لولا ماحدث بالأمس في مجدل شمس ومارون الراس، لظننّا أنّ انتفاضاتنا لم تندلع إلا لتوكيد السردية النيوليبرالية، التي تقيم تعارضاً مركزياً بين القضيتين الوطنية والديموقراطية. تعارض يفتح باباً، ولو موارباً، كي تنفذ منه نظريات المؤامرة التي بدأت تملأ فضاءنا، بعد انحراف كثير من الانتفاضات عن وجهتها الأساسية (ليبيا، اليمن، سوريا..إلخ).
ونظرية المؤامرة لا تمرّ عادةً إلا حين تكون هنالك أرضية فعلية لمرورها. أرضية قوامها اليوم معارضات عربية مضطهدة، وهشّة إلى أبعد الحدود. وهشاشتها تعني أنّها قابلة للاستدراج والانصياع لشروط التدخّل الدولي الفظّ. نحن إذاً إزاء حالة كولونيالية كلاسيكية، يمكن توظيف ديناميتها في اتجاه مفارق لما ظننا بدايةً أنّ الثورات العربية قد بدأته. طبعاً، نتحدث هنا عن التلازم المنهجي بين قضيتي التحرير والتغيير. تحرير المنطقة من الهيمنة الاستعمارية، وتغيير الديكتاتوريات التي نصّبها الاستعمار علينا، لتأبيد هيمنته تلك. هنا، لا بد للتلازم بين القضيتين من أن يكون عضوياً، وإلّا فستذهب كل نضالاتنا من أجل التثوير هباءً. معنى ذلك أنّ التلازم أعلاه بحاجة إلى لحمة تحفظ وحدته، وتثبت طابعه العضوي. وأيّ لحمة اليوم أفضل من سردية فلسطين. ففلسطين وشعبها، هما ضمانتنا الوحيدة الآن، وبدونهما لا مستقبل أبداً لهذا الحراك الراديكالي. والراديكالية هنا هي الوعاء الذي تسبح فيه القضية الفلسطينية. وعندما يتحلّل الفلسطينيون من راديكاليتهم سيخسرون كل شيء، لا أرضهم فقط. شاهدنا ذلك في أكثر من محطة استسلام وإذعان، وسنشاهده مجدداً إذا لم يقبضوا على الجمر ويعيدوا وصل ما انقطع في أوسلو. والقطيعة مع أوسلو، إذا ما حدثت، لا يجوز أن تكون جزئية أو مؤقتة، بل كليّة وممتدة زمنياً. حينها فقط يمكن ثوراتنا أن تمضي إلى خواتيمها، وللنيوليبراليين العرب الذين يذرفون دموع التماسيح على ضحايا القمع أن يصمتوا ويبلعوا ألسنتهم. ما حاجة سلالات النفط إلى هؤلاء أصلاً، إذا لم يفلحوا في احتواء الانتفاضات العربية وإيقافها عند حدود إسرائيل. هذه الحدود التي كان متعذّراً بالأمس المساس بها، تداعت نظرياً قبل تداعيها عملياً على يد شباب فلسطين وسوريا ولبنان. فمنذ قيام الثورة المصرية، وليبراليونا المبتذلون يحاولون إقناعنا بأنّها انتفاضات من أجل الخبز والحرية فقط.
كان علينا أن ننتظر يوم الخامس عشر من أيار حتى نردّ على دجلهم وتفانيهم في لحس ما لا يلحس. لن تستطيعوا بعد اليوم مداراة فضيحتكم. ما كان بالأمس خبزاً وحرية فحسب، أصبح اليوم خبزاً وحرية وكرامة، انتزعت بالقوة من جزمة النازي الجديد، القابع على حدود الجولان المحتل ولبنان. وهنا الإضافة الحقيقية. فالكرامة ليست فعلاً يمارس بانتقائية انتهازية، كما يفعل «الليبراليون» العرب عادة، وإلا لأسبغنا هذه الصفة على كلّ من انتقد نظامي مبارك وبن علي، من مختلف المشارب.
الأمر إذاً دقيق وملتبس، ولا يحتمل التعميم، فليس كلّ من انتقد نظاماً استبدادياً هو ديموقراطي بالضرورة، ولا كلّ من وقف مع الشعوب اليوم في انتفاضاتها يريد لها الكرامة فعلاً. أيّة كرامة هذه التي تبيح لمنظّر نيوليبرالي أن يضع نضال الشعوب من أجل حريتها في مواجهة نضالها لإيصال هذه الحرية إلى خواتيمها: تحرير فلسطين. هذه المعادلة المقلوبة لم تعد تجدي اليوم، وأي محاولة لتثبيتها ولو بالقوة، ستفضي إلى مزيد من الإصرار على نقضها. طبعاً، الأمور انقضت هذه المرّة ببضعة شهداء على جبهتي لبنان وسوريا، وبجرحى ومعتقلين على جبهات مصر والأردن وفلسطين، لكن لا أحد يمكنه أن يضمن من الآن مآلات الجولة القادمة. وعلى من يتنطّح لإسداء النصائح للمعارضات العربية بالكفّ عن المزاوجة بين القضيتين الوطنية والديموقراطية، أن ينتبه إلى أنّه لن يكون بمنأى عن «القصف» النظري المواكب لحراك الشارع الغاضب.
لقد نجا هؤلاء الأدعياء من الجولة الأولى، عقب سقوط الديكتاتوريات المتحالفة معهم موضوعياً، لأنّ تكوينهم الانتهازي سمح لهم بذلك، غير أنّ عداءهم التكويني أيضاً للقضية الوطنية (تحرير فلسطين)، سيفوّت عليهم هذه المرة فرصة اللحاق بمدّ لا يريدون له أن يوجد أصلاً. ولسوء حظهم أنّه أصبح موجوداً اليوم بكثرة، وبكمّ يفيض كثيراً عن قدرة أيّ منا على استيعابه، لكن ماذا تقول لمن ظنّ لوهلة أنّه يستطيع حبس مارد الكرامة العربية في قمقم الخبز والحرية النيوليبرالي. وهو نيوليبرالي، لأنّ تخاذل البعض وفصلهم تعسّفياً بين البعد الطبقي للانتفاضات والبعد الوظيفي لها (وطنياً وقومياً) جعله كذلك. لا يحقّ لهؤلاء أساساً أن يقرّروا نيابة عن الكتل المنتفضة ماذا عليها أن تفعل، وكيف يجب أن ترتب أولوياتها. من قال أصلاً إنّه يجب أن تكون هنالك أولويات؟ من يملك أساساً الحق في أن يقول ذلك؟ المجلس العسكري الاستبدادي في مصر، أم المجلس الانتقالي الكولونيالي والتابع للأطلسي في ليبيا، أم جوقة عبد الحليم خدام والعدالة والبناء في لندن؟ هل هذه هي القيادات المنوط بها تحديد أجندة الثورات العربية؟ إذا كانت هذه هي الحال فعلاً، فعلينا منذ الآن أن ننعى انتفاضاتنا، وندفن الأحلام العريضة التي أطلق جذوتها الشهيد محمد البوعزيزي في تونس. أما إذا لم تكن هذه هي الحال، وإذا كانت قيادة الانتفاضات لا تزال معقودة لكتلنا الجديدة في مصر وتونس والبحرين واليمن وسوريا، فعلينا أن نتهيّأ منذ الآن، لعصف ثوري لن يبقي ولن يذر. عصف لن يتوقف عند حدود معينة، ولن تكون قيادة الثورات المضادة في مشيخات النفط بمنأى عنه، حتى لو حاولت أن توحي بعكس ذلك، عبر أبواقها في السعودية وقطر والبحرين.
كلّ ما تقدم يقول إنّنا بتنا قاب قوسين أو أدنى من تحرير فلسطين. نعم تحريرها، حتى لو وضع هذا الكلام في خانة الرّطانة الثورية. أين المشكلة في ذلك؟ لنرطن بالثورة المستمرة ما دامت إمكانية تحقيقها تصطدم كل مرّة بحاجز جديد. أزيل نظام مبارك في مصر، فحلّ بدلاً منه ما هو أسوأ. سقط نظام بن علي في تونس، فتسلّم الحكم ورثته الفاسدون. اهتز النظام في سوريا قليلاً، فإذا بعبد الحليم خدام وعصابته يعدوننا باستعمار أطلسي، سيجعلنا نترحّم على أيام البعث. أيّ ثورات هذه، وأيّ مستقبل لمن لا يضع قضية التحررّ الوطني نصب عينيه؟ لقد بحّ صوت عزمي بشارة وهو يدعو إلى استعادة إرث حركات التحرّر العربية، فإذا به يستلقي مرغماً في أحضان من يريدون تجزئة هذه الحركات، وتقطيعها إرباً. ومن حسن حظنا، أنّ هذه الإرادة الكولونيالية لم تجد لها حاملاً موضوعياً حتى الآن، رغم كلّ التحشيد الذي يدفع في هذا الاتجاه. وقد يكون العكس هو الذي حدث. فما وقع في مصر من اشتباكات أمام السفارة الإسرائيلية، يثبت أنّ الحراك الذي بدأ في تونس في طريقه إلى النضوج أكثر فأكثر. هي مسألة وقت لا أكثر، حتى يظهر للعلن أنّ ما كان مستحيلاً بالأمس لم يعد كذلك اليوم. وكلّ من ينظّر الآن لتجميد هذه اللحظة التاريخية، وإبقائها عند حدود معينة، سيجد نفسه قريباً خارج التاريخ، إذ لم يعد بالإمكان اليوم إقناع المصري والسوري واللبناني والأردني والتونسي و...إلخ، بأنّ وطنيتهم لا تستقيم إلا بفعل النفي. نفي ذاتهم الفلسطينية المدفونة تحت طبقات من الذلّ والمهانة. ذلك أنّ الشاب الفلسطيني الذي صرخ قائلاً (على شاشة إحدى الفضائيات النفطية وهو يجتاز الحدود السورية إلى مجدل شمس المحتلة): «لا يوجد حقول ألغام، لقد كذب علينا الإسرائيليون والسوريون طوال هذه المدة»، لم يكن يكذب أو يبالغ. قد تكون حقول الألغام موجودة فعلاً، لكنّ الغرض الذي أُنشئت لأجله لم يعد موجوداً بالقدر ذاته، أقلّه بالنسبة إلى هذا الشاب ذي الإرادة الحديدية. ماذا يمكن لنيوليبرالي أن يقول في موقف كهذا؟ الأرجح أنّه لن يقول شيئاً، لأنّه لن يجد من الآن فصاعداً من يصغي إلى ترّهاته المتفّهة لإرادة الشعوب، والمسوّغة لأقلمة الثورات (أي عزلها عن بعدها العربي الجامع). أصلاً ما عاد مقبولاً تقبّل توبة بعض النيوليبراليين، وتسلّقهم الحراك الشعبي العربي كأنّ شيئا لم يكن، وكأنّهم لم يوّفروا الذرائع تلو الأخرى، لديمومة سلالات التسلّط العربية بحجّة وبغير حجّة. ماذا تقول مثلاً في شيخهم الذي استفاق من منبره النفطي على «ربيع العرب»، فقط عندما «التحقت» مملكة القهر الوهابية التي ترعاه بهذا «الربيع»، من موقعها الذيلي والكولونيالي المعتاد.
وإذا أراد المرء أن يحصي عدد هؤلاء المتحوّلين فلن ينتهي قريباً، لأنّ لحظة الحقيقة لم تحن بعد، ولأنّ الأفق الذي نريده لانتفاضاتنا لم يتبلور بما فيه الكفاية. أما عندما تحين تلك اللحظة، فلنا كلام آخر. طبعاً، سنقول هذا الكلام كالعادة، لكن هؤلاء المتسلّقين لن يكونوا في مواقعهم حتى يردّوا علينا. عليهم أن يعوا ذلك، وأن يجهّزوا قارب النجاة، ففلسطين حين تعود لن ترحم من تواطأ عليها، أو من نظّر لهذا التواطؤ.
* كاتب سوري