مرّت أيّام ولم أستطع بعدُ أن أفهم ما مررنا به. ولم أستطع فَهْم القوّة التي جاءتني حينها. كنّا كثيرين وقليلات على الحدود، أربعة أو خمسة أمتار بعيدين عنهم. نراهم، يروننا، والموت يلعب بين الاثنين. نزلنا الجبل بسرعة. نظرت ورائي فرأيت كم ستكون صعبة علينا العودة، فقلت لصديقي: «انظر إلى هذا الجبل... بس ما تعتل همّ، مش راجعين، رح نفوت عفلسطين». وصلنا إلى الحدود وتجمّع الشباب حول عشرات من الألغام الأرضية ليحموا الناس منها، وأنا أنظر من حولي ولا أصدّق... انتفاضة كما نراها على التلفاز. الشباب يركضون إلى السياج يعلّقون أعلامهم ويرمون الحجارة باتجاه الجنود المختبئين وراء الأشجار... «... أختكم يا كلاااب» هو ثاني ما قلته... مباشرة بعد صراخي بوجههم «عالقدس راجعين شهداء بالملايين». كنت ألتقي لأول مرة بعدوّي، قاتلي ومعذّبي ومضطهدي ومشرّدي والباصق على قبري وقاتل أطفالي وسارق أرضي. سبع وعشرون سنة وأنا أنتظر لقاءه والنظر في عينيه لأنقل له، لا أعرف كيف، قهر ثلاث وستّين سنة. لم أستطع منع نفسي من سبّهم، فهم أمامي يسمعون، وأنا بقبضتي الصغيرة أكسر الحجر وأرميه فلا يصل.
ساعة، ساعتان، أربع، لا أدري كم مضى علينا ونحن نكسّر الحجارة الكبيرة نجمّعها ونركض نرميها أو نعطيها لمن أصبح يرمي أفضل، والرصاص ينطلق باتجاهنا. صوت ثابت صارم يخرق الصمت لثوان والأجساد للأبد. وارتمينا على الأرض يحمي بعضنا رؤوس بعض، والجرحى والشهداء من حولنا. لم أسمع صوت صراخ ولا تأوّه واحد ولا أحسست بخوف إلا عند بدء الطلقات. ثم كأن حقيقة الموت ثبتت أمام عينيّ، فلم أعد أخاف. أصبحنا لا ننخفض حتّى أو نخبّئ رؤوسنا عندما يطلقون النار علينا. انهمرت حبّات مطر كبيرة علينا، فقال لي طارق «شفتي، حتّى الشتا بفلسطين غير!» والشهداء والجرحى، وصوت الطلقات... أتوقّف للحظة، أنفض عنّي نوبة تكسير الحجارة، وأنظر حولي. أشدّ رفيقي من كمّه «طارق، انظر»، ونفتح أعيننا على مشهد وإحساس لأوّل مرّة. بضع مئات كنّا، كالعمالقة يكسرون الصخر بأيديهم، كالانتفاضة التي رحنا نردّد مشاهدها منذ طفولتنا، دماء على الأرض وجرحى، والكلّ يكسّر الحجارة وينقلها إلى الأمام... لا أدري كيف تحمّلت أجسادنا هذا الإجهاد. صبي في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره يشهق بالبكاء. وقفت أنظر إليه، ظننت أن أباه، أمّه، أخاه، مات... وقفت أصغي. كان عمّه وإخوته يرجونه. لربع ساعة أو أكثر وقفوا يمسكون به ويستحلفونه، وهو يبكي يريد أن يذهب إلى الشريط الشائك ويستشهد. ونسمع صرخة كلّ حين، يعلن أحدهم «بدّي موت هون، مش أحسن من عيشة الذل بالمخيّمات؟!».
يهجم الجيش ليبعدنا. مثقلون هم بأسلحتهم وعضلاتهم ووجوههم الجادة المسيطرة على الوضع. ويبدأ الضرب بالفلسطينيين وأنا أصرخ والشباب يهزأون «شو هجم الجيش؟ يقوّصوا عاليهود بدل ما يقوّصوا علينا!» ثم بدأ الشباب يتراجعون إلى الجبل. لا أدري كيف ومتى ولماذا مشيت. عدت أصعد الجبل رأسي خفيف خفيف، ورجلاي أيضاً، صامتة لا أقدر على الكلام أو السؤال أو التعبير عمّا كان يجري. كان فستاني الأبيض ملطّخاً بالدماء قليلاً، ورجلي مجروحة ومتورّمة من شظايا تكسير الأحجار، وعلى عنقي علم مدمّى أيضاً. لم أكن أسمع ما يجري من حولي، والشمس كانت جميلة هادئة، فأنظر إلى الوراء لأرى آخر محاولات تحقيق أحلام طفولتنا، ثم أنظر إلى الجبل وضوء الشمس عليه حنون ساكنة.
الاثنين.. ما زلت لم أستوعب شيئاً. ذهبنا للتعزية بالشهداء في مخيّمي برج الشمالي والبص. في الأوّل، محمّد سمير صالح. ستة عشر عاماً. توفّي أبوه منذ سنة ونصف، وهو أكبر إخوته. «أبعدوه مرّتين عن الحدود، وكان يعود». تقول إحدى النسوة وهي تبكي. «راح وهوّ عم بقول بدّي إستشهد»، وأمّه في الغرفة الأخرى جالسة مع النسوة على الأرض، بعينين صغيرتين، ضائعتين، تبكيه وهي لا تدري. والنسوة يتكلّمن عن المسيرة. «ثمانية آلاف كنّا من البرج، أنا والله ما لقيت باص، طلعت تاكسي مع عيلتي!». في العزاء لا ندم ولا تحسّر على الذهاب في المسيرة. الشهيد راح، بس المسيرة حصلت.
في البص، محمود أبو سالم.. أربعة عشر عاماً. البيت الصغير وأمامه باحة فتحت أبواب سبعة بيوت عليها، وخرجت النسوة يساعدن في تقديم القهوة. «كان ذكياً جداً وشاطراً بالمدرسة، كان أهلو متأمّلين منّو كتير»، تقول لي الجارة. ابنها أحمد كان بجانبه عندما أصيب. «ما حدا منّا أكل مبارح طول النهار». صوت الخطيب في الجامع المجاور لا يعوق كلام النسوة وانهماكهنّ بتقديم الأكل. والأمّ في الداخل تبكي، وأسلّم عليها فلا تراني.
نخرج من المخيّم. انتهت مسيرة العودة.
ما زالت رجلي تؤلمني، وما زالت صور نهار الأحد وأصواته كالشريط العالق في الراديو تعيد نفسها دون استئذان. وفلسطين ما زالت قريبة بعيدة، أمرّ كلّ يوم أمام إشارة تقول لي إنها تبعد 47 كيلومتراً فقط. وقد كانت نهار الأحد على بعد أربعة أمتار، وكان رأسه يطلّ من بين الأغصان، ينتظرني.

* كاتبة لبنانيّة