أثار إعلان «قمة الرياض التشاورية» لمجلس التعاون الخليجي التفاوض مع كلّ من المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية، من أجل انضمامهما إلى المجلس، جدلاً واسعاً وتقديرات وتكهّنات متعدّدة. يتركّز ذلك على محاولة معرفة الدوافع والأسباب لهذه الخطوة المفاجئة التي أُعلنت في مجرى التطوّرات السياسية العاصفة التي تشهدها الدول العربية. وفي هذا السياق، تساءل الكاتب السعودي في جريدة «الحياة» خالد الدخيل (عدد 15 أيار الجاري): «هل هو دعوة لتكتل الملكيات العربية... كردّ فعل على انفجار الثورات الشعبية، وتمدّد نفوذ إيران، وخصوصاً تدخلاتها في الدول الأعضاء؟». وبعدما لاحظ أنّ مصدر القرار هو تحديداً قيادة المملكة السعودية، خلص إلى حقيقة افتقار دول مجلس التعاون إلى إجماع «على مفهوم للأمن الوطني يستند إلى القدرات الذاتية، بدلاً من البحث عن مظلات أمنية خارجية».لا شكّ في أنّ قرار القمة التشاورية الخليجية هو نتيجة للتطوّرات العربية المتلاحقة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه التطوّرات لم تستثنِ دول مجلس التعاون نفسه، بعد أحداث واضطرابات البحرين وعُمان. كذلك يشهد اليمن، الذي هو على اتصال جيو سياسي وثيق بمجلس التعاون، أحداثاً تتميّز بوعود تغيير كبيرة. وكانت دول المجلس بقيادة السعودية قد أنشأت صندوقاً لدعم السلطات العمانية والبحرينية بقيمة 20 مليار دولار، وأسهمت عبر قوات «درع الجزيرة»، في قمع الانتفاضة البحرينية، بذريعة مواجهة التدخل الإيراني في البحرين خصوصاً، وفي دول الخليج عموماً. وبالتأكيد فإنّ المخاوف والهواجس الأمنية والسياسية، لقيادة المملكة وحلفائها الخليجيين، ازدادت بعد سقوط نظام حسني مبارك في مصر. فهذا النظام كان يمثّل العمود الفقري لمحور «الاعتدال» العربي الحليف، الحريص، للولايات المتحدة الأميركية، كذلك فإنّ الاحتجاجات الشعبية في كلّ من الأردن والمغرب بلغت مستوى متقدّماً. وهي لم تهدأ إلا بعد وعود لامس بعضها إعلان إصلاحات تقارب الانتقال في كلا البلدين إلى لون من ألوان الملكية الدستورية.
تبعاً لذلك، يكون أحد الأهداف الرئيسية للموقف السعودي والخليجي، هو السعي إلى الحفاظ على الملكيات العربية، وإلى حصر التغيير في «الملكيات» الجمهورية. وفي هذا السياق، وبسبب الوضع السياسي في المغرب، يمكن تفهّم لماذا لم يوافق النظام المغربي على مباشرة البحث في تلبية الدعوة الخليجية. أما الأردن الذي ينوء بثقل الأزمات الاقتصادية المتصاعدة، وبهواجس انسداد أفق التسوية الفلسطينية ـــــ الإسرائيلية، فقد حذّرت قواه السياسية المعارضة من أن يكون الهدف هو قطع الطريق على مشاريع الإصلاح الديموقراطي التي قدّم الملك بشأنها وعوداً وعهوداً، يبدو أنّه شرع في التملّص منها مقابل وعود معالجة الأزمة الاجتماعية، كثمرة للانضمام إلى نادي الأغنياء العرب.
كلّ هذه الأمور تناولتها أقلام عديدة في الكثير من الصحف العربية، لكن ما تجدر إضافته هنا، هو ذلك الهاجس، لدى السعودية وحليفاتها، المتمثّل في بروز مقاربات جديدة لاحتواء الوضع في المنطقة، من جانب إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، إذ لم يعد خافياً أنّ واشنطن بدأت حواراً مع مجموعات من تيارات الإسلام السياسي، وخصوصاً مع أكثرها نفوذاً، أي «الإخوان المسلمين». ويؤدّي «حزب العدالة والتنمية» في تركيا دوراً محورياً في تشجيع هذا الحوار ودفعه إلى غاياته المنشودة. ويستهدف الحوار التوصّل إلى تفاهمات مشتركة يجري بنتيجتها دعم هذه التيارات الإسلامية في مسعاها من أجل الاستيلاء على السلطة أو المشاركة فيها، مقابل سحب الاعتراض على الدور الأميركي السياسي والعسكري، بعد إجراء بعض التعديلات على السياسات الأميركية حيال الوضع في أفغانستان وباكستان، وحول الوضع الفلسطيني.
ولقد بات معروفاً أنّ «النموذج التركي»، الذي يقوده أردوغان، والذي وصفه بأنّه نموذج «المصالحة بين الإسلام والديموقراطية»، هو ما يجري الترويج له حالياً كبديل للمعادلة التي كان طرفاها الأنظمة الملكية التقليدية من جهة، والتيارات السلفية المتشدّدة، من جهة أخرى. إنّ «تغيير» أوباما يذهب، ولو بحذر، في هذا الاتجاه. وهو قد يؤدّي إلى التضحية بأنظمة حليفة. وهذا ما تخشاه الملكيات التقليدية التي ما زالت تمارس سلطات مطلقة مقرونة غالباً، بكلّ أنواع التفرّد والاستبداد والقمع والتخلف الاجتماعي والاستئثار بالثروة والفساد والتهميش والفحش، فضلاً عن التبعية المطلقة لواشنطن على نحو خاص.
ويستدعي هذا الأمر تنظيم الخروج الأميركي من أفغانستان عبر السعي إلى إبرام صفقة مع حركة «طالبان» يجري بموجبها، إعادة هذه الحركة إلى السلطة أو المشاركة فيها، مقابل احترام المصالح الأميركية، وإذا لم تكن عملية اغتيال بن لادن هي ثمرة لهذا التوجّه فهي تخدمه ولا شك. ويستتبع ذلك بلورة ملامح تسوية في باكستان، لم تنضج ظروفها وعناصرها بعد بسبب تعقيدات الوضع هناك. أما فلسطين، فهي مرشّحة لتسوية، سيجري فيها الضغط على إسرائيل من أجل تقديم بعض التنازلات أملاً في سحب الملف الفلسطيني من التداول الإيراني، ومن استخدام عدم حلّه لتأجيج العداء لواشنطن.
ولقد بات معروفاً أنّ رئيس الوزراء التركي حاول مساومة الرئيس الأسد، في خضمّ الأزمة الراهنة في سوريا، على دور «الإخوان» المسلمين فيها. وكانت المساومة تقضي بتعيين رئيس وزراء ذي صلاحيات يجسّد تحوّلاً في مسار السلطة، إلّا أنّ الأسد لم يأخذ بهذا الاقتراح، ممّا أثار حفيظة أردوغان ودفعه إلى إعلان مواقف شديدة السلبية من النظام السوري...
وبالنسبة إلى دول الخليج فإنّها، بالتأكيد، تخشى من دفع الأمور في هذه الوجهة الجديدة بمباركة من واشنطن، لأن ذلك سيرتّب إحداث تغييرات جديدة في عدد لا يُستهان به من الملكيات القائمة، بدءاً بالأردن والمغرب وصولاً إلى المملكة العربية السعودية نفسها. ولقد أعطت واشنطن في تعاملها مع الوضعين المصري والتونسي، ما يؤشّر إلى استعدادها لركوب موجة التغيير، لكن من أجل احتوائها وضبطها في نطاق المصالح الاستراتيجية الأميركية. ولا بأس في هذا السياق من التضحية ببعض صيغ الحكم التي باتت مرفوضة وعاجزة: فلماذا تربط واشنطن مصيرها ومصير مصالحها بها، طالما أنّها قادرة على اعتماد خيارات وبدائل أخرى؟
إنّ المحاولة السعودية، هي إذاً، من أجل الدفاع عن الأنظمة الملكية دون تعديلات جوهرية أو حتى شكلية، إذا أمكن. وتستخدم السعودية فائض الثروة الذي لديها من أجل احتواء التأزمات القائمة أو المتوقعة، سواء داخل المملكة أو خارجها. وهكذا، يجري إفهام واشنطن أنّ الأنظمة الملكية باقية ومتضامنة، وهي قادرة على قمع واحتواء التحرّكات والانتفاضات الشعبية، وقادرة أيضاً على تقديم أفضل الخدمات لواشنطن، وفي الحقول كافة: السياسية والاقتصادية والأمنية. وبديهي أن تلتقي مصالح الرياض وتل أبيب مرّة أخرى. فقادة الصهاينة سيحاولون الاحتفاظ بما هو قائم، لجهة إطلاق يدهم في محاولة تصفية الشعب الفلسطيني، بكلّ المعاني الممكنة.
غير أنّ واشنطن وحلفاءها القدماء والجدد، ليسوا وحدهم في ساحة الفعل والمبادرة والتأثير. ثمّة أيضاً حركة الشعوب العربية، التي تواصل، هي الأخرى، صراعاً تاريخياً مدهشاً وصعباً وطويلاً من أجل بناء عالم عربي جديد على أنقاض قوى الهيمنة والاحتلال والاستغلال والتخلّف.
* كاتب وسياسي لبناني