(إلى الأصدقاء محمد ديبو وعمر كوش وضياء الدين دغمش، المعتقلين حتى هذه اللحظة، وما بدّلوا تبديلاً)ما يجري في سوريا من اعتقال وكبت وقتل وتعذيب لا يُمْكن تبريرُه ولا السكوتُ عنه، أيّاً كانت الذرائع.
أولاً، لا يمكن التسليمُ بأنّ البديل من النظام الحاليّ سيكون (بالضرورة) فوضى مطلقةً، أو نظاماً سلفيّاً، أو تطبيعاً مع العدوّ الإسرائيليّ. التسليمُ بهذا الأمر هو من قبيل الحتميّة التاريخيّة اليسراويّة المقلوبة (عودة التاريخ إلى الوراء بدلاً من التقدّم إلى الأمام). وهو يَنْقض ما أفرزتْه، حتى اليوم، ثورتا مصر وتونس، إذ تَبيَّنَ أنّ «الفزّاعة» الإسلاميّة ذابت في ملايين المنتفضين من كلّ المشارب والاتّجاهات. والأهمّ أنّ ذلك التسليم الحتميّ إهانةٌ للشعب السوريّ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، لأنه يكاد يَجْزم أنّ هذا الشعبَ طائفيّ جينيّاً، ومنبطحٌ أمام إسرائيل بالفطرة، وأنّه عاجزٌ عن أن يُنتج شيئاً إلّا نظاماً قمعيّاً جديداً، أو حرباً أهليّةً، أو استسلاماً أمام العدوّ القوميّ.
إنّ منطقاً كهذا مستهجنٌ خصوصاً حين يَنْطق به قوميّون (عربٌ وسوريّون اجتماعيّون) لأنهم، دروْا أو لم يدروا، يَطْعنون كلَّ رموز النضال الوطنيّ السوريّ والقوميّ العربيّ: من سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السوريّة الكبرى (1925 ــ 1927) على الانتداب الفرنسيّ، مروراً بالمجاهد عزّ الدين القسّام، الذي ترك «جَبْلة» السوريّة ليقودَ ثورةً فلسطينيّةً ـــــ عربيّةً على البريطانيين في ثلاثينيّات القرن الماضي، وانتهاءً بالمئات من السوريين الذين استُشهدوا (أحياناً على الضدّ من إرادة نظامهم) دفاعاً عن عروبة فلسطين والعراق ولبنان، وبمئات آخرين من الفنّانين والمثقّفين الذين أفنوْا حياتَهم في تجديد الفكر القوميّ العربيّ (واليساريّ المعادي للظلم)، فضلاً عن أهل الجولان الذين يواصلون منذ أكثر من ثلاثة عقود تمسُّكَهم بهويّتهم السوريّة العربيّة رغم إغراءات الاحتلال الإسرائيليّ.
إنّ عروبةَ سوريا، وإيمانَ الشعب السوريّ بقضيّة فلسطين، ودعمَه الهائل عامَ 2006 وقبلَه لنضال المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، أمورٌ تتخطّى النظامَ وحزبَ البعث معاً. وإنّ تصويرَ الشعب السوريّ كأنّه لقمةٌ سائغةٌ في فم السلفيّين وعملاء الأميركان، لولا استئسادُ النظام عليه، إنما هو احتقارٌ ما بعده احتقارٌ لـ«قلب العروبة النابض»، ونقضٌ صارخٌ لكلّ المدائح التبجيليّة التي لا ينفكّ الإعلامُ السوريُّ يقذفها على «شعب سوريا».
لكنّ الاستبدادَ الشاملَ والمديدَ (الذي قَزّم الأحزابَ والنقابات إلى درجة إلغائها أحياناً)، كما المواجهات الحاليّة الدامية، لا تلغي إمكانيّةَ نشوء «بدائلَ» مخيفة (كالفوضى والصراع الأهليّ). لا حتميّةَ في أمور كهذه. لكنّ مسؤوليّة النظام، الذي يُمْسك بتلابيب الدولة ومقدّراتها الأمنيّة والماليّة، أكبرُ من مسؤوليّة أيّ أحد، ولا سيّما في الحؤول دون أن تنجرفَ البلادُ إلى ما يُشْبه الاحترابَ الداخليّ وفقاً للسيناريو اللبنانيّ أو العراقيّ. والخطواتُ الأولى التي يمْكنه القيامُ بها لنزع فتيل الاحتراب المقيت هي: إلغاءُ قانون الطوارئ فعلاً لا قولاً، وفتحُ تحقيق نزيه وشفّاف في عمليّات قتل الشهداء من المتظاهرين والجنود ورجال الشرطة على حدّ سواء، ومحاسبةُ المسؤولين عن الانتهاكات والمظالم الأخيرة خصوصاً، ومحاكمةُ رموز الفساد المحتكِرين لثروات البلاد (أسماؤهم معروفة وتردِّدُها ألسنةُ المتظاهرين كلّ يوم)، وتعديلُ المادة الثامنة ـــــ الفصل الأول من الدستور (وهي تنصّ حرفيّاً على أنّ «حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ هو الحزبُ القائدُ في المجتمع والدولة...»). وحدَها هذه الخطواتُ يمكن أن تكون بشيراً حقيقيّاً ببداية التحوّل من الدولة الأمنيّة أو دولة النظام، إلى دولة المواطنين، دولة القانون والمؤسّسات.
■ ■ ■
ثانياً، إنّ الإيحاء أنّ بقاءَ النظام في السلطة بأيّ ثمن، ولو بالقمع والتنكيل، خدمةٌ للمقاومة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة، على سبيل المثال لا الحصر، أمرٌ لا أعتقد أنّ كثرةً من مناضلي هاتين المقاومتين سيَقْبلونه، وإنْ أقرّوا بدَيْن النظام عليهم تسليحاً وتدريباً وموقفاً سياسيّاً «ممانعاً». بل يخيّل إليّ أنّ أكثر مَن يعي بَهَاءَ المطالبة المشروعة بالحريّة والكرامة في سوريا هو مَنْ لَقِيَ في الأمس، أو يَلْقَى اليومَ، التعذيبَ والأسْرَ والاعتقالَ على أيدي الصهاينة في فلسطين ولبنان، أو على يد قوّات الاحتلال الأميركيّ في العراق. فكيف إذا أُوهِمَ هذا المقاومُ اللبنانيّ أو الفلسطينيّ أو العراقيّ بأنّ الدعمَ الرسميّ السوريّ الذي يناله يُستخدم اليومَ ذريعةً لدى حلفاء النظام (في لبنان خصوصاً) للسكوت عن «تعفيس» المتظاهرين في «البيضا» كالقمل، وعن تقليع أظفارهم، والتبويلِ عليهم، وإقحامِ أشياءَ في مؤخِّراتهم... وتصويرِهم بكاميرات الهواتف الخَلَويّة فوقَ ذلك تبجُّحاً وغروراً؟ بل لعلّي أذهبُ إلى أبعد من ذلك لأقول: إنّ تغاضي المقاومين في حزب الله عن ممارسات السلطات السوريّة في حقّ المتظاهرين، أو التخفيفَ من آثارها، أو تبريرَها بذريعة أولويّة المعركة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، يقوِّض شيئاً عزيزاً من صورة الحزب البهيّة في عيون أنصار المقاومة اللبنانيّة في كلّ مكان.
نعم، إنّ انتصارَنا على العدوّ في عامي 2000 و2006 ما كان ليكون لولا الدعمُ السوريّ. ونعم، إنّ إسقاطَ اتفاق 17 أيّار 1983 بين السلطة اللبنانيّة والعدوّ برعاية أميركيّة قد كان بدعم سوريّ متعدّدِ الجوانب لقوى «المعارضة» اللبنانيّة (الملتبسةِ دوماً). بَيْدَ أنّ الوفاء لهذا الدعم وذاك لا ينبغي يكونَ على حساب الشعب السوريّ الذي فَتَحَ بيوتَه وقلوبَه وأذرعتَه لاستقبال نازحينا من الجنوب والضاحية وكل أرجاءِ لبنان صيفَ عام 2006. الشعبُ السوريّ، بكلّ فئاته، لا النظامُ وحدَه، كان أحدَ أبرز الداعمين لمقاومتنا في لبنان. وواجبُ المقاومة الأخلاقيّ، وواجبُ إعلامِها بنحو خاصّ (وتلفزيونِ المنار على نحو أخصّ)، هو عرضُ المطالب الشعبيّة السوريّة المحقّة، ولو إلى جانب عرض موقف النظام أيضاً إنْ كان دعمُها المباشرُ والصريحُ لتلك المطالب يسبِّب للمقاومة إحراجاً تجاه النظام وتجاه إيران. أمّا أن تصبحَ المقاومةُ وإعلامُها في لبنان بوقاً لانقديّاً للسياسات السوريّة الحاليّة، فهو ما سيُضْعف تأييدَ الشعب السوريّ نفسِه لها.
■ ■ ■
ثالثاً، إنّ تحميلَ ما يجري في سوريا للسلفيّين لا يُقْنع إلّا الموالين للنظام ولاءً أعمى. فالتظاهرات حاشدةٌ، بالآلاف وبعشرات الآلاف أحياناً، وشعاراتُها (معظمُها في الأقلّ) شعاراتٌ غيرُ طائفيّة ولا مذهبيّة، بل تركِّز على الحريّة والوحدة الوطنيّة ومكافحة الفساد، خلافاً لما يزعمه المفكّرُ السوريّ فراس السوّاح. أمّا انطلاقُ كثير من تلك التظاهرات من الجوامع، أيّامَ الجمعة، فلا يعني أنّ المتظاهرين سلفيّون، بقدْرِ ما يعني أنّ سدّ مجالات النقاش العامّ، عملاً بقانون الطوارئ السيّئ الصيت، جَعَلَ الجامعَ المجالَ شبهَ الأوحد للتعبير الجماعيّ الاعتراضيّ «المرخَّص» له (قبل خروج المصلّين منه طبعاً). وكلّما ازداد الكبتُ السلطويّ، اتّسع نفوذُ الجامع والطريقة والزاوية. إنّ خيرَ حليف للسلفيّة والأصوليّة، ويا لَلْمفارقة، إنما هو فشلُ السلطة في إرساء دولة لكلّ مواطنيها، أيْ فشلُها في ترسيخ العدالة والديموقراطيّة. تريدون، فعلاً، ألّا تصبحَ حمص أو حماه أو درعا (أو طرابلس) أو ... إمارةً إسلاميّة؟ حُدّوا من الفقر، ومارسوا المساواةَ، واكبحوا الفسادَ، وأكثروا من فرص العمل، وأوقفوا القمعَ والاعتقالَ الاعتباطيّ، وخَلّوا بين الشعبِ وشمسِ الحريّة!
هذا عن السلفيّة في صيغتها السلميّة. أما في صيغتها القتاليّة، فهي أيضاً تتعزّز وتزداد شراسةً كلّما ازداد عنفُ السلطة الحاكمة أينما كانت، في الجزائر أو مصر أو اليمن أو غيرها. لم يكن الحلُّ الأمنيُّ نافعاً مع الأصوليّة الجهاديّة على المدى الطويل؛ فهذه لم تكفِّر السلطةَ والمجتمعَ إلا لأنّ «الجوع كافر، والمرض كافر، والفقر كافر، والذلّ كافر» (زياد الرحباني). ولهذا، فإنّ «الحلّ» الأمنيّ مع السلفيّة القتاليّة، إنْ وُجدتْ أصلاً في سوريا، وبالحجم المعطى لها في الإعلام الرسميّ، لن يُخْمِدَها، بل سيزيدُها استعاراً.
غير أنّ هذا لا يَمْنعنا من السؤال: من أين نَبَتَ السلفيّون في سوريا فجأةً، وبهذه الأعداد، وبهذه الشراسة، على ما لا يكفُّ الإعلامُ الرسميُّ السوريّ عن الترداد؟ لقد صَدَّعَ هذا الإعلامُ رؤوسَنا طوال عقود بأنّ سوريا بَراءٌ من لوثة الطائفيّة والمذهبيّة. فإمّا أنه كان يبالغ في براءة الوطن السوريّ من تلك اللوثة على امتداد تلك العقود وإلى ما قبل اندلاع التمرّد الشعبيّ قبل شهرين، لكي يعزِّزَ الانطباعَ بأنّ النظامَ السوريّ نجح في مقاومة الطائفيّة والمذهبيّة حين فَشِلَ كلُّ الآخرين في المنطقة (مصر، لبنان، العراق،...)؛ وإمّا أنّه يبالغُ اليومَ في قوّةِ هذه اللوثة وانتشارها. وهو في الحالين يُثْبت أنّ «الحلّ» الأمنيّ مع السلفيّة لم يكن ناجعاً.
■ ■ ■
رابعًا، إنّ تحميلَ قناة الجزيرة مسؤوليّةَ «الاضطرابات» في سوريا مهزلة. نعم، على الجزيرة أن تدانَ بشدّة لتغطيتها الهزيلةِ للقمع في البحرين، تواطؤاً منها على ما يبدو مع سياسة قَطَر التي تزداد اقتراباً من المملكة العربيّة السعوديّة. ونعم، على الجزيرة أن تُدانَ لفتحها (هي ودولة قطر) البابَ على مصراعيْه أمام التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ. لكنْ هذا وذاك شيء، ولومُ الجزيرة كأنّها هي التي صنعت الانتفاضةَ (أو «الفتنةَ» السوريّةَ الكبرى) شيءٌ آخر. فلو كانت الجزيرةُ قادرةً على صناعة الأحداث لانتصرت الانتفاضةُ الفلسطينيّة، ولكُسِرَ حصارُ غزّة، ولاجتاحت سياسةُ التطبيع القَطَريّة مع العدوّ مختلفَ البلدان العربيّة. إنّ تحميلَ فضائيّة واحدة (أو دولة صغيرة واحدة) أكثرَ ممّا تَحْتمل استخفافٌ بالمطالب السوريّة الشعبيّة المشروعة التي يتخطّى عمرُها عمرَ الجزيرة (بل يكاد يتخطّى عمرَ إمارة قطر نفسها!). إنها مطالبُ أيّ شعب يتوق إلى كسر احتكار السلطة أو «الحزب القائد» (ما يسمّيه الصديقُ العزيز ياسين الحاج صالح «الأوليغاركيّة المسيطرة»)(1) للقرار السياسيّ ولكلِّ ما في البلاد من ثروات وأجهزةِ إعلام. وبهذا المعنى، فإنّ «الاضطرابات» في سوريا انتفاضةٌ روحيّة، ذاتيّةٌ وجماعيّة، تُعبِّر عن التوْق العميق والمديد بعد 41 عاماً من «العيش» تحت قانون الطوارئ إلى أن يمتلك الفردُ والشعبُ أخيراً القدرةَ على صناعة حاضره بنفسه. وهذا بالطبع، وبالمناسبة، مغاير، قلباً وقالباً، لمنطق الإصلاحات الشكليّة و«الخدمات الشفويّة» التي لا تُسْمن ولا تُغْني من جوع.
■ ■ ■
إنّ سوريا تَطْمحُ فعلاً إلى أن تكون دولةً حرّةً وعادلةً... وأكثرَ من «مُمانِعةٍ». وإنّ سوريا ليست استثناءً في دنيا العرب؛ فالشعبُ العربيّ يدقّ بيدِهِ بابَ الحريّة في كلّ مكان. المهمّ ألّا تتضرّجَ هذه اليدُ بالمزيد من الدماء.
هامش
1 ــ ياسين الحاج صالح، «في بعض أصول الأزمة الوطنيّة السوريّة الراهنة»، موقع الحوار المتمدن، العدد 3346، 24/4/2011.

* رئيس تحرير مجلّة الآداب