التجربة وعدم تطبيق توصياتها)، ثم دعوته إلى حوار الأديان حين أصبح ملكاً، وقراره بأن تضم هيئة كبار العلماء كلّ المذاهب السنية، إضافة إلى مشروع الابتعاث إلى الخارج لتطوير الشباب السعودي. وفي تلك الخطوات، تجديد للخطاب الديني عبر حثه على الحوار وقبول الآخر، إضافة إلى الحرب على الإرهاب التي استدعت شحذ همم المثقفين والعلماء المعتدلين لمحاربة الانغلاق والكراهية، داخل الخطاب السعودي الديني التقليدي. وكان دعم الملك عاملاً إيجابياً في توسيع هامش الحرية في الصحافة والإعلام، وهو حاميه وضمانته.
كذلك يتضح في مشروع الملك موضوع المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي وتحقيق المواطنة. نستطيع أن نرى ذلك حين نعرف أنّ الملك هو الجندي المجهول خلف تفعيل الانتخابات البلدية في عهد سلفه الملك فهد. وهو، في لفتة معنوية، استقبل مراراً وفوداً شيعية، وهو حريص على التواصل معهم.
كذلك احتلت محاربة الفساد وتحسين أداء الأجهزة الحكومية للوصول إلى دولة الرفاه، مساحة واضحة في تصريحات الملك حين ينتقد تعثر بعض المشاريع الحكومية وتقصير بعض الوزارات، ثم حربه على الفساد بعد كارثة السيول في جدة، وتصريحه بأنّه سيصار إلى التحقيق ومحاسبة «كائناً من كان». وفي هذا السياق، يأتي اهتمام الملك بملف إصلاح القضاء، إذ خصص مبلغ 7 مليارات ريال لتطوير مرفق القضاء، ومن ثمرات ذلك الشروع في اعتماد تنظيم قضائي جديد منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2007.
بعد فشل ثورة حنين المزعومة في 11 مارس/ آذار 2011، تكشفت بعض الإرهاصات الرمزية التي تجعلني أخشى على مشروع الملك عبد الله للإصلاح. ففي أبريل/ نيسان 2011، أصدرت وزارة الداخلية قراراً بمنع السيدات من العمل في وظيفة مسؤول صندوق (كاشيير) ـــــ وقد تسربت وثيقة القرار عبر الإنترنت. القرار صدر نتيجة دراسة أجرتها لجنة في وزارة الداخلية، وهي «اللجنة الاستشارية المعنية بدراسة ما يشتبه أنّ فيه إساءة للدين الإسلامي الحنيف والقيم والعادات الاجتماعية». من جانبها، نفت وزارة العمل ـــــ رائدة المشروع ـــــ وقف عمل السيدات في تلك الوظيفة، ونتيجة هذا الالتباس فصلت بعض الشركات السيدات والفتيات اللاتي جرى تعيينهن مسبقاً (قرار وزارة الداخلية مناهض لروح تعميم مجلس الوزراء في مايو/ أيار 2004 الذي دعم توظيف المرأة في كل المجالات).
كذلك، اعتقلت وزارة الداخلية الناشطة منال الشريف، في مايو/ أيار 2011، بعد قيادتها السيارة بالمنطقة الشرقية. اتهمت منال بالإخلال بالنظام، وتأليب الرأي العام. (لا أدري كيف أخلّت منال الشريف بالنظام، في ظل عدم وجود أي مادة نظامية تمنع المرأة من قيادة السيارة. إنّ قراري وزارة الداخلية السابقين غير نظاميين بسبب توقيع المملكة على اتفاقية سيداو المناهضة للتمييز ضد المرأة).
كذلك مُنعت المرأة من المشاركة في الانتخابات البلدية، بعد وعد من وزارة الشؤون البلدية قبل 6 سنوات بأنّها ستشارك في الدورة الحالية. (هذا القرار بما فيه من رمزية موجهة ضد المرأة ـــــ كما في القرارات السابقة ـــــ تسبب أيضاً في إضعاف صدقية وعود الحكومة).
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ إجراء الانتخابات البلدية من دون أي تعديلات جوهرية تطال نظامها الأساسي ـــــ بعد تعطيل دام سنتين بحجة دراسة التجربة ـــــ يشير إلى تباطؤ النظام في توسيع المشاركة الشعبية. فلا تزال المجالس بلا صلاحيات رقابية أو تشريعية، ورغم حصر صلاحيات المجالس في البعد الاستشاري، يصمم النظام على تعيين نصف أعضائها.
كذلك، صدرت تعديلات نظام النشر في 30 أبريل/ نيسان 2011، ونصّت على العديد من المواد الغامضة التي يمكن أن تستخدم ـــــ في حال توافر سوء النية ـــــ ضد حرية التعبير والنشر. من تلك المواد منع أي وسيلة صحافية أو إعلامية نشر «ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة النافذة، ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية، ما يضر بالشأن العام في البلاد، التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلى مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء أو رجال الدولة أو أي من موظفيها أو أي شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية الخاصة».
ولجأ المعنيون إلى التعاطي السلبي مع احتجاجات المناطق الشيعية شرق البلاد، بل حاولوا إلصاق ثورة حنين بالطائفة الشيعية، في حين أنّ احتجات المواطنين في المنطقة الشرقية مشروعة، ومن أجل قضية عادلة (اعتقال بعض المواطنين منذ 16 سنة من دون محاكمة!). هذا إذا ما تجاهلنا أنّ أعمال التظاهر والاحتجاج مشروعة في ظل الالتزام بمبدأ السلمية والطرق الحضارية (الحديث عن منع التظاهر أو تحريمه وتجريمه، لا أساس له بعد توقيع المملكة على الشرعة العالمية لحقوق الإنسان).بالإضافة إلى ذلك، كان هناك السكوت، أو عدم التصدي للنبرة الطائفية العنصرية التي بدت من بعض الوعاظ والعلماء المتطرفين في المملكة ضد الطائفة الشيعية، مما أدى إلى احتقان واضح تتجلى مظاهره في شبكات التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية. ووصل الأمر إلى أن نشر أحد التجار إعلاناً مدفوعاً في إحدى الصحف يؤكد أنّه ينتمي «إلى أهل السنة والجماعة»، وليس إلى أي طائفة أخرى!
وكان التعاطي السلبي مع الاعتصام الذي حصل أكثر من مرة أمام مقر وزارة الداخلية في الرياض. سبب تلك الاعتصامات أنّ عدداً كبيراً من المعتقلين في قضايا الإرهاب، منذ فترة طويلة تناهز السبع سنوات، لم يحاكموا. وهناك حديث من بعض الأهالي عن أنّ تلك الاعتقالات غلب عليها التعسف والمبالغة.
كذلك، حصلت موجة اعتقالات طاولت بعض الناشطين والمحتجين على هامش احتجاجات المنطقة الشرقية واعتصام أهالي المتهمين في قضايا الإرهاب.
في الوقت نفسه، أظهرت السياسة الخارجية المملكة في موقف المناوئ للربيع العربي الذي بدأ بثورة تونس ثم ثورة مصر، وتمدد إلى ليبيا واليمن والبحرين والجزائر والمغرب وعمان والأردن وسوريا. ويجعل ذلك البلاد تبدو ـــــ سواء صحّ ذلك أو لم يصح ـــــ في موقف معاد لحقوق الإنسان والديموقراطية. ومن مظاهر ذلك، استضافة المملكة للرئيس التونسي زين العابدين بن علي ـــــ الذي طرده شعبه ـــــ وحمايته من ملاحقة الإنتربول، إظهار الدعم للرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في خضم الثورة في مصر، ثم ما روي في الصحافة المصرية عن تدخل سعودي لمنع محاكمته وعرض استضافته في المملكة، وعدم إدانة مجلس الوزراء السعودي لجرائم معمر القذافي في ليبيا، على الرغم من الدور الكبير الذي أدته المملكة في فرض الحظر الجوي على نظام القذافي، وإظهار التضامن ـــــ ولو شكلياً ـــــ مع نظام البعث في دمشق والرئيس السوري بشار الأسد وعدم إدانة المجازر التي ترتكب بحق السوريين الأحرار. يستثنى هنا التعاطي السعودي والخليجي الممتاز مع ملف الثورة اليمنية، على الرغم من عدم إدانة مجلس الوزراء ـــــ علناً ـــــ مجازر الرئيس علي عبد الله صالح ضد الثوار في اليمن.
وفي ما يخص السياسية الخارجية كذلك، وقفت المملكة خلف الموافقة على انضمام الأردن، ودعوة مملكة المغرب، إلى مجلس التعاون الخليجي، ليظهر المجلس في خانة «نادي الملوك»، بعدما كان «نادي النفط». هذا، في ظل البطء الشديد الذي يعانيه الملف اليمني ـــــ الأكثر أهمية ومنطقية على كل الصعد ـــــ للقبول في أروقة المجلس.
جزء كبير من الإشكالات السابقة ـــــ بعد ثورة حنين) وحولها ـــــ سببه وزارة الداخلية. القائمون على الوزارة قيادات لها احترامها ومكانتها في الشارع السعودي بسبب قيمتها السياسية والشخصية. وإنّني أثق بأنّ شخصيات في وزن الأمير نايف بن عبد العزيز (وزير الداخلية) والأمير أحمد بن عبد العزيز (نائب الوزير) والأمير محمد بن نايف (مساعد الوزير) يتفهمون الرأي الآخر ويحترمونه، من باب إحسان الظن وريادة المصلحة العامة.
وزارة الداخلية، وإن كانت وزارة سيادية، هي في الوقت نفسه وزارة خدمية، مهمتها الأولى والأساسية تقديم خدمة الأمن للمواطنين والمقيمين. لذلك، يجب ألّا تستثنى وزارة الداخلية من النقد، لأنّ ذلك يساعدها ويدعمها في أداء مهمتها المطلوبة. وهذا النقد ليس بالضرورة انشقاقاً أو قلّة احترام للقائمين على الوزارة، خصوصاً أنّني أكنّ للنظام الأساسي للحكم (دستور البلاد) كلّ ولاء وتقدير.
تبدو وزارة الداخلية منحازة للتيار المحافظ أو الإسلاموي في المملكة، على حساب التيارات الأخرى، وهذه مشكلة لها ما يفسرها. يرتبط جهاز وزارة الداخلية في شخصيته بتكوين «شخصية الشرطي». مهمة الشرطي تطبيق الأوامر لحفظ الأمن، وهذا يقتضي الحرص والحذر والتخوف لحماية الاستقرار العام. يرتبط التغيير في ذهن الشرطي بالاضطراب، لذلك يتوجس عند المستجدات والتطورات، ويفضل بقاء الوضع القائم على ما هو عليه. من أجل ذلك، يبدو انحياز وزارة الداخلية للمحافظة واضحاً، مثلاً: قرار الوزارة في أغسطس/ آب 2009 بمنع العروض السينمائية في كلّ أنحاء البلاد، وتصريح وزير الداخلية تعليقاً على خطاب الملك في مجلس الشورى (2009): «تعيين المرأة عضواً في مجلس الشورى لا لزوم له».
لا تقوّم شخصية الشرطي الأمور بغير منظار الأمن، وإذا بقيت العقلية الأمنية، بدون حسيب ولا رقيب، فإنّها تطغى لتحيط قبضتها بكل نشاطات المجتمع، ومن هنا جاء وجود «اللجنة الاستشارية المعنية بدراسة ما يشتبه أنّ فيه إساءة للدين الإسلامي الحنيف والقيم والعادات الاجتماعية» بالوزارة. قد يُفهَم وجود هذه اللجنة في وزارة الثقافة والإعلام، أو مجلس الشورى، أو وزارة الشؤون الإسلامية، أو وزارة الشؤون الاجتماعية، لكن وجودها في وزارة الداخلية غير مبرر، مثل حاجة المواطن السعودي ـــــ أو المواطنة ـــــ إلى أخذ إذن الوزارة في حال الزواج من جنسية أخرى!
ما يفسر انحياز الوزارة الظاهر للتيار المحافظ هو أنّ شخصية الشرطي في الوزارة تأبى التغيير لحفظ الأمن، وشخصية الواعظ داخل التيار المحافظ تأبى التغيير خوفاً من البدعة وفقدان وصايتها (سلطتها) على المجتمع، حين تتقدم قيمة الحرية على قيمة الأمن، وحين تتقدم قيم التغيير على قيم المحافظة. يستمد التيار المحافظ سطوته من وزارة الداخلية، لأنّ شخصية الشرطي حين تأبى التغيير من منظور الأمن، تعتقد أنّها تلبّي رغبة أغلبية المجتمع التي تظنها محافظة (وهنا يتذكر السعوديون إغلاق وزارة الداخلية بعض المنتديات الإلكترونية الليبرالية أو التنويرية، رغم معاداتها لفكر التطرف مثل منتديات «طوى»).
في 26 مايو/ أيار 2011، صرّح الأمير أحمد بن عبد العزيز (نائب وزير الداخلية)، على هامش جائزة الأمير نايف للسنّة النبوية: «ليست مهمة الوزارة أن تقول هذا التصرف صح أو خطأ، مهمة الوزارة هي تطبيق الأنظمة، ونحن ملتزمون بتعميم صدر عام 1990 بمنع قيادة المرأة للسيارة». شخصية الشرطي ـــــ كما ذكرنا ـــــ تطبق الأوامر لحفظ الأمن، لكنّها في الوقت نفسه مستعدة لانتهاك الأنظمة في سبيل تحقيق الهدف السامي وهو الأمن، لأنّه من وجهة نظرها مقدّم على الحقوق.
التزمت وزارة الداخلية بالتعميم الرسمي الصادر في 1990 القاضي بمنع المرأة من قيادة السيارة، واعتقلت منال الشريف بعد قيادتها للسيارة في الخبر، بتهمة الإخلال بالنظام وتأليب الرأي العام. لكنّ الوزارة، في المقابل، وفي سبيل الحفاظ على الأمن، تنتهك «نظام الإجراءات الجزائية» كأنّه غير قائم، حين تتعاطى مع قضايا الناشطين السياسيين (قضية علي الدميني ود. عبد الله الحامد ود. متروك الفالح والمعتقلين الاثنى عشر من مارس/ آذار 2004 إلى أغسطس/ آب 2005) أو قضايا الإرهاب (ومنهم الناشطون المعتقلون في «قضية جدّة» منذ نحو خمس سنوات بتهمة تمويل الإرهاب الذين بدأت محاكمتهم أخيراً في ظروف صعبة)، وقضية «السجناء المنسيين» التي تظاهر من أجلها الشيعة في المنطقة الشرقية، وهي كلّها دليل ناصع على هذا الانتهاك. شخصية الشرطي المحصنة بالسلاح ممثلاً للدولة في حق الإكراه، حين يغيب الرقيب على أدائها، يسيطر عليها هاجس الأمن الذي يدفعها إلى الاعتقاد بأنّها الأكثر تأهيلاً لتحقيق العدل على حساب دور القضاء والأنظمة القانونية القائمة. فشخصية الشرطي تعتقد أنّ ثمة مساحات رمادية في القانون من الممكن أن ينفذ منها المتهم إلى حرية، بدلاً من العقاب الذي يستحقه من وجهة نظرها. وهذا ربما يفسر تبعية رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام (ما يوازي «المدعي العام» في الدول الأخرى) وظيفياً إلى وزير الداخلية، وهذه حالة ليس لها مثيل في كل دول العالم.
كانت العلاقة بين المثقف (في دوره السياسي) ووزارة الداخلية قبل الربيع العربي مشوبة بالتوتر والصدام، ولا استثناء في السعودية. ظاهرة قرارات «منع السفر»، إضافة إلى الاعتقالات التعسفية، التي تمارسها وزارة الداخلية على المثقفين المستقلين أصبحت مشوبة بالامتعاض. كتب تركي الدخيل في 1 أغسطس/ آب 2009 في صحيفة الوطن: «خلال الأسابيع القليلة الماضية تبادلت مواقع الإنترنت أنباءً متفرقة عن رفع منع السفر عن مجموعة من الناشطين الذين تحفظت وزارة الداخلية على بعض أنشطتهم. قد يقول البعض إنّ المنع كان يستند إلى احترازات أمنية، مع أني أستبعد ذلك، لأنّ الممنوعين من السفر كانوا يتمتعون بحرية الحركة داخل البلاد». ويضيف الدخيل: «حرية التنقل هي أحد الحقوق الإنسانية الرئيسة التي نعتقدها جميعاً. إنّ التعاطي مع المنع من السفر بوصفه عقوبة أو أشبه ما يكون بالعقوبة، هو خطأ في حق الوطن. منع المواطن من السفر من وطنه، شبه إقرار بأنّ هذا الوطن سجن كبير، ومن أشكال العقوبة أن نجعلك بين قضبان حدوده! لا أحد يرجو لوطنه أن يكون كذلك، ولو في أحاسيس بعض الممنوعين من السفر، وبخاصة إذا لم تكن ضدهم أحكام قضائية، أو تهم جنائية». الأمل هو أن يلتفت المقام السامي، بجدية وتجرّد، إلى ملف المنع من السفر والاعتقالات السياسية، ثم إغلاقه إلى الأبد، ليطوي ظلماً استفحل مداه.
لقد كان خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز، حين تولى الحكم، واضحاً وحاسماً: «سأضرب بسيف العدل هامة الظلم والجور». كلام الملك لم يبق أسير الورق، وبدأ يتجه إلى الفعل مع اهتمامه اللا محدود بمرفق القضاء وتطويره. لكن لن تصل كلمات الملك إلى مبتغاها إلا حين تعالج إشكالات عدّة. من تلك الإشكالات حسر مساحة الخوف لصالح مساحة الثقة في علاقة المثقف المستقل والناشط، والمواطن السعودي عموماً، بوزارة الداخلية، عبر الاحتكام إلى قيم الحق والعدل والمواطنة، وهذا يتأتى بالتزام الوزارة بحقوق الإنسان والأنظمة القائمة، خصوصاً نظام «الإجراءات الجزائية». كذلك، يجب حماية وزارة الداخلية من «شخصية الشرطي»، عبر حصر دورها في حفظ الأمن والتصدي لمنتهكي القانون، وفك ارتباط أمراء المناطق بها عبر إنشاء وزارة للحكم المحلي، وتمكين جهاز هيئة التحقيق والادعاء العام من الاستقلالية الواجبة. كذلك المطلوب حماية الحياة السياسية في البلاد من «شخصية الشرطي»، عبر سحب الملفات السياسية المنوطة بوزارة الداخلية إلى جهات سياسية أخرى ذات صلة، كالديوان الملكي ومجلس الشورى، واعتماد القضاء المستقل الذي يحتكم إلى قوانين واضحة مرجعاً في حال نشوب الخلاف. ومن جهة أخرى، العمل مستقبلاً على فك الارتباط بين منصب وزارة الداخلية وأي منصب سياسي آخر. من الضروري ايضاً، فك الارتباط بين ملف الأقليات وبين وزارة الداخلية لتحقيق قيم «المواطنة» و«العدالة»، خصوصاً أنّ النظرة للأقليات بما هي بؤر قد تشكل خطراً أمنياً يعني شرخاً قاسياً في مشروع الإصلاح يضر بالنظام حين يظهر في موقع التفرقة (ما قد يؤثر على ولاء المواطنين له) ويضر بالأقليات حين يحرمها من بعض الحقوق.
كذلك، ليس عدلاً أن يفني المثقف المستقل عمره خائفاً من جهاز يريد «عسكرة» المجتمع (وزارة الداخلية)، تحسباً من منع من السفر أو اعتقال تعسفي، وأن يصارع كذلك تياراً يريد أدلجة الإنسان (التيار الإسلاموي). يكفي أن تقف وزارة الداخلية في موقع الحياد لا الخصم أو الطرف. ويجب أيضاً النظر في ملف القضاء بجدية، فلا تكون الخصومة السياسية مع النظام أو ممارسة حرية التعبير حاجزاً يمنع سيف العدل عن هامة الجور والظلم.
بقيت الإشارة إلى عيب أساس في «شخصية الشرطي»: إنّ اعتقال منال الشريف لقيادتها للسيارة في دولة هي الوحيدة في كوكب الأرض التي تحول بين المرأة وحقها في حرية التنقل، دليل على النظرة القاصرة والسطحية التي وضعتنا في موقف حرج أمام العالم. كيف تخالف منال الشريف الأنظمة فيما تعلو اتفاقية «سيداو» على الأنظمة المحلية؟ كيف تؤلب منال الشريف الرأي العام وهي تطالب بحق مستحق؟ ما فعلته «شخصية الشرطي» مع منال الشريف، هو تكرار لممارسات حصلت مع الناشطين المطالبين بالإصلاح، والأهم من ذلك، تعاطي «شخصية الشرطي» مع ثورة حنين المزعومة.

* صحافي سعودي