رفاقي وأحبّائي من مخيّمات اليرموك وخان الشيح وسبينة والنيرب في سوريا،ما كان أجملكم وأنتم تتقدّمون، بجرأة وإيمان عزّ نظيرُهما، إلى الأسلاك الشائكة التي تفصلكم عن وطنكم فلسطين. كنتم تقولون لمغتصب أرضكم الحبيبة إنّ السنوات الطويلة التي أبعدتكم عنها لم تنسكم لحظة واحدة أنّكم على أهبة الاستعداد، في أيّ لحظة، للعودة إليها وطردِ المغتصب منها وبناءِ وطن يليق بمعاناتكم المديدة وبدماء الشهداء والجرحى الذين سقطوا من قَبْلكم.

■ ■ ■

تذكّرتكم يا رفاقي حين جلسنا معاً، العامَ الماضي، في اليرموك وخان الشيح، بعد ندوتين شرّفتموني بإلقاء كلمتيْن فيهما. بعد ندوة خان الشيح تحديداً، دعوتموني إلى العشاء في أحد بيوتكم. هناك، أبيتُ أن أتحدّث لأنّني كنتُ أودّ أن أسمعكم. أخبرتموني عن جهادكم اليوميّ لإبقاء راية فلسطين مرتفعةً في مخيّمات سوريا. أخبرتموني كيف رفضتم معاشات التفرّغ، وكيف تطوّعتم للعمل في مكاتب فصيلكم، لكي توفّروا عليه المال. قلتم إنّكم تدفعون من جيوبكم المثقوبة من أجل فلسطين، وتحْرمون أنفسَكم وعائلاتِكم لقمةَ العيش أحياناً. وحين طلبتم إليّ الحديث، تلعثمت، ثم انفجرتُ بالبكاء.
بكيتُ كما فعلتُ بعيْد رحيل «حكيمكم». قلتُ ـــــ إنْ كنتم ما زلتم تذْكرون ـــــ إنّني أشمّ فيكم رائحة جورج حبش، وإنّ الحكيم لم يمت بل يتجدّدُ حياةً بكم، يوماً بعد يوم. نعم، لم يكن حبش وأبو ماهر ووديع وغسّان كنفاني أكثرَ حياةً، في عينيّ، ممّا كانوا عليه في تلك الأمسية الرائعة. ولم تكن فلسطينُ التي فقدها آباؤكم وأجدادُكم أقربَ إلى قلبي من تلك اللحظة.
واليوم، إذ أراكم تواجهون المحتل الإسرائيليّ بصدوركم العارية، أشعر بأنّ إيمانكم بقضيّتكم العادلة يتجسّد فعلاً باهراً يلغي الحدود المصطنعة وكلّ معاهدات الاستسلام... المكتوبة وغير المكتوبة.

■ ■ ■

ولكنْ، ولكنْ، وأنتم يا رفاقي اعتدتم «لكنْ» منّي إلى درجة التأفّف والتململ:
ـ ألم تتساءلوا لماذا «سُمح» لكم اليوم بالوصول إلى الحدود بعدما مُنعتم، أنتم وآباؤكم، من ذلك طوال 44 عاماً؟
ـ لماذا «سُمح» لكم اليوم بمقاومة العدوّ الإسرائيليّ المجرم، المدجّج بالسلاح الفتّاك، بالحجارة فقط في أحسن الأحوال؟
ـ لماذا «سُمح» لكم اليوم بالتظاهر هنا، فيما يُقمع إخوانُكم ورفاقُكم... هناك؟
ـ لماذا «سُمح» لكم بالتعبير عن رأيكم أمام الحدود مع العدوّ، فيما تُهانون وتُذَلّون أمام كلّ الحدود العربيّة من المحيط إلى الخليج، بل تُمنعون أحياناً من إقامة نشاطات سلميّة إلّا برعاية الاستخبارات؟

■ ■ ■

رفاقي وأحبّائي في مخيّمات سوريا،
حين شاهدتُكم قبل أيّام على حدود مجدل شمس الأبيّة، تذكّرتُ يوم 15 أيّار. يومَها، نزلتُ مع رفاقي إلى الحدود اللبنانيّة مع فلسطين. كنّا عشرات الآلاف، وكان أمامنا أوّلَ الأمر، وأكرّر أوّلَ الأمر، ثلاثون جندياً لبنانياً. كان يَصْعب على أيّ عاقل ألّا يرى المذبحة قادمةً. اعذروني أيّها الشهداء والجرحى من برج البراجنة وعين الحلوة والبرج الشمالي والرشيديّة والبدّاوي وغيرها من مخيّمات لبنان، لكنّ دمكم الطاهر كان قد سُفك من قبلِ أن يُسفك! وهو قبل أيّام، يا رفاقي الشهداء والجرحى في مخيّمات سوريا، سُفك أيضاً من قبلِ أن يُسفك!
أعلمُ أنّ التحرير يتطلّب دماً؛ هذا ما علّمنا إيّاه شيخُنا السوريّ البطل عزّ الدين القسّام، والشهداءُ أبو جهاد، والشقاقي، وغسان، وأبو علي مصطفى، والآلافُ غيرهم، ولكنْ، ولكنْ، أكان من الضروريّ أن يُسفك هذا الدمُ من دون أن يُسفك دمُ جنديّ إسرائيليّ واحد؟ أيكون لزاماً عليكم، يا أبناء البرج والحلوة والخان واليرموك... أن تواجهوا السلاحَ عزّلاً؟ وما الهدفُ من ذلك؟ ألتُثْبتوا أنّكم تريدون العودة إلى دياركم الحبيبة؟ ومَن شكّك لحظةً، إلا أنصار الفاشيّة والعنصريّة في لبنان، في أنّكم لا ترضوْن عن فلسطين البهيّة بديلاً؟
ألم تتساءلوا السؤالَ الممضَّ الآتي: إذا «سُمح» لنا بالذهاب إلى الحدود مع فلسطين، أكان ذلك من لبنان أمْ سوريا، فلماذا لم نستحصلْ على سبل المواجهة المتكافئة، أو أقلّ منها قليلاً، وإلّا فلماذا لم نستحصلْ على سُبل «الأمان النسبيّ»، إنْ كان هدفُ التظاهر أمام الحدود تعبيراً معنوياً عن حقّنا ورغبتنا في العودة؟
ألم تتساءلوا، مثلما تساءل رفيقُكم يوسف فخر الدين: أين خطّة العمل؟ أين الكادر المختصّ الذي يَحُول دون أن تكونوا «صيداً سهلاً» أمام قنّاصة العدوّ؟ وما هو الهدفُ الحقيقيّ من ذهابكم إلى الحدود، ومن سقوطكم شهداء بررة، ومن تعويق العشرات منكم؟

■ ■ ■

رفاقي في مخيّمات لبنان وسوريا،
دمُكم أغلى ما في هذه الأمّة، فلنحرصْ على أن تكون كلُّ نقطة دم جديدة في خدمة هدف واضح لقضيّتنا. وعلى كلّ مَن يريدنا، من الحلفاء، أن نقاتل، أن يُخبرنا لماذا يريدنا أن نقاتل الآن الآن وليس غداً، أو في العام الماضي، أو في نهاية الثمانينيّات مثلاً؟ وعلينا أيضاً أن نسأل فصائلنا الفلسطينيّة: ماذا حدث؟ نريد توضيحاً علنياً، لا تعميماً داخلياً فحسب!
أعرفُ أنّ كلامي سيغيظ الكثيرين، وستتعالى أصواتُ المخوِّنين والمزايدين، غير أنّ ذلك كلّه لا يوازي حرصي وحرصكم على أن يصبّ كلُّ دم قادم في مجرى الهدف الصحيح: التحرير الحقيقيّ. والتحرير الحقيقيّ لا يكون، بالمناسبة، إلّا مترافقاً مع الحريّة والديموقراطيّة والكرامة الإنسانيّة.

* رئيس تحرير مجلة الآداب