نشرت «الأخبار» في الصفحة الأخيرة من عددها الصادر في 14 أيار 2011 مقالاً للشاعر والأديب الذائع الصيت أنسي الحاج، تحت عنوان «من حسن الصباح الى بن لادن». وبما أنّ هذا المقال يتوسل حرية القول لترويج أخطاء جسيمة، بالاستناد الى أخبار غير دقيقة، وأفكار مسبقة مستقاة عن مراجع غربية، وتنطوي على ظلم فادح للإسلام والمسلمين، مما يسبب لهم الضرر المعنوي الشديد، فإنّني أرغب، كمسلم، في ممارسة حقي في الرد والتصحيح. إنّ قلب الأطروحة التي تضمنها المقال زعم أنّ الإسلام هو دين العنف، وزعم أنّ شهادة «الله أكبر» هي دعوة إلى العنف وذات محتوى عنفي دموي. وهو زعم قديم، ومستمر لأعداء الإسلام في الغرب. وقد طالب كاتب المقال، الذي نوّه بأنّه مسيحي عربي، بتحويل الإسلام الى «دين محض روحي»، مشيراً إلى أنّ مطلبه هذا هو «مهمة عظمى وتحد هائل ومفتاح الصحوة الإسلامية الحضارية». واشترط الكاتب إقامة معادلة صحيحة «بين القراءة التاريخية والقراءة اللاهوتية»، لأنّ «الإسلام الى اليوم لم يحقق هذه المعادلة». ويدعو إلى تجريد شهادة «الله أكبر» ممّا سماه «محتواها العنفي الدموي». وتمهيداً لهذه المزاعم، وإثباتاً لها، وصّف الكاتب الحركة المسماة «الحشاشين»، التي برزت منذ تسعة قرون بزعامة الشيخ حسن الصباح، وحركة الشيخ أسامة بن لادن المعاصرة، وقارن بينهما باعتبارهما تمثلان، زعماً، الحالة الإسلامية العنفية القائمة، زعماً، على الاغتيالات والإرهاب الأعمى، وتتنافيان مع صورة «الدين الإنساني»، بحسب
قوله.
إنّ ما يدعو إلى الاستغراب الشديد أن يجهل الكاتب أنّ شهادة «الله أكبر» هي ما يردّد من المآذن في كلّ دعوة للصلاة، وهي ما يفتتح به المسلمون كلّ صلاة لهم، بل كل جزء من أجزائها. وهي ليست صرخة حرب، بل شهادة إيمان بالله، ودعاؤه بأن يقيّض لكل مسلم القدرة والشجاعة على تحمل ومواجهة ورد الظلم والعدوان الذي يشنه عليهم الصغار من الطغاة والظالمين والفاسقين، وما يسببه لهم من أذى.
أما زعم كاتب المقال بأنّ الإسلام ليس بالدين محض الروحي، ومطالبته بتحقيق «مهمة عظمى» هي تحويله الى «دين محض روحي»، فهما فرية عظيمة وذم لا يطاق، ولا سيما أنّ لفظة «محض» تعني في اللغة العربية الخالص، الذي لا يشوبه شيء. ويقوم طرحه على مرادف لفظة «الروح» في اللغات الإنكليزية والفرنسية واللاتينية، spirit أو esprit أو spiritus، ومعانيها المسيحية الكنسية، وجهل أنّ للفظة العربية معناها العربي اللغوي، والإسلامي الديني
المختلف.
في اللغة العربية، الروح هي الرحمة. وهي النفس، وما يعيش به الإنسان. وهي، في الجمع، الأرواح، وهي الملائكة. وبالمعنى الإسلامي، هي الفرح، والقرآن، والوحي الذي تلقاه النبي محمد رسول الله، ونبوته. وروح الله هو حكم الله وأمره. والله، نفخ روحه في آدم، وفي السيدة مريم: «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» (85/ الإسراء) ، «نزل به الروح الأمين» (193/ الشعراء) ، «فنفخنا فيها من روحنا» (91/ الأنبياء) ، «ولا تيأسوا من روح الله إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» (87/ يوسف). وبهذه المعاني، فإنّ الإسلام روح خالص، والروح الخالص هو الإسلام.
ولو ارتكز الكاتب على معاني الروح في اللغة العربية والإسلام، لتحقق له ما يتمناه ويشتهيه دون عناء، لكنّي أخشى أنّ ما ورد في في خاطره قام حقيقةً على معاني لفظة الروح السائدة في اللغات الأوروبية وعقيدة (dogma) الكنائس المسيحية.
فكلمة روح في اللغات الأوروبية تعني النفس التي يعيش بها الجسد، لكنّها تعني أيضاً المشروب الروحي، أي الكحول، لكن الكحول في اللغة العربية هي الراح لا الروح. وتستعمل لفظة الروح مسيحياً مرة واحدة للدلالة على أحد أعضاء الثالوث، وهو الروح القدس الذي هو في اللغات الأوروبية شبح غير مرئي. أما في الاستعمال العملي، فإنّ لفظة الروح تطلق على كلّ ما له صلة بالكنيسة، أي كل ما هو كهنوتي أو إكليركي (ecclesiastical)، مثل عبارة «المحاكم الروحية» التي تعرف في الغرب باسم ecclesiastical courts أو cours ecclesiastiques. وليس في الإسلام كهنوت ولا اكليروس ولا محاكم روحية، فهل دعوة الكاتب هي أن يصير الإسلام محض روحي بالمعنى اللغوي الغربي والمعنى المسيحي الكنسي، وبالتالي نقيض ذاته؟ إنّها دعوة
مرفوضة.
لقد أعطى الكاتب رأياً قوياً في الدين الإسلامي، لكنّه لا يسعني، كمسلم، أن أعطي رأياً مضاداً في الدين المسيحي، لأنّ في الحديث الشريف: «ما حدثكم به أهل الكتاب فلا تصدقوه ولا تكذبوه وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه». وهذا الحديث يكمّل الآية: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلاهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون» (46/ العنكبوت)، والآيات الكثيرة التي تعدّ الإيمان بالأنبياء والرسل، الذين سبقوا النبي محمد رسول الله وما أُنزل إليهم، جزءاً لا يتجزأ من الإيمان الإسلامي. وعلى سبيل المثال منها: «قولوا آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أنزل الى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» (136/ البقرة). فمن ينكر نبوة أيّ منهم أو رسالته يصبح كافراً بالإسلام.
وبالعودة الى مزاعم العنف والاغتيالات المنسوبة الى الشيخ حسن الصباح، الذي يقارنه كاتب المقال بالشيخ أسامة بن لادن، فإنّ الصباح، بشهادة الكاتب ذاته، بطل من أبطال الإسلام، وبلغ من العمر 28 سنة عندما بدأت الحرب الصليبية الأولى على المسلمين عام 1096 ميلادية، فتزعّم حركة مقاومة إسلامية روّعت المعتدين الصليبييّن، كما تروي كل قواميس اللغة الإنكليزية. ولم يفهم الصليبيون أنّ تلك المقاومة كانت تنبع من آيات القرآن الكريم التي تأمر بمقاتلة الذين يقاتلون المسلمين عدواناً أو يخرجونهم من ديارهم (8 و9/ الممتحنة و190ـــــ191/ البقرة و264/ البقرة)، كما لم يفهم الصليبيون سرّ إيمان المقاتلين المسلمين بالجنة إذا استُشهدوا، وسر بقائهم «أحياءً عند ربهم يرزقون» (169/ آل عمران)، فألصقوا بهم تهمة تعاطي الحشيش! ونعتوهم بالحشاشين، فتحوّلت اللفظة مصطلحاً لاتينياً assassin، ويَعني المجرم الذي يقتل بالاغتيال دون مصلحة خاصة أو عداء خاص للقتيل. وتناسى الصليبيون أنّهم لدى احتلالهم القدس اغتالوا عشرة آلاف مسلم وهم يصلّون في حرم المسجد الأقصى، وحوّلوا مسجد مروان الى إسطبل خيل، والمسجد الأقصى الى كاتدرائية. وكان الصليبيون كلما استولوا على مدينة للمسلمين، أبادوا سكانها اغتيالاً واستولوا على ديارهم لإسكان مستوطنين أوروبيين
فيها.
أما الشيخ أسامة بن لادن، وهو قرين الشيخ حسن الصباح بحسب كاتب المقال، فإنّ أحداً على وجه الأرض لا يمكنه أن يعطي رأياً فيه بحريّة ودون خشية الانتقام. ويكفي أنّ رئيس الكنيسة الأنغليكانية، لم يتمكن من إبداء أكثر من امتعاض بسيط لاغتيال بن لادن، ومع ذلك قامت القيامة عليه، لكن بإمكاني أن أُعطي الرأي القانوني بالشأن الذي تناوله كاتب المقال، بزعم أنّه يؤلف شائبة من الشوائب التي تمنعه من الاعتراف بالإسلام كدين «محض روحي»، انطلاقاً من مؤهلاتي الأكاديمية والمهنية، ومنها أنّني أحمل أعلى ثلاث شهادات عليا في علم القانون، من إحدى أكبر مدارس القانون في الولايات المتحدة الأميركية.
وهذا هو الرأي، بحسب ما تعلمته في أميركا، وما علمته لطلابي في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية: تعلّم مدارس القانون في الولايات المتحدة الأميركية طلابها أنّ نسيج الحكم الأميركي يقدم بكامله على قاعدة حكم القانون rule of law. ومن أهم خصائص هذه القاعدة المساواة أمام القانون والتطبيق المتساوي للقانون. وبعد هجمات 9/11/2001 نسبت الإدارة الأميركية إلى الشيخ أسامة بن لادن، سياسياً وإعلامياً، المسؤولية الجرمية عنها. وطالبت الحكومة الأفغانية، التي كانت تسيطر عليها حركة طالبان، بتسليمها إيّاه، فطلبت تلك الحكومة تزويدها بملف استرداد يتضمن الادعاء الرسمي على بن لادن، مع إعطاء الأدلة على تورطه. فرفضت الحكومة الأميركية ذلك، وهاجمت أفغانستان مشعلة حرباً طويلة يناهز عمرها اليوم العشر سنوات، قتل فيها عشرات أو مئات آلاف الأفغان ظلماً. وأتبعتها بعدوان واسع على العراق، تسبّب بتخريبه وقتل مئات الآلاف من أبنائه.
وحديثاً جداً، وبناءً على ما أذاعه البيت الأبيض في واشنطن، فإنّ 90 جندياً أميركياً هبطوا بالمروحيات على منزل في باكستان، واغتالوا بن لادن غير المسلح، وهو بين أفراد أسرته ومنهم 11 طفلاً، وهم جميعاً في كنف الدولة الباكستانية الإسلامية وأمانها، دون أن تطلب الحكومة الأميركية من حكومة باكستان استرداده رسمياً، ودون أن يجري الادعاء عليه في الولايات المتحدة، أو يصدر قرار اتهامي ضده ينسب إليه رسمياً أية جريمة. وكل هذا يؤلف، في رأيي، انتهاكاً لقاعدة حكم القانون الأميركية، وللقانون الدولي وحقوق الإنسان، وجريمة اغتيال توجب الملاحقة الجزائية ضد كل من شارك أو أمر بها.
صدر الأمر باغتيال بن لادن عن الرئيس الأميركي بموجب قانون خاص يجيز الاغتيالات (targeted killings) بمجرد أمر بسيط. وهو يشبه قانوناً إسرائيلياً غير مكتوب، بالمعنى ذاته، نتج منه اغتيال المئات من الأبطال اللبنانيين والفلسطينيين، وجلّهم من المسلمين، وأسماؤهم معروفة ولا تنكر إسرائيل مسؤوليتها عن هذه الجرائم، بل تفتخر بها، كما يفتخر الأميركيون اليوم باغتيال بن لادن، لكن السلطات الأميركية أحجمت عن ملاحقة القس الذي احتفل بإحراق المصاحف، وهدد الأمن القومي الأميركي وحرّض على الفتنة في الولايات المتحدة. ترى من هم الحشاشون/ assassins
الفعليون؟
* محامٍ لبناني