لم تثر الثورة التونسية أي هاجس، مقابل إثارة الثورة المصرية كلّ المكنون العربي المناهض لنظام حسني مبارك، الذي أصبح ملحقاً بالإمبريالية الأميركية، ويخضع للسياسة الصهيونية. وأصبحت الثورة ثورة ضد كامب ديفيد، لا ثورة الشعب المصري من أجل العمل، ورفع الأجور والدولة المدنية. ولقد كان هناك انسجام شعبي عربي مع النخب في الموقف من هاتين الثورتين، وأصبح الأمل كبيراً في التغيير وهزم الإمبريالية، كما لم يظهر ما يشير الى أنّ ما يجري مخالف للمسار الثوري.
حتى الثورة في اليمن، وُضعت في السياق ذاته، لكن مع الانتفاضة في ليبيا، بدأ من يتشكّك في الثورة فيها، وخصوصاً مع الدعوات الى التدخل الدولي، ومن ثم إقراره. وأصبحت الثورات محل تشكيك بعد الثورة في سوريا، فأضحت كل الثورات العربية «من صنع أميركي». وظهر بعد التغيير الذي حصل أنّ قادة الجيش، الذين ركبوا الثورة في تونس ومصر، لم يقطعوا مع الولايات المتحدة ولم يغيّروا في الوضع كثيراً، رغم كلّ ضغوط الشارع، حيث بدا أنّ الثورات قد «صُنعت»، من أجل تبديل نظم مهترئة بأخرى فتية.
في سوريا، طُرحت مسألة المقاومة بحدّة، وخصوصاً حماس وحزب الله. فما مصيرهما إذا حصل تغيير في سوريا؟ الصورة النمطية التي كانت قد ترسخت لدى النخب في لبنان والأردن خصوصاً، قامت على أنّ الموقف «الممانع» للنظام في سوريا، هو الركيزة لكلّ من حزب الله وحماس. وبالتالي، فإنّ أيّ تغيير سيكون أميركياً بالضرورة، وفق السياق الذي باتت توضع فيه الثورات العربية، وكانت سوريا «أنصع» مثال عليه. فهل التغيير السوري سيقود الى تصفية المقاومة؟
سنشير الى أنّ حماس انفتحت على مصر، وعادت جزءاً من سلطة أوسلو، ولقد باتت منذ زمن مع هدنة طويلة، وكبح إطلاق الصواريخ، كما بات وضعها مرتبط بالتحوّلات العربية من زاوية «الحلم الإخواني»، فهؤلاء أصبحوا قوة قادرة على السيطرة على البرلمان والمشاركة في الحكومة في كلّ من مصر وتونس، وربما في بلدان عربية أخرى. يظنون أنّ زمنهم قد أتى، ولهذا نقاش آخر، لكن المهم هو أنّ المقاومة باتت هي حزب الله، فهل سيتضرر الحزب من التغيير في سوريا؟ ربما نعم، وربما لا، فمن يقومون بالثورة هم ممن كانوا يدعمون حزب الله خلال السنوات الماضية، وهم مع المقاومة ومواجهة الإمبريالية والدولة الصهيونية، ويمكن ملاحظة ذلك في الشعارات التي تتعلق بالجولان، وفي رفض أميركا. رغم ذلك، يمكن تلمّس أنّ أيّ تحوّل سيغيّر من طبيعة العلاقة. هذه مشكلة ولا شك، لكن لا بد من ملاحظة مسألتين، الأولى تتعلق بمأزق حزب الله قبل هذه الحالة الثورية، والثانية سياق الثورات العربية، وما يمكن أن توصل إليه.
فحزب الله في مأزق نتيجة طابعه «الطائفي» (أيّ لكونه منحصراً في طائفة)، وإذا كان هذا الجانب ليس ذا أهمية حين كانت المسألة تتعلق بالتحرير، فقد أضحى إشكالية بعدما أصبح للحزب دور داخلي. وما حصده حين هزم الجيش الصهيوني في 2006، خسر نصفه حينما أصبحت المسألة تتعلق بالسلطة. فهو لا يستطيع السيطرة، ليس نتيجة قوته، بل نتيجة طابعه الطائفي رغم قوته، ولم يعد ممكناً التوصل الى توافق طائفي، وأصبحت المقاومة تعني ردع أيّ هجوم صهيوني فقط. وفي هذا الوضع كان يحتاج الى سوريا، وخصوصاً على أرضية التحالف السوري ـــــ الإيراني. هنا ستكون المسألة الطائفية مشكلة للحزب وتفرض تحالفات محدَّدة، سيبدو أيّ تغيير سوري خطراً عليها. وهذا ما يتبدى لِطَيْف من داعمي المقاومة، أو المتاجرين بها. وكلية هذا الوضع، كانت نتاج أوضاع عربية قامت على قسمة النظم والقوى الى «معتدلين» (أي ملحقين بالإمبريالية) و«ممانعين» رغم تشوش معنى الممانعة (التي كنت قد استخدمتها منذ 2002 في توصيف النظم التي ترى الإمبريالية الأميركية أنّها لم تُخضع بما يكفي وحان وقت إخضاعها). وكانت تبدو كموقف سياسي لا كتكوين اقتصادي طبقي، إذ سارت سوريا، خلال العقد الماضي، خطوات هائلة نحو اللبرلة. هذه اللبرلة التي لا أسس تناقض جدية فيها مع النمط الرأسمالي المسيطر. بالتالي، ستبدو الممانعة متوقفة على «شعرة»، لكي تنتهي بعدما أصبحت القاعدة الاقتصادية متوافقة مع ما تريده الإمبريالية في الأطراف (أي نظام اقتصادي ريعي، قائم على الخدمات والاستيراد والعقارات والسياحة).
أصلاً هذا الوضع الاقتصادي، الذي مركزَ الثروة وهمّش كتلة كبيرة من الشعب، هو الذي فرض الثورات في البلدان العربية، ومنها سوريا. من هذا المنظور، لا بد من رؤية آفاق الثورات في البلدان العربية، والتغيير الذي ستفرضه. نظرية المؤامرة لا موقع لها هنا، وهذا المنطق هو نتاج عقل نخب سطحية، كانت طيلة العقود الماضية عاجزة عن رؤية الواقع، وعن فهم أزمات الشعوب، لذلك لم تفهم ما جرى، ولم تفهم أيضاً لماذا استطاعت الرأسماليات المسيطرة إبقاء سيطرتها، رغم التغيير في الأشخاص وشكل السلطة. وبدلاً من أن تتحمل مسؤوليتها التي فشلت فيها طيلة العقود الماضية، وتسمح لأن تكون الثورات عفوية، وتقاد من شباب جدد يمتلكون الجرأة والإصرار على التغيير، بقيت تنظر عن عجز الشعب ولا مبالاة الشباب، وتمسكت بأشكال أصولية مختلفة.
لا شك في أنّ الثورة تعيش مأزقاً، ومرحلتها الأولى تتسم بسيطرة قوى مختلطة، وباستمرار السلطة الطبقية ذاتها، ولا يجري الميل لتغيير النمط الاقتصادي الذي همّش كل هذه الكتلة، لكن من قال إنّ الثورة قد وصلت الى نهايتها؟ ذو العقل السطحي هو وحده الذي يرى الأشكال وما جرى دون تلمس ما يمكن أن يجري. سأقول إنّ الثورات العربية التي ستطاول كل البلدان، لأنّها أصبحت تشهد النمط الاقتصادي ذاته، ستفرض تحقيق تغيير عميق في الوضع العربي. فليس من الممكن لملمة الوضع الشعبي، بعدما انكسر حاجز الخوف وتدفقت كتلة هائلة من الشباب الى الميدان السياسي. أمر سيفرض نشوء أحزاب جديدة برؤية عميقة للواقع، تقوم على تصعيد الصراع مع الإمبريالية والدولة الصهيونية، ومن أجل الوحدة والتطور، لأنّ تجاوز التهميش سيفرض تأسيس نمط اقتصادي منتج يقتضي القطع مع النمط الرأسمالي والصراع معه، وبالتالي تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي.
وانطلاقاً من ذلك، أصبح على كلّ مقاوم وكلّ قوة مقاومة أن تتكيّف مع هذا الوضع الثوري الجديد، لا أن تمسك بتحالفات تكتيكية في مواجهة حركة الشعب، وخصوصاً أنّ الصراع بات واضحاً، كصراع طبقي وطني، وهو ما يجعل الأشكال التي لا تتكيّف مع ذلك دون أهمية وجدوى.
* كاتب عربي