للأزمة اللبنانيّة الحاليّة بعدان لا ثالث لهما: البُعد الإقليمي، وبُعد «ويكيليكس». فضيحة «ويكيليكس» فضيحة صامتة. هي بلا مُنازع أكبر فضيحة في التاريخ اللبناني المعاصر، لكنها لم تحظَ (بعد؟) بتغطية صحافيّة واسعة على الإطلاق، لا بل إن تستّراً مقصوداً لحق بتسريباتها ومفاعيلها. ليس في الأمر لغز: جلّ الإعلام اللبناني يدور في فلك المال السعودي أو الحريري، وهو يتلقّى الأمر بالتغطية والتجاهل، بالمديح وبالشتم، بالهتاف والحداد. هذا هو ديدنه منذ هطل ما سمّاه العالم الفذّ حنّا بطاطو «الوباء النفطي» العربي على ثقافتنا وسياستنا وأديانكم (وأديانكنّ). أحرجت طبقة سياسيّة بحالها من التسريبات، فما كان منها إلا أن التزمت الصمت المطبق أو البيانات الركيكة أو المُخادعة: أيظنّ محمد جواد خليفة أن إبرازه لمحضر ـــــ من وضعه وتلحينه ـــــ للقائه مع جيفري فيلتمان يبطل مضمون وثيقة «ويكيليكس»؟ هل من المعقول أن خليفة ـــــ الذي أصبح مُشكّكاً هكذا فجأة في صحة وثائق «ويكيليكس» التي لم تشكّك فيها الحكومة الأميركيّة نفسها ـــــ كان سيدوّن بخط يده هجومه على حزب الله أو سخريته من أمينه العام ـــــ على ما جاء في الوثيقة؟ثم هناك أسلوب التذاكي، أو لنقل إنه أسلوب «واحدة بواحدة». إذ من المعلوم أن الماريشال للّو المرّ (وهو سليل الماريشال تيتو)، بعدما أمضى ردحاً من الزمن في العمل العسكري المحض (يجهل الشعب في مسخ الوطن أن نظريّات المرّ في مكافحة عبدة الشيطان باتت تُدرَّس في الكليّات العسكريّة حول العالم)، تحوّل صحافيّاً. لم ينتظر للّو المرّ كي يمسك بناصية اللغة العربيّة، ولم ينتظر كي يصبح حديثه فيها بوتيرة أسرع من ثلاث كلمات في الدقيقة بالتمام والكمال، كي يقدم على العمل الصحافي. لمَ لا؟ وإذا كان أبوه وحموه ورستم غزالة قد نصّبوه من دون كفاءة أو تدريب في مناصب وزاريّة رفيعة، فلماذا تعصاه صفة الصحافة؟ ثم، وهل ابن عمّه الذي يدير محطة تعكس توجّهات سياسة نتنياهو أفضل منه؟ كلا وألف كلا. للّو المرّ، الذي كسب ما كسب بعرق الجبين والإرث الناصع، أصبح عنده الآن جريدة (كما أصبح عند أم كلثوم بندقيّة بعد هزيمة 1967). والمرّ هذا يكتب افتتاحيّات، وله من التحليلات في العلاقات الدوليّة ما كان سيثير غيرة حسني البورزان في برنامج «صح النوم» الشهير (هل كان الراحل البورزان سيقف موقف غوّار في نظريّته أن ليس للجيش السوري أي دور «بنوب» في مواجهة إسرائيل؟) المرّ هذا لم يكتف بتحليلاته الثاقبة التي يتنقّل فيها بين القارّات بخفّة ما بعدها خفّة، وخصوصاً أنه راوي خبريّات من الدرجة الأولى في «ويكيليكس» وفي «أوديو ليكس» على محطة «الجديد». أراد المرّ أن ينتقم لسمعته التي بلغ بها السوء أن توزيره لم يعد وارداً في أي من حكومتَي الفريقين المتنازعين. المرّ بات سياسيّاً سيئ السمعة (بالإذن من عنوان فيلم عربي لشمس البارودي المختفية هذه الأيّام).
إن مشكلة المرّ ليست في كلامه أمام لجنة التحقيق الدوليّة ولا في بطولاته الوهميّة، ولا حتى في تحقيق رقم قياسي في حجم الهوّة بين مواقفه المُعلنة ومواقفه السريّة التي لا يجرؤ على البوح بها إلا أمام مبعوثي الرجل الأبيض. مشكلة المرّ أنه لم يتورّع عن الكشف عن شخصيّة طائفيّة بغيضة ـــــ على الأقل وفق ما جاء في وثائق «ويكيليكس» ـــــ بالإضافة إلى تحريض مفضوح للعدوّ الإسرائيلي على تصويب أهدافه في حرب مقبلة على أسس أكثر حدّة طائفيّاً. وكان المرّ وهو يدلي بأحاديثه وزيراً للدفاع اللبناني، أي هو المكلف بإعداد عروض أكل الأفاعي لفرق المغاوير التي ـــــ وإن كانت تلتزم السكينة عندما تطلق إسرائيل نيرانها نحو لبنان ـــــ تشدّ أنظار تلامذة المدارس. المرّ هذا عانى مشكلة مع جريدة «الأخبار» فحصل على وثائق «ويكيليكس» هو الآخر، وأراد منها إحراج «الأخبار» (في مخيّلته فقط). طبعاً، كانت عناوين «الجمهوريّة» أكثر إثارة وأقل دقّة من عناوين «الأخبار» عن الوثائق، لكن من يأخذ جريدة ناشرها للّو المرّ على محمل الجد؟ هنا، وجد فريق حاشية الحريري (والأخير فرد ـــــ أو خرطوش ـــــ في حاشية آل سعود الأم) ضالّته، فرأى أن مجموعة وثائق «الجمهوريّة» تلغي مجموعة وثائق «الأخبار». أحمد فتفت (الذي يستطيع أن يناقض الحقيقة ويتلاعب بالوقائع باقتناع شديد) رأى أن ملف «ويكيليكس» يجب أن يُغلق لأن هناك وثائق ضد الطرفيْن.
صحيح، فقد نشرت «الجمهوريّة» و«الأخبار» وثائق تتضمّن انتقادات لحزب الله من بعض حلفائه أو مِمَّن يعدّ نفسه وسطيّاً. لكنّ هناك فرقاً كبيراً بين مَن انتقد الحزب ومَن ناصر وآزر وقدّم النصح لإسرائيل أثناء عدوان تمّوز (وقبله وبعده). أحمد فتفت (ربما بسبب ضيافة الشاي، مع أنه يصرّ على أن ما حدث في مرجعيون لم يكن خطأً وأنه ليس هناك ما يعتذر عنه ـــــ ولا حتى ضيافة جنود الاحتلال) يريد أن يتهاون ويتساهل مع جرم تقديم العون للاحتلال.
إن الأزمة الحكوميّة نابعة، في جانب منها، من انعدام الثقة بين الأطراف اللبنانيّين المتنازعين والمتحالفين على حدّ سواء. يعرف حزب الله أنه لا يستطيع أن يثق بالكثير من حلفائه، فما بالك بالوسطيّين والأخصام؟ إن وثائق «ويكيليكس» أسقطت طبقة سياسيّة بحالها. لو أن لبنان لم يكن طائفيّاً ومذهبيّاً ـــــ بكلام آخر، لو أن لبنان بلد ديموقراطيّ بحق ـــــ لكانت محاسبة أهل السياسة في لبنان بحكم الرأي العام قد فرضت تقديم استقالات جماعيّة ومحاكمات بالجملة لطبقة سياسيّة بحالها.
كيف تتألّف حكومة من عناصر وشخصيات متنافرة لا يجمع بينها إلا الشك والضغينة؟ حزب الله وحلفاؤه استطاعوا قلب الحكومة بعدما حصلوا على تأييد وليد جنبلاط، ومن بقي من نوّابه. أي أن حكومة المقاومة تعتمد على تأييد جنبلاط. جنبلاط الذي قد يكون من أكثر الساسة في تاريخ لبنان تنقّلاً وانتقالاً وانعداماً للمبدئيّة، عماداً للحكومة المُقاومة. كيف تستقيم حكومة تدافع عن المقاومة وهي تحتاج إلى دعم من وليد جنبلاط: من وليد جنبلاط نفسه، وهو الذي عبّر في وثيقة من وثائق «ويكيليكس» عن قلقه بسبب تضاؤل هيبة الجندي الإسرائيلي عند العرب؟ أي إن جنبلاط يخشى قلّة الخوف العربي الشعبي من قدرات جيش العدوّ. جنبلاط الذي كان يطالب الدبلوماسيّين الأميركيّين بمناشدة إسرائيل أن تقلّل من مديحها لفريق 14 آذار مخافة الإحراج. جنبلاط الذي كان يقول للعزيز «جيف» إنه يعارض وقف النار وإن كان مضطرّاً لقول العكس في العلن. هذا الذي لم يفوّت فرصة أو مناسبة أثناء عدوان تمّوز لتسديد العون للدعاية الإسرائيليّة من خلال إحراج حزب الله والتضييق على أمينه العام عبر ردود بالورقة والقلم على كل خطاب للأخير أثناء العدوان. من يثق بوليد جنبلاط بعد اليوم (من لا يشعر بالاشمئزاز من وليد جنبلاط عندما ترد كلمة فلسطين على لسانه هذه الأيّام بعدما قرأنا ما يقوله في السرّ؟).
من الأكيد أن الوثائق أثبتت أن ميشال عون (وليس كل نوّابه بالضرورة) يقف بثبات مع حليفه المُقاوم رغم ما تعرّض له من خسائر وهجوم نتيجة هذا التحالف. أما محمد جواد خليفة فقد عبّر عن نزعة بعض حلفاء حزب الله ـــــ في حركة أمل أو خارجها، لا فرق ـــــ لتبييض صفحتهم مع «الراعي» الأميركي لعلّ وعسى تدور الدوائر ويحظون بمواقع نفوذ. والتأليف الحكومي مناسبة لبث الشكوك والتعبير عن زمن جديد في العلاقة بين السياسيّين ـــــ كل السياسيّين ـــــ حيث لا تخضع عمليّة التأليف لوعود، بل إلى ضمانات حديديّة صلبة من أجل تطمين فريق المقاومة الذي يتعرّض لحروب بالجملة ـــــ أشرسها عربي ـــــ سعودي.
والتأليف يتعثّر نتيجة الدور الذي يقوم به ميشال سليمان. كم كانت وثائق «ويكيليكس» محرجة لسليمان. يستطيع المرء أن ينقد فريق حزب الله على إفراط في السذاجة السياسية (عكس الدهاء العسكري المُقاوم) وعلى سرعة تصديق من يقع في صف الأعداء. كيف وثق حسن نصر الله، مثلاً، برفيق الحريري فيما كان الأخير يسعى الى طمأنة إسرائيل ونزع سلاح المقاومة منذ أن دخل بواسطة المال والاستخبارات السوريّة إلى سدّة الحكم؟ تتساءل مثلاً كيف وثق حزب الله بوليد جنبلاط مرتيْن متتاليتيْن، قبل الحلف الرباعي وبعده، قبل «ويكيليكس» وبعدها؟ وميشال سليمان غيّر خطابه الذي كان حازماً ضد إسرائيل وفي نصرة المقاومة بمجرّد أن احتضنه حسني مبارك وعمر سليمان اللذان سوّقا ترشيحه الرئاسي لآل سعود والإمبراطوريّة الأميركيّة. سليمان لم يكن كثير الحديث مع الطرف الأميركي، إلى أن وقعت أحداث 7 أيّار وبدأ عندها يجود بالكلام المستفيض عن «ميليشيا» حزب الله. تتعجب (وتتعجّبين) كيف أن بعض ساسة لبنان، مثل سليمان، يتفوّهون بكلام لا يرد على ألسنتهم أبداً في تصريحاتهم وخطبهم العلنيّة. هؤلاء هم مثل قادة الخليج الذين تستطيع أن تركن إلى تصريحاتهم ومقابلاتهم بالإنكليزيّة أكثر بكثير من تصريحاتهم ومقابلاتهم بالعربيّة. وفق هذه المعادلة، فإن أوّل تصريح لسعد الحريري بعد وفاة رفيق الحريري مباشرة مع جريدة «واشنطن بوست» بالإنكليزيّة تضمّن تصميماً من قبله على «نزع سلاح» حزب الله. كان يمكن الحزب أن يتنبّه للنوايا التي عبّر عنها والده من خلال الإعداد للقرار 1559، لكنه عاد وتحالف معه في الاتفاق الرباعي.
كم بدا ميشال سليمان ضعيفاً كقائد للجيش في تلك الوثيقة المشينة. وضح أنه سمح لمسؤول في وزارة الدفاع الأميركيّة بتقريعه لعدم تصدّيه لحزب الله (يجب أن نسائل سلاح الجيش اللبناني بعدما تقاعس هذا الجيش، كعادته، عن التصدّي لإسرائيل في احتجاج النكبة في مارون الراس). والطريف أن قائد الجيش اللبناني السابق يعلم أن الولايات المتحدة هي التي تقف حجر عثرة أمام التسليح الحقيقي للجيش، لكنه يبدو مذعوراً من إغضاب «الراعي» الأميركي. تصوّر لو أن قائد الجيش الأميركي تلقّى تقريعاً من السفير اللبناني في واشنطن: كان السفير سيجد نفسه مسوقاً إلى زنزانة عارية في غونتانامو. والحكومة الأميركيّة تعمل مع كل جيوش العالم الثالث لضمان ولائهم، فتغدق العطايا والهبات والهدايا التكنولوجيّة، بالإضافة إلى دورات وجولات لكبار الضبّاط، كي تعزز العلاقة بين الطرفيْن وتبني فريقاً حريصاً على إبقاء تواصل الدعم العيني الذي يفيد ويدغدغ المشاعر الماديّة والحسيّة لكبار الضبّاط. لا يكترث كبار الضبّاط لمنع أميركا من تسليح الجيش ما داموا يتلقّون الهدايا النفيسة والدورات والرحلات (مثلما تهدي وكالة الاستخبارات الأميركيّة سيّارات فخمة ومجهّزة (بماذا؟) لكبار قادة الاستخبارات في الدول النامية، بمَن فيهم مدير جهاز الأمن العام في لبنان. سليمان اقترب من واشنطن أكثر بعد 7 أيّار، وهو يقترب يوميّاً أكثر فأكثر من المحور السعودي ـــــ الحريري في لبنان. الأمر ليس فقط في تنفيع لأقارب، بل في دور مرسوم ومُعدّ إقليميّاً.
كذلك فإن التسويف والمماطلة في تأليف الحكومة يعودان الى اختيار حزب الله للميقاتي رئيساً. لا تستوي المقاومة مع أصحاب الملايين والمليارات (يكفي أن تقرأ وثيقة «ويكيليكس» عن ياسين جابر مثلاً). إن قدرة الولايات المتحدة على الضغط على أصحاب المليارات كبيرة وكبيرة جداً (جال مسؤول في وزارة الخزانة الأميركيّة بعد 11 أيلول على أصحاب المليارات الفلسطينيّين حول العالم وهدّدهم بإجراءات قاسية لو استمرّوا في دعم فصائل المقاومة الفلسطينيّة). والمليارات في لبنان هي دوماً مرتبطة بمصالح خليجيّة: أي أن قدرة المحور السعودي على الضغط والتطويع كبيرة جداً.
لكن البعد الثاني من الأزمة لا يقلّ خطورة. نعيش اليوم حقبة هجمة سعوديّة متوحّشة تلت سقوط نظام مبارك. والفريق الحريري يجد صعوبة بالغة هذه الأيّام في إخفاء دوره الإقليمي المرسوم الذي يتناقض مع شعار كتلة الحريري عن عدم التدخّل في شؤون الدول العربيّة. وفؤاد السنيورة، المسؤول عن رصّ الصفوف داخل الكتلة النيابيّة، كان حازماً في قطع الطريق على أي تعبير رسمي عن التعاطف مع الاحتجاجات في سوريا (من الطريف أن عتاة ضخ الكراهية والحقد في لبنان ضد الشعب السوري على مرّ الأعوام الماضية) باتوا اليوم توّاقين إلى إعلان التضامن مع الشعب السوري). وهو عاد من مهمة في واشنطن حاول فيها دون جدوى إقناع الإدارة الأميركيّة بضرورة إسقاط النظام في دمشق (من الطريف أيضاً أن أدوات السعوديّة وأميركا في لبنان يخالون أن بمستطاعهم تغيير سياسات الدولة العظمى. والأطرف أن وليد جنبلاط عبّر عن خيبته لأن الإمبراطوريّة الأميركيّة في عهد بوش لم تأخذ بمشورة زعيم 80% من 5% من 2% من الشعب العربي).
لكن بعض أفراد حاشية الحريري يجدون صعوبة بالغة في الإفصاح عن الدور السعودي المرسوم لهم. محمّد كبّارة ـــــ وهو داعٍ للدولة المدنيّة العلمانيّة الحديثة على أرفع طراز ـــــ عبّر عن مناصرته للشعب السوري قبل أن يتراجع ويعترف بأنه بالكاد يعبّر عن آرائه هو. أما عقاب صقر فقد كان ممتعاً في تفسيره: فقد قال في أكثر من حديث إنه متيّم بالديموقراطيّة بالفطرة وإنه منحاز لقلب الأنظمة العربيّة. وأضاف صقر ذاته أنه نهل حبّ الديموقراطيّة بصورة فائقة في مهرجان «الجنادريّة» الأخير ـــــ وهو ليس أوّل مهرجان جنادريّة يحضره النائب الديموقراطي. صقر نسي أن يضيف أنه مع حق الشعوب في قلب الأنظمة العربيّة، باستثناء النظام الأردني والسعودي والكويتي والعماني والقطري والإماراتي والمغربي لأن قلب تلك الأنظمة القمعيّة قد يحرمه فرصة نهل الديموقراطيّة الدوري في مهرجان الجنادريّة، حيث يحظى بدعوة حارّة من الأمير سلمان للمشاركة في رقصة العرضة ـــــ وهي كرقصة ديموقراطيّة ومدنيّة وإن غابت عنها النساء ـــــ (ما همّ، فالنساء مغيّبات في كل المناسبات العامّة في مملكة القهر الوهّابي). من الواضح أن الحكم السعودي حزم أمره باتجاه قلب النظام، وقلّة من السذّج أو من المفرطين في التقيّة في 8 آذار تعتقد أن الملك السعودي مغلوب على أمره في ما يحصل، وكأن الملك الذي وثّق العلاقة بين آل سعود وإسرائيل أكثر من أي ملك سعودي آخر تنتابه نوبات عروبيّة (أصبح مضمون العروبة الذي يتوافق مع سمير جعجع ليس أكثر من طاعة آل سعود، بعدما كانت العروبة الحقّة هي في معارضة آل سعود). توافق آل سعود على أمور أربعة: 1) إن إرضاء واشنطن بعد 11 أيلول يتقدّم على أي من الأولويّات الأخرى للعائلة. 2) إن الارتقاء بالعلاقة مع إسرائيل إلى درجة الحلف الوثيق شبه المعلن مفروض بحكم الأمر الأوّل وبحكم مصلحة العائلة في الاستمرار في الحكم. 3) إن ضخ دعاية الفتنة المذهبيّة في المنطقة العربيّة يتوافق مع العامليْن الأوّل والثاني. 4) إن معاداة إيران واجب لإرضاء أميركا وإسرائيل ولمقاومة مقاومة إسرائيل في المنطقة العربيّة. الملك السعودي على جهله كان موافقاً على البرنامج المذكور وإن كان له متحمّسون كثر في أمراء العائلة مثل سعود الفيصل ومقرن وسلمان وبندر وخالد الفيصل.
إن الأزمة الحكوميّة في لبنان مطلوبة من أميركا والسعوديّة لإبعاد حزب الله عن الحكم، أو عن السيطرة على الحكم، أطول فترة ممكنة. تريد أميركا (وإسرائيل والسعوديّة من ورائها) أن تؤجّل عمليّة وصول حزب الله إلى السلطة للأسباب المعروفة، بالإضافة إلى نيّة إظهار الحزب عاجزاً عن الاضطلاع بمسؤوليّات الدولة في لبنان. ولا يمكن فصل المشروع السعودي ـــــ الأميركي عن الدور الجديد لرئيس الجمهوريّة الذي ـــــ مثله مثل الياس سركيس ـــــ يصبح موقفه أكثر جهريّة على مرّ السنوات.
يحتاج مسخ الوطن ـــــ إذا استعصى مشروع تذويب الكيان الذي كان خير صنو للكيان الصهيوني المجاور ـــــ إلى إعادة نفض الطبقة السياسيّة برمّتها. ولكن قبل أن تبدر حماسة أو شوق مُبكّر، وجب التذكير بأن النظام الطائفي يساوي بين تداول السلطة وخلافة الأبناء والأحفاد للآباء والأجداد. أي إن التفاؤل بمستقبل النظام السياسي اللبناني من صفات الأخرق أو الرضيع. لكن مؤامرة الثورة المضادة مستمّرة بعدوانيّة سعوديّة غير مسبوقة (تترافق العدوانيّة مع نفاق سياسي تقليدي مثل أن تعمد السعوديّة إلى قلب النظام السوري، فيما تقدّم وزارة سعوديّة هبة زراعيّة إلى الحكومة السوريّة، أو أن يطالب السفير عبد العزيز الخوجة في واحدة من وثائق «ويكيليكس» السيّد الأميركي بتسليح 14 آذار، فيما يصرّح في العلن بأن السعوديّة هي على مسافة واحدة بين الأطراف).
الشعب مشغول بما هو أهم. هموم معيشيّة ثقيلة وخطر إسرائيلي داهم وتآمر حريري لم يتوقّف منذ أن أدخل النظام السوري والسعودي رفيق الحريري السيئ الذكر إلى حلبة السياسة في لبنان. والانتفاضات العربيّة تتعثّر، فيما تفتّقت عبقريّة إعلاميّي آل الحريري عن شعار «الشعب يريد تطبيق النظام» (أي أن آل الحريري صريحون في وقوفهم في خندق الثورة المضادة). والسفيرة الأميركيّة تركت نقولا فتّوش في مهبّ الريح. ورئيس الجمهوريّة يصرّ على نيل حصّته في التوزير لأن جبيل في القلب.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)