اختلفت على الساحة الإعلامية تغطية مسألة التعدي على المشاعات العامة. في الإعلام الحريري، كانت الرنّة المعتادة عن الجماعة «الشيعية» الطامعة بالوطن وأرزاقه، ولو لم يعد يقتضي التحريض تسمية الجماعة بصفتها الطائفية، وأصبح ممكناً الاكتفاء بتعديد الصفات الشيطانية (السلب، التعدّي، الأملاك العامة، عجز الدولة) لكي يربطها الجمهور (الصحافي أولاً) بالفئة الاجتماعية المناسبة، وبالمنطق العنصري الملائم. فبات، بالتالي، احترام الهدنة السياسية محققاً، وكذلك الانسجام مع الذات عقائدياً. أما في إعلام الأغلبية الجديدة، فالأمر يختلف. فهذا الإعلام أخيراً، وسياسيوه من ورائه، يلملم نفسه عقائدياً، وتجهد أقلامه وأبواقه في صبغه بصفة شموخٍ ما، بعد أن ضربته أحداث سوريا، واهتراء مسرحية التأليف الحكومي الأخيرة.هكذا، تذكر تلفزيون المنار سوليدير، وربط تعدّي الشركة العقارية على الأملاك العامة والخاصة بحالات الأوزاعي والجنوب. وأجرت القناة مقابلة طويلة في نشرتها الإخبارية ليوم بدء الأزمة مع مالك «السان جورج»، ليخبر المواطنين عن فصول معركته مع الشركة في المحاكم، وفي التعديات التطبيقية على الأرض. وكأنّ المقصود أن يدحض منطق ربط صفات «الشيطنة» بجمهور الأوزاعي والجنوب حصرياً (دون رفعها عن هؤلاء).
كذلك الأمر في قناة الجديد، رُبطت مسألة المشاعات بسوليدير وبالأملاك البحرية في أحد التقارير الإخبارية، ولو بتعاطٍ أقل منهجية من المنار، وبعفوية الأسلوب المعروفة عند مراسلي القناة. عفوية ليست من دون دلالات، على مستوى المنطق النقدي المعتمد عند الإعلاميين.
كان يمكن المرء أن ينتظر من الحراك الاجتماعي في السنوات الست الماضية، ومن نيات الحريرية الصريحة بالتخلص من حزب الله بكل الأشكال المتاحة، ومن دخول أعضاء جدد إلى المجتمع السياسي، أن تتفكك بعض بنى سلوكيات القيادات «الممانعة» في لبنان. وكان يمكن المرء أن ينتظر أن تذهب السلوكيات تلك، ولو قليلاً، في انتهاج سياسات جديدة في معالجتها للقضايا الاجتماعية، من دون أن تتخلى بالضرورة هذه القيادات عن نيتها بالإحاطة بجماهيرها، وبإبقائها «جماعات».
لكن لا شيء من ذلك حصل. وما تفضحه معالجة إعلام حزب الله وحلفائه لأزمة المشاعات، بالتوازي مع إدانة الحزب للتعدّيات، ووقوفه إلى جانب منطق «الدولة» في معناها البوليسي، هو مدى ضعف حزب الله وحلفائه على الساحة الداخلية، ومكوثهم دون مستوى الكفاءة المطلوبة في وجه ما تمثله الحريرية من تجدد للمنحى الليبرالي المتحكم بالبلاد. لا بل يمكن الجزم بعمالة شبه واعية عند الفريق «الممانع» في لبنان لرأس المال، أي العمالة لمصالح من يدّعي التصدي لهم.
كان الأجدى بقناة المنار في نشرتها الإخبارية تلك، أن تعطي لواحدٍ أو أكثر من المتظاهرين في الجنوب والأوزاعي الوقت الذي أعطي لمالك «السان جورج» للكلام، بدل التقاط تصاريحهم في لحظات صراخ عابرة وغير كافية لتفسير محنتهم بتفاصيلها. محنة تتخطى تفاصيلها التقصير التنموي. لكن الأحزاب الطائفية الشيعية قررت التخلي عن «أهاليها» في هذا الاستحقاق، مع أنّها ادّعت الوقوف على سكة نفوذٍ متينة عند إزاحتها سعد الحريري عن رئاسة الحكومة، ووعدت بإلزام أي حكومة مقبلة بأن «تتحمل مسؤوليتها لمعالجة قضايا الناس»، على ما قال السيد نصر الله. ادعت المعارضة الارتياح، باكتسابها أغلبيةً في البرلمان، وضمانها أغلبية الثلثين في الحكومة المقبلة، لكن لا شيء من سلوكياتها يدل على ذلك. في تغطيتها لمسألة المشاعات، تبدو الأغلبية الجديدة حرجة من أمرها، وطبعاً دون المستوى المطلوب لحلّ مسألةٍ تفوق بكثير ما لفداحة الصدام بين الأهالي والقوى الأمنية من معانٍ.
فبمنطق تسجيل النقاط الآني، يربط إعلام حزب الله وأصدقائه المسألة باستيلاء سوليدير على المساحات العامة، من نقاطٍ بحرية وأرصفة، أي بتعدّي الشركة على القانون، متناسين أنّ سوليدير بمجملها، منذ تأسيسها، جريمة بحق الدستور والاقتصاد الوطني والأخلاق... شرّعها القانون. ولا تمثّل تعديات سوليدير على المساحات المجاورة إلا جزءاً بسيطاً من منظومة النهب المرتبطة بالشركة وبعلاقتها مع الدولة ومع أقطاب الحكم بالتحديد. والصدام الإعلامي الآني، على طريقة تسجيل النقاط وقلب لعبة التهم والشبهات على مطلقيها، هو من أشكال «مضيعة الوقت» المتبعة عند الطبقة السياسية، لتسريب منطق المحاسبة من خطاب الاستحقاقات السياسية، التي تربط الأفرقاء السياسيين بمسؤليات إدارية أمام جمهورهم.
بالطبع، سوليدير مرتبطة بمسألة الأوزاعي ارتباطاً وثيقاً، لكن ليس على النحو «المقارن» الذي تصوّره المنار (على طريقة «نحن فاسدون وأنتم فاسدون»). إنّ النهج الاقتصادي المسؤول عن تنظيم مديني مركزي وفاضح النخبوية، المتجسد بسوليدير وغيرها من المساحات ومن الإجراءات الإدارية المدينية، هو المسؤول عن وضع المواطنين في ضيقة الموارد والحظوظ، وأمام خيار الاستيلاء على المشاعات العامة. تلك هي الحقيقة التي سُرِّبت في تغطية المنار لأزمة المشاعات. وهو، إذ يذكر سوليدير لأنّ وجودها المادي فاضح وأكبر من أن يخفى، لا يربط سوليدير بموضوع الاقتصاد العقاري مثلاً، الذي أدّى منطقه إلى غلاء خيالي لأسعار العقارات، سدّ كل آفاق التملك عند الفقراء، وعند صغار المقاولين، وأوصلهم إلى استراتيجية السيطرة على الأملاك العامة. مع التنبيه إلى أنّ الاقتصاد العقاري هو من الأشكال الاقتصادية القليلة «المدعومة من الدولة»، بصيغةٍ تعزز الاحتكار طبعاً.
لاحقاً، سيخصص المنار حلقة خاصة مع عماد مرمل لموضوع سوليدير، ولا شيء لأزمة المشاعات. يؤكد ذلك تماشي موضوع سوليدير بمنطق تسجيل نقاط مسرحي، يهدئ من غضب فئة من جمهور حزب الله في ضوء إدانة الحزب ومعه حركة أمل للمواطنين في الأوزاعي وصور. بل أسوأ من ذلك، كان ممكناً لهذه التغطية لجريمة سوليدير أن تكون ذات فائدة (وهو موضوع عانى تعتيماً إعلامياً منذ بروزه) في صبغ الأغلبية الجديدة بشرعية تتخطى طائفيتها، تمكنها من المباشرة بخطوات إصلاحٍ في إدارة الدولة، ومن مواجهة بؤر الحريرية في الإدارات. لكن طريقة عرض المنار لمسألة سوليدير، من منطلق «تسليط الضوء» على الشيء (وخطاب «فشة الخلق»)، وكأنّ حزب الله وحلفاءه بالحكم في موقع العجز، وكأنّهم خارج الحكم، تفيد بأنّ مسألة سوليدير ستنتهي مثل مسألة العمالة لإسرائيل: تسخيف للعمالة في اللعبة السياسية من طريق عرضها في الخطاب السياسي ودون التحرك لصدّها في الممارسات المؤسساتية. وبالتالي، قد يذهب ذلك في تنشئة الناس على التعايش مع الجريمة، وهو الأمر الحاصل مع بعض جمهور الحريرية والأغلبية الجديدة بالنسبة إلى العمالة وبالنسبة إلى سوليدير. وهنا نصل إلى ما لا تريد المنار وإعلام حلفائها قوله، وهو مسؤولية نواب الحزب وسياسييه وحلفائه الانتخابيين، (وهم لم يستحقوا موقعهم من دون دعمه) في السكوت والتسهيل والتواطؤ والتعاون مع الحريرية، في سياساتها المؤسساتية الهدامة والمجرمة، التي أدت بالمواطنين إلى طلب أبسط رزقهم بالمسكن عبر مخالفة القانون. ما لا يسأله إعلام الأحزاب في لبنان، لأنّ الكلّ عميل لرأس المال، باختلاف درجات العمالة، هو الفائدة من كتلٍ نيابية عفنة، سعت إلى إبعاد أي منافسٍ عن البرلمان، ولو أمضى قسطه 17 عاماً في سجون العدو، وادّعت الأمجاد في تمسكها بمنصبٍ إداري طائفي في 7 أيار، لتصل «بجمهورها» المستحب، وبجمهور الوطن عامةً، إلى أزمة «عقدة الجنرالين» ودراما «استسلام الخليلين» واقتراح الحذق العودة إلى «س ــ س»، لتعود المسرحية إلى بدايتها.

* باحث لبناني