بفرح ألقى باراك أوباما خطابه عن الثورات التي اجتاحت الوطن العربي، كأنّه صانعها بجد، وكأنه يضمن مآلاتها بكل ثقة. ربما بعد الرعب الذي اجتاح كلاً من الولايات المتحدة والدولة الصهيونية مما يجري في الوطن العربي، يحق له التقاط هذه اللحظة لكي يعبّر عن فرحه. فهو يعتقد بأنه حاصر الثورة في تونس والثورة في مصر من خلال «لعبة ذكية» تمثّلت في انقلاب قيادة الجيش على الرئيس وإعلانها التزام «مطالب الشعب». ويظنّ أنّه أغرق الثورة في ليبيا بالدماء، وماطل طويلاً في سقوط علي عبد اللّه صالح في اليمن، وسحق الثورة في البحرين عبر السعودية، وسيطر على الحراك في كل من عُمان والأردن والجزائر والمغرب، لكن أيضاً، وضع النظام السوري في زاوية حرجة يمكن أن تجعله يقبل الشروط الأميركية. وبالتالي، ينطلق أوباما من أنّه بصدد إعادة بناء المنطقة تأسيساً على المصالح الاقتصادية الأميركية، التي لم يخفِ ذكرها في خطابه.هذا الوضع يفرض علينا أن نعيد بناء «الصورة» لكي يكون الموقف الأميركي واضحاً، وكي نفهم مآلات الثورات كذلك.
فقد عملت الإمبريالية الأميركية (والإمبرياليات الأخرى كذلك، لكن أساساً أميركا) على إعادة صياغة المنطقة منذ عقود، وهدفت الى ضمان السيطرة على الاقتصاد وتكريس التبعية السياسية، وبالتالي ضمان هيمنة أميركية صهيونية طويلة المدى. وأول ما عملت عليه هو تغيير التكوين الاقتصادي في هذه البلدان واستيلاد طبقة مافيويّة تحكم وتنهب. وكان «خبراء» البنك الدولي كرماء في إغداق النصائح بشأن أهمية السياحة والعقارات وأسواق الأسهم، وبالتالي التخلي عن الصناعة القائمة وإهمال الزراعة وتحويل الأرض الى «مدن حديثة». وهو الوضع الذي فرض الزيادة الكبيرة في استيراد كل السلع تقريباً، الصناعية والزراعية والخدمية، التي باتت الرأسمالية معنية بتصديرها بعدما طوّرت الزراعة وأصبحت تعاني الفائض هنا كذلك، ممّا أفضى الى ربط محكم لبنية الاقتصاد المحلي بالطغم المالية الإمبريالية. فصار المال المضارب حراً في النشاط، وصارت الأسواق تستورد منتجات إمبريالية، وبات المجتمع مجالاً لعملية نهب شاملة.
وفي الوقت ذاته، تكوّنت نخب مافيويّة عائلية من حول السلطة، أصبحت هي السلطة، وباتت ملحقة بالطغم المالية الإمبريالية، وتابعة في سياساتها للسياسة الإمبريالية الأميركية خصوصاً. لقد أصبحت ملحقة «أكثر مما يجب»، أي أصبحت أداة إمبريالية. وعملت الإمبريالية على تدعيم طابعها البوليسي القمعي، وتشكيلها في نظم «قوية ومستقرة»، في مجتمع باتت أغلبيته مهمشة، إما بالبطالة أو بضعف الأجور، في وضع باتت أسعار السلع فيه عالمية. هذا الوضع طاول النظمَ كلّها. ربما لم تكن سوريا قد تكيّفت تماماً مع هذه التبعية، رغم أن «رجال الأعمال الجدد» ساروا في المسار ذاته من حيث التكوين الاقتصادي وبنية السلطة. وتمركز الخلاف حول سلطة تدافع عن قوتها وتحكّم رجال الأعمال الجدد فيها، وميل أميركي لبناء «دولة ديموقراطية»، أي هشة يمكن التحكم فيها. بمعنى أن الخلاف لم يطاول الاقتصاد، الذي هو أساس السيطرة الإمبريالية، أو حتى السياسات، حيث كان يمكن التفاهم على «إنهاء الصراع»، وعلى الدور الإقليمي لسوريا.
لذلك، حين بدأت الثورات، كان الذهول الأميركي بادياً (كما الخوف الصهيوني). وتسرّبت أكثر من إشارة عن «المفاجأة» الأميركية. فقد انطلقت من أن التفتيت الطائفي كفيل بحرف مسار الصراع الطبقي، حيث يندفع المهمشون إلى حروب عبثية تحت أوهام عملت الولايات المتحدة والنظم على زرعها. واعتقدت زمناً أنّها استطاعت أن تجد المعادلة الصحيحة هنا. فالمهمّشون يجب أن يأكلوا بعضهم بعضاً. وسنلمس ذلك من خلال ارتباكها في التعامل مع الوضع التونسي ثم المصري، حيث سارعت الى الالتفاف على الثورة من خلال «طرد الرئيس» عبر الجيش. في تونس نجحت، وفي مصر ارتبكت نتيجة عناد مبارك. وسنلمس أن قيادة الجيش في هذين البلدين على صلة بالولايات المتحدة، وبالتالي كان يمكن أن تفتح طريقاً لترتيب بديل يعيد إنتاج السلطة ذاتها، وهو الأمر الذي توضح من خلال تمسك قادة الجيش بالنمط الاقتصادي من جهة، والمعاهدات والاتفاقات من جهة أخرى.
ثمّ جاءت الثورة في ليبيا لتعطي فرصة للإدارة الأميركية، ذلك أنّ القذافي يمتلك أسلحة متطوّرة قادرة، حسب توقُّع مسؤول الأمن القومي الأميركي، على سحق الثورة. وبالتالي، يمكن ترقّب انتصار القذافي لجعله علامة على فشل الثورات، ووقف توسُّعها الى بلدان أخرى. فقد ماطلت الولايات المتحدة أكثر من شهر قبل التدخّل، ثم تدخّلت على أمل تحقيق تقسيم ليبيا، وظلّت تعمل على إنهاك الثورة تحت حجة الدعم الجوي. وربما كانت الآن لا تريد انتصار الثورة، بل تعمل على التدمير والإنهاك من أجل دور أكبر في ما بعد. وفي اليمن، لم تخفِ أميركا دعم علي عبد الله صالح، ولم تضغط من أجل رحيله، بل أمدته بأسلحة، وما زالت لا تميل الى رحيله، بل تراهن على إنهاك الثورة التي تملأ الشوارع من دون أن تتمكّن من اقتحام القصر الجمهوري والاستيلاء على السلطة. لهذا، يتجمّد الصراع الى أن يتخثّر، وربما تفشل الثورة كما تراهن أميركا. وسنلحظ هنا، كما في ليبيا، أنّه ليس لدى الولايات المتحدة بدائل عن هؤلاء، وهو الأمر الذي لا يدفعها الى فعل ما فعلته في كل من تونس ومصر. وذلك من دون أن ننسى أنها دعمت سحق الثورة في البحرين من جانب قوات سعودية، وتخاف من ثورة في السعودية ذاتها.
ربّما كان التأخّر في حسم الصراع في كل من اليمن وليبيا قد انعكس على سرعة توسّع الثورات، وهو ما يظهر الآن في سوريا، لكنّ الأهمّ هنا، هو أنّ هذا الزمن من التعثّر أو التطوّر البطيء للثورات، وتوقّفه في بعض البلدان، أو عدم توسعه في أخرى، سمح للولايات المتحدة بأن تعيد صياغة استراتيجيتها لتضمن بقاء بنى النظم، على المستوى الاقتصادي وعلى صعيد الارتباط بسياساتها، دون أن تتجاهل «ضرورة تجديدها» كي تمتص جزءاً من الأزمة المجتمعية.
ما هو مطروح في هذا المجال هو إعادة بناء السلطة السياسية من خلال دمج جماعة الإخوان المسلمين وتجديد النخب «العفنة» بأخرى أقل عفونة، أو لم يُكتشف بعد مدى عفونتها. يظهر ذلك واضحاً في تونس من خلال التوافق مع الحكومة الجديدة، ويظهر في مصر من خلال التوافق مع المجلس العسكري الذي يتولى إعادة صياغة السلطة بما يحافظ على جوهرها الطبقي (سلطة المافيا) وسياستها، ووضعها في «العلاقات الدولية». وهذا مطروح في فلسطين والأردن وسوريا، كما مصر وتونس.
لقد رسمت الولايات المتحدة استراتيجية مشابهة نهاية القرن الماضي، لكنّ حاجتها إلى «عدوّ» فرضت عليها أن تخترع «الحرب على الإرهاب»، الذي كان يجب أن يكون إسلامياً كي تنجح الاستراتيجية. ولقد انتهت هذه الحاجة منذ أن أعلن باراك أوباما التصالح مع الإسلام في خطاب القاهرة، وعمّد ذلك بـ«قتل» بن لادن، لكي ينفتح أفق إعادة بناء النظم على أساس المشاركة «الإسلامية، بعدما قيل إنّ هؤلاء هم قوة المعارضة الرئيسية، رغم أن الثورات في تونس ومصر واليمن وسوريا أوضحت غير ذلك.
إذاً، فكّرت الإدارة الأميركية في «التغيير» بعدما عادت الثورات في سياق الالتفاف عليها إلى «دفاترها القديمة» التي تجاوزها الزمن. فقد قامت هذه الثورات لأنّ كتلة مجتمعية هائلة باتت مهمشة، ولأن النظم هي الحامي لهذا التهميش. وكان شعارها الأساس: الشعب يريد إسقاط النظام، النظام الاقتصادي قبل النظام السياسي. وكل الحلول الأميركية المنفّذة عبر المافيا المحلية تقفز عن ذلك لمصلحة التغيير في شكل السلطة، ربما لجعلها «أكثر ديموقراطية»، لكنه لا يغير من النمط الاقتصادي الريعي الذي هو الشكل الأفضل للمصالح الإمبريالية. إلّا أنّ الثورات ستكسر حتماً عملية الالتفاف الأميركي من أجل تحقيق تغيير عميق في النمط الاقتصادي، وفي البنية السياسية وفي كل السياسات الأخرى، فما من إمكان لتغيير النمط الاقتصادي دون الصراع مع الإمبريالية، كما مع الدولة الصهيونية. هذا هو «روح» شباب الثورة في كل الوطن العربي.

* كاتب عربي