مع اقتراب موعد الاستحقاق الأهم في تاريخ العراق، والمتعلق بموعد جلاء قوات الاحتلال الأميركية نهاية العام الجاري، حدث تصاعد خطير على الجبهتين الأمنية والسياسية. تصاعدت حملة الاغتيالات بكواتم الصوت، وعمليات هروب وتهريب السجناء خلال حركات تمرد خطيرة، كما وقعت عمليات اقتحام مسلحة مثيرة، أهمها اقتحام مبنى محافظة صلاح الدين نهاراً، وسقوط عشرات القتلى والجرحى. لا أحد يشك في وجود علاقة بين هذا التصعيد والضغوط الأميركية الشديدة على الحكم، لتمديد بقاء قوات الاحتلال. كأنّ المحتل أراد أنْ يقول لحلفائه: ألمْ أقل لكم إنّ الوضع هشّ وخطير، وإنّكم لا تزالون بحاجة الى قواتنا؟ أما لماذا استمر وجود هذه «الحاجة» بعد ثماني سنوات من الاحتلال، صرفت خلالها مليارات الدولارات، فذلك سؤال لا يطرحه أحد، لأنّه إنْ طُرِح فسيظهر الملك عارياً في شوارع بغداد.الجبهة الثانية التي اشتعلت بضراوة هي السياسية. توترت العلاقات بين رئيس الوزراء المالكي وزعيم تحالف «العراقية» علاوي، واقتربت من المواجهة الشاملة. فمع أنّ تحالف الأخير يشارك بأحد عشر وزيراً، إضافة إلى نائب رئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب ونائب رئيس الجمهورية، لكن علاوي يؤدي في الوقت نفسه دور قائد المعارضة الأول، ربما لأنّه شخصياً لم ينل ما طمح إليه من منصب موازٍ لمنصب المالكي. ثم بلغ التوتر ذروته مع تسريب رسالة وجّهها المالكي لعلاوي، رداً على ما قال إنّها عشرون رسالة أرسلها له الأخير.
لم يُكشف بعد عن اسم القيادي في تحالف علاوي الذي سرَّب نص رسالة المالكي إلى وسائل الإعلام المحلية. ومع أنّ اسمه ليس مهماً بحد ذاته، لكن البواعث إلى هذه الفعلة لا تخلو من دلالات. فالرسالة لا تصبّ، من حيث محتواها وتوجهها العام والمعطيات الواردة فيها، في مصلحة علاوي. من هنا جاء الاحتمال الذي قال به البعض من أنّ مُسَرِّبَ الرسالة ربما يكون من الفريق المناوئ لعلاوي، داخل كتلته البرلمانية. ما يؤيد هذا الاحتمال هو أنّ ردة فعل علاوي جاءت حادة ومتشنجة، وخالية من الكياسة والدبلوماسية تماماً. في الرسالة التي ردّ بها علاوي، كما في كلامه خلال المؤتمرين الصحافيين اللذين عقدهما، نقرأ عبارات لا علاقة لها بنمط المراسلات بين رئيس وزراء سابق وزميله الحالي، في نظام يحب دعاته أن يصفوه بـ«الديموقراطي». عبارات من قبيل: «كلام فارغ» و«أفكار ضحلة وسخيفة»، و«أنا أكبر من أن أرد على اتهامات المالكي الصغيرة»، و«رسالته تنطوي على مطالب طائفية»، و«أنا بالكاد أعرف المالكي، ولم أحتكّ به سابقاً».كما نال قائد عمليات بغداد، حصة لا بأس بها من شرر ونيازك علاوي، إذْ وصفه برئيس العرفاء، كما وصف قواته بالجندرمة.
رسالة المالكي لم تكن مثالية أو خالية من العيوب والملاحظات اللاذعة هي الأخرى، لكنّها مع ذلك حاولت أن تنأى عن الازدراء المباشر، رغم شراستها المضمونية، وتسجيلها لزلات وأخطاء، بعضها مبالغ فيه ولا ينمّ عن أي إحساس بالتسامح، وأخرى ما كان ينبغي سكوت المالكي عنها لأيّ سبب كان.
وبشأن موضوع الوزارات الأمنية، يكشف المالكي أنّ علاوي قدم له خمسة مرشحين، وحين وافق على واحد منهم، تراجع علاوي وقدم مرشحاً بديلاً، وضغط على حلفائه في القائمة لقبول المرشح البديل. أما في مؤتمره الصحافي، فقد كشف المالكي أنّ علاوي رشح له ضابطاً بعثياً بدرجة عضو شعبة، وبعده رشح بعثياً آخر بدرجة عضو فرقة، وهما من أعلى الرتب التنظيمية في حزب البعث. وأخيراً رشح له ضابطاً في الجيش، طُرِدَ من الخدمة بأمر من المالكي ذاته. أما التبرير الذي يسوقه المالكي لطرح مرشح لوزارة الدفاع من خارج قائمة «العراقية»، والقائل بأنّ هذا المنصب هو «من حصة مكون العرب السنة وليس من حصة «العراقية» فقط، مثلما أنّ وزارة الداخلية من حصة المكوّن الشيعي والخارجية من حصة المكوّن الكردي»، فهو ليس إلا «كلمة حق يراد بها باطل». هذه العبارة صحيحة من حيث منطقها الداخلي الذي يعتمد منهج المحاصصة الطائفية وسياساتها المثبتة في التوافقات «الصفقات»، وغير المثبتة في نصوص الدستور حرفياً، لكنّها باطلة بالمعنى الوطني الرافض للاحتلال، والديموقراطي الرافض للمحاصصة الطائفية. يريد المالكي أنْ يرضى به الجمهورُ مدافعاً عن المحاصصة الطائفية، متى كانت المحاصصة لمصلحته ولمصلحة مكونه المجتمعي، وأنْ يرضى به الجمهورُ ذاته، في مناسبة أخرى، وطنياً معارضاً للطائفية يقود «صولات الفرسان» ضدها. وذلك أمر غير ممكن لاستحالة الجمع بين النقيضين، إذْ لا يمكن أن يكون المرء طائفياً وديموقراطياً في آنٍ واحد.
يتهم المالكي خصمه بعدد من التهم، منها أنّه لا يهتم بسيادة العراق وسلامة مواطنيه، مقدار اهتمامه «بهؤلاء الذين تلطخت أيديهم بدماء العراقيين والذين يمثّل وجودهم خرقاً مستمراً لسيادة العراق»، ويقصد أنصارَ منظمة «خلق» الإيرانية المعارضة التي دافع عنها علاوي في إحدى رسائله. الواقعُ أنّ اهتمام علاوي بهذا الموضوع مفاجئ، وقد لا يدخل في باب الدفاع عن حقوق الإنسان، بل في باب اغتنام الفرص والمناسبات. لم يُعرف عن علاوي اهتمامٌ بتلك المنظمة وأنصارها في يوم ما، كاهتمام حليفه صالح المطلك مثلاً. فهذا الأخير، كان يلهج باسم منظمة «خلق» صباحَ مساء، مع أنّهم اختفوا من شاشة اهتماماته، بعد تنسّمه منصب نائب رئيس الوزراء. أما محاولة المالكي إحراج خصمه علاوي بهذا الموضوع، فهي لا تقلّ سلبية عن استخدام علاوي لها. فهل جاز للأميركيين أنْ يحتلوا العراق، ويدوسوا على سيادته واستقلاله ولا يزالون يفعلون، فيسكت عنهم المالكي، لكنّه يسلط غضبه على مجموعة من اللاجئين السياسيين الإيرانيين المعارضين، والمجردين من السلاح، على الأراضي العراقية لأنّ طهران تريد ذلك؟ إنّ علاوي يفاخر في رسالته الجوابية بأنّه هو ولا أحد غيره مَن وقف ضد وجود منتسبي منظمة «خلق» الإيرانية، وضد تدخلها في شؤون العراق الداخلية، حين كان رئيساً للوزراء، وأنّه هو مَن طالب الأمم المتحدة بإيجاد مكان بديل لهم، خارج العراق، فلماذا يختلف الرجلان إذاً على هذا الموضوع؟
كان علاوي قد عقد مؤتمراً صحافياً أولاً، ثم دعا إلى عقد اجتماع لقيادة تحالفه في منزله، قيل إنّ النائب طارق الهاشمي، أحد أقطاب التحالف ونائب رئيس الجمهورية، انسحب منه غاضباً. ثم ردّ علاوي برسالة مفصلة، اتسمت بالحدّة والخلوّ من الدبلوماسية، كمثيلتها رسالة المالكي. وما لبث أنْ عقد مؤتمراً صحافياً بعد ساعات قليلة على مؤتمر صحافي عقده شريكه وخصمه المالكي. الأخيرُ أوضح أنّ رسالته هي ردّ على عشرين رسالة وصلته من علاوي، وهدد بأنّه إذا يئس من إصلاح الحال، فسيُسْقِطُ الحكومةَ ويستقيل ويطلب حَلّ البرلمان. يجري كلّ ذلك بين الرجلين، فيما يستمر عمل اللجان المشتركة بين التحالفين، ويداوم ممثلوهما في السلطات التنفيذية والتشريعية على النشاط والتنسيق بينهم، ما يعطي الانطباع بأنّ هذه المبارزة بالرسائل والمؤتمرات الصحافية هي فعلاً بين شخصين، وليست بين نهجين أو تحالفين متعاديين. هذا المعنى أكده النائب المقرب من المالكي سعد المطلبي، حين وصف العلاقة بين تحالفه وتحالف علاوي بالقول إنّهما «من بين أكثر القوائم تفاهماً على قضايا كثيرة ومهمة... وكلما حصل تقارب بين القائمتين فإنّ الذي يعمل على تخريب هذا التقارب هو رئيس القائمة الدكتور إياد علاوي وليس شخصاً آخر». أما النائبة وحدة الجميلي، من تحالف علاوي، فكانت أكثر وضوحاً حين قالت إنّ «(التناحر السياسي بين المالكي وعلاوي لا يعني التناحر بين كتلتي التحالف الوطني والعراقية، وإنّ النواب يحاولون النأي بأنفسهم عن ذلك التناحر لينحصر بين الشخصيتين». فهل ثمة علاقة بين تلك المبارزة والتسريبات وبين توتير الأجواء العامة أمنياً وسياسياً، وصولاً إلى قيام الاحتلال وأصدقائه بتفجير محسوب، يراد به إجبار المالكي على اتخاذ قرار تمديد بقاء قوات الاحتلال لسنوات عدّة؟
بالمناسبة، لماذا يتبارز المتنافسون داخل العملية السياسية الأميركية بهذه الشراسة والضراوة في ما بينهم، لكنّهم يتوحدون فوراً، وصفاً واحداً، إذا تحداهم أو انتقدهم طرف وطني وديموقراطي من خارجها، وطالبَ بطرد الاحتلال فوراً، وهَجْر المحاصصة الطائفية والبدء بعملية سياسية وطنية وديموقراطية؟

* كاتب عراقي