أحدثت الاحتجاجات في سوريا إرباكا كبيراً في صفوف بعض اليسار السوري والمثقّفين «العلمانيّين»، كالشاعر أدونيس والمفكّر فراس السواح (الذي أصدر بياناً يعتبر فيه أنّ الدافع الأساسي للتظاهر هو ديني- طائفي). فقد وجد هؤلاء مفارقة كبيرة في أن تطالب مجموعات من «الغوغاء» بالحرية لهم ولبلدهم، خصوصاً وأنّهم كانوا قد نصّبوا أنفسهم قيّمين على الثقافة والوعي، يأخذون بيد الجماهير التعيسة رويداً رويداً نحو الحرية والديموقراطية والثقافة الإنسانيّة الرحبة، كون هذه الجماهير ما زالت تعيش عقليّة القرون الوسطى، والطريق الوحيد للانتقال من هذه الضفّة إلى ضفّة الحداثة يكون بإدخال الوعي والثقافة والديموقراطية لعامّة الشعب، ويا لها من مهمّة كبيرة ملقاة على عاتق هؤلاء «المخلصين».لكنّ هذه الجموع «الغوغاء» خرجت أخيراً من قمقمها، لتتظاهر وتطالب بالحرية، مُحدثة صدمة ومفاجأة لدى البعض. فكيف لشعوب لم يحدث أن تذوّقت الديموقراطيّة يوماً أن تناضل من أجلها؟ إنّها شعوب تعجز عن إدراك مصالحها، وهنا دور المثقّفين، إنّها شعوب دينيّة- طائفية بطبعها وستقودنا إلى الهاوية والفوضى.
هذا هو البوق الذي نفخ فيه هؤلاء المثقّفون، واستمرّوا بالنفخ ردحاً من الزمن قبل أن تخرج الجماهير العربية والسورية إلى الشارع لتثقب البوق، فتريح آذاننا، وتربك حساباتهم المعقّدة، وتجبرهم على ترقيع الثقب، عبر إصدار البيانات التوضيحيّة، لكن دون أن تجد هذه البيانات مكاناً لها، لا في حيّز الجماهير، ولا حتّى في الحيّز الثقافي العام الذي يمرّ بفترة إعادة إنتاج، على وقع الثورات الشعبيّة العربيّة.
وقد اكتسبت نظريّة هؤلاء المثقّفين بالنسبة إلى سوريا خصوصيّة أكبر من بقيّة الثورات العربية، حيث التنوّع الطائفي والعرقي. فبعد اندلاع الاحتجاجات الشعبيّة في سوريا، راحوا يركّزون على أنّ المحرّك الأساسي للصراع بالنسبة للمتظاهرين هو الدين- الطائفة، وبالتالي فإنّ علينا أن نتحفّظ عن دعمها، إلى أن يصبح محرّك الصراع هو العامل الثقافي والاجتماعي، فهذه هي الثورات «الصحيحة» التي نعرفها!
وهنا يحضرنا ما قاله المفكّر الشهيد مهدي عامل في ردّه على أدونيس بالذات حين قال: «ليس محرّك الصراع هو الدين، كما أنّ الصراع ليس دينيّاً، لقد كان الصراع الاجتماعي يتحرّك في المجتمعات العربية الإسلامية بشكله الرئيسي كصراع أيديولوجي- ديني، ففي شروط تاريخيّة ملموسة كان الديني هو شكل الصراع، لكن ذلك ليس مطلقاً أو ثابتاً، بل هو متنقّل حسب الشروط التاريخيّة الخاصة بالصراع الطبقي. إنّ اختلاف شروط الصراع هو الذي يحدد شكله، وإذا تحرّك الصراع في مجتمعاتنا منذ القرون الوسطى بشكل ديني، فهذا لا يعني أن الصراع لم يعد اجتماعياً، فالدين مجال لصراع طبقي في شروط تاريخية محدّدة».
وبالتالي، يجب أن نركّز أدوات التحليل على الشرط التاريخي المحدّد الذي سبق اندلاع الثورة والاحتجاجات في سوريا، والتي حدثت على أرضيته، ولا داعي للخوض طويلاً في استعراض حالة التصحّر السياسي التي دامت عقوداً في سوريا، وأسفرت عن مجتمع بدون ممثّلين سياسيين وبدون حياة سياسية.
وإذا كنّا لا نتّفق مع البعض بإعطاء العامل الذاتي بعداً «سوبرمانياً» يجعله الفاعل الوحيد في تحقيق المهمّات الديموقراطية للشعوب المتخلّفة، فإنّنا نعطي العامل الذاتي الأهمية التي يستحقّها وفقاً للشرط التاريخي الذي نمرّ به. ففي ظروف معيّنة، يساهم الأفراد والمتخصّصون والأحزاب في صناعة المستقبل، لكن خلال الانعطافات الحاسمة، عندما يصبح النظام المسيطر غير محتمل من وجهة نظر الجماهير، تقتحم هذه الأخيرة دائرة السياسة المغلقة، محطِّمة كل القيود والحواجز في طريقها.
صحيح أنّ الجماهير تعوّدت دائماً الابتعاد عن «شرور» دائرة السياسة، وتجنُّب عواقب الاقتراب منها، فكانت تهتمّ بشؤونها اليوميّة البسيطة، وتوكل كلّ ما عدا ذلك بشكل عفويّ للمثقّفين البيروقراط والتكنوقراط، لكنّ الشؤون البسيطة تضخّمت وأصبحت أكبر من القدرة على الاحتمال. وهكذا تتحرّر الفاعلية الاجتماعية للجماهير، لتزيل هذه الأحمال التي تنغّص حياتها. إنّها الثورة، عندما تستيقظ الجماهير وتشترك بنشاط وحيوية فريدة وغير معهودة في الحياة السياسية، إنها عندما تبدأ هذه الجماهير بأخذ مصيرها بأيديها بكل الوسائل الممكنة، العنيفة منها والسلمية.
ونترك لبعض المثقّفين مهمّة تحديد ما إذا كان هذا جيّداً أم سيّئاً، وما إذا كانوا يشعرون بالراحة على المستوى الشخصي من تطوّر الأمور على هذا الشكل بالذات، أم يشعرون بالانزعاج، أمّا نحن فسنأخذ هذا المسار الموضوعي للأحداث كما هو دون التفلسف الزائد على الجماهير الغاضبة، في لحظة لا نملك فيها شيئاً من أمرها، إنها اللحظة التي تملك فيها أمرها بنفسها.
لا شك في أنّ وجود أحزاب فاعلة ومجتمع مدني متطور، كان ليدفع الثورة إلى الأمام، ويسهّل ويسرّع عملية ولادة المجتمع الجديد، ويقلّل الخسائر التي قد تنجم عن الاندفاع الموضوعي الجارف للجماهير، فلا نقلّل أبداً من الأهميّة القصوى للقيادة السياسيّة التي ترفع الصراع الاجتماعي إلى مستوياته الاقتصاديّة والسياسيّة، وتبتعد به عن الشكل البدائي للصراع، أي الشكل الديني. لكن لمّا كانت هذه القيادة أقلّية ضعيفة سُحقت عبر العقود الماضية، وهي غير قادرة على قيادة الجماهير، فإن مشاكل الجماهير لا تقبل الاحتمال، ولن تستطيع الجماهير انتظار الأحزاب حتى تصبح مستعدّة لقيادتها، ولا انتظار المثقّفين حتّى يُدخلوها في عصر العلمانية والحداثة ويعطوها إشارة البدء في تحقيق الثورة. ستحاول هي أن تخرج من حياتها البائسة، وتعمل على تحقيق التغيير بالوسائل المتاحة.
وفي ظلّ غياب القيادة السياسية القوية، تصبح جميع أنواع التطورات الخاصة بالثورة محتملة الحدوث، وترتفع المخاوف من انحراف الثورة نحو الفوضى أو الحرب الأهلية، وهذا ما يستدعي تحليلات أعمق، ويستدعي أن نتعامل مع الحركة الجماهيرية كما هي في الواقع، كما تطوّرت تاريخياً، وأن نبذل قدراً أعلى من الجهد والعمل، من أجل الدخول في علاقة معها، للمساعدة في الوصول للمستقبل الحتمي، مع الأخذ في الاعتبار أن وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة رفعت منسوب الوعي الشعبي العام، وكذلك فعلت التجارب الثورية الملموسة التي نجحت في كل من تونس ومصر. لذلك نرى بوضوح كيف تصرّ الجماهير في سوريا على سلميّة احتجاجاتها، ونبذ الشعارات الطائفية.
لكنّ المفكّرين والمثقّفين المقيّدين بمخاوفهم، والذين حجب عنهم غبار الكتب واقع شعبهم، لا يرهقون أنفسهم بدراسة دقيقة للواقع وللصيرورة الاقتصادية الاجتماعية للثورة، فلديهم قوانين عامة عن الثورة، لديهم قوالب محدّدة لكل ثورات العالم، إمّا أن تحدث الثورات القادمة وفقاً لها، وإلا فلا نريدها، ولسنا بحاجة لإضاعة الوقت بالبحث التاريخي عن خصوصيات ثورة محددة. أمّا الجماهير، فكما كان عليها أن تتعرّف منذ زمن على معنى الديموقراطية وتعرف أن العلمانية هي النظام الأنسب، فإن عليها اليوم أن تنتظر حتى تصير جماهير مثقفة وديموقراطية وعلمانية، وعندها تقوم بالثورة.
وهكذا، فإنّ هؤلاء المثقّفين كانوا قد قرّروا مسبقاً وقبل اندلاع الاحتجاجات في سوريا، ما إذا كان التظاهر هو احتجاج على النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي، أم انه مجرد تعبير «غوغائي» عن مكنونات دينية- طائفية دفينة، وحسموا أمرهم لجهة الخيار الثاني، فحرّموا التظاهر. لكنّ الجماهير في وادٍ آخر، ولن تلتفت لقرار «تحريم» التظاهر هذا. إنّها تنظر إلى لأمام فقط، نحو المستقبل.

* كاتب عربي