ما لم يقوَ على ما في النفوس!
كان منظر العجوز وهو يحمل الكمبيوتر من على شرفة منزله أجمل المناظر التي يمكن أن تمر أمام المشاركين في هذه التحركات. كان السبعيني ذو اللحية البيضاء يعرض لابنه ما يجري في الشارع ذلك اليوم. آثر أن يكون المراسل وأن ينقل بالصوت والصورة ذلك المشهد الجميل الذي يحوي أكثر من عشرين ألف شخص يسيرون في الشارع تحت بيته للمناداة بإسقاط النظام الطائفي وبالمواطنية والحقوق المدنية.
هذا اليوم كان حلماً بالنسبة إلى ذي اللحية البيضاء وما سيأتي بعده من أيام، وطالما عدّه من المستحيلات. الآن، في هذه اللحظة، لم يبق له إلا أن يتمنى نجاح التحركات بسرعة، لعلّه يرى ابنه قد عاد واستقر في لبنان. أما ابنه الذي يعيش خارج لبنان، راوده الإحساس بالمشاركة، والده يشرح له ووجهه مفعم بالفرح، وهو يسمع ويهز رأسه فخراً، والابتسامة العريضة تملأ ثغره. إنّه يتخيل اليوم الذي سيعود فيه إلى بلده بعد انتهاء هذه التحركات والوصول إلى مطالبها. فطبعاً بعد القضاء على الطائفية ستتدفق على الشباب فرص العمل، وسيصبح لبنان بلد العيش الكريم والبحبوحة، وسيكون العيش خارجاً ضرباً من الجنون.
هذا العجوز الذي ظنّ أنه سيموت قبل أن يرى ما يرى، أصبح يعدّ الساعات التي تفصله عن تحقيق حلمه. مثله مثل كثيرين غرّتهم المشاهد والهتافات، لم يعرفوا أن السير مشياً على الأقدام مسافة 10 كيلومترات غير كاف لمحو ما يعتمل في النفوس من أحكام مسبقة وأفكار لا تترك لحسن النية وحدها مكان.
ذهب الزمان وأتى الزمان، وانتهى تحرك هؤلاء الشبان. الخلافات ظهرت إلى العلن، والقضية عادت الى منزلة المستحيل والحلم. أطفأ الابن كمبيوتره وهو يتأفف، والأب بدوره عاد ليستقي أخباره من التلفزيونات التي تصنع نشراتها من الطائفية. ليتَهُم لم يعطوه الأمل، أو بالأحرى لَيْتهم لم يحاولوا، ليكون هناك دائماً أمل. الشباب الذين يمثّلون الرجاء قضوا على كل ما لديه من رجاء. أجهضوا محاولتهم بأنفسهم. لم يأتِ نائب ولا وزير ولا رئيس ليجهضها. كانت أفكارهم المسبقة وأحكامهم كفيلة بالقضاء على ما في قلوبهم من شغف للخروح من المستنقعات الطائفية. كانت نظراتهم الفوقية أقوى من حسن نيّاتهم للوصول إلى الحرية والتخلص من الفساد والمحسوبية.
مهما حاولوا وضع اللوم على الآخرين، ومن بينهم من هم في السلطة، فإن كل من يراقب عن كثب يعرف أن من ثاروا على الطائفية والمحسوبية تعتري نفوسهم ما تعتري نفوس الطائفيين من أيديولوجيات تدفعهم إلى الإدماج بدل الاندماج، وبالتالي فإن عدم التعالي على الاختلافات أفسد كل ما للودّ من قضية.
نادين شلق