أينما ولّى المرء وجهه في سوريا الآن، فسيسمع أهزوجة بلدية. طبعاً، كلّها أهازيج مدموغة بدمغة واحدة: الوطنية الشوفينية في أسوأ تجلياتها. لا مكان في هذه التمائم الوطنية الجوّالة للغرباء والمتآمرين، فالساحة اليوم يجب ألّا يملأها إلا العرق السوري النّقي والصافي. لم تعد سوريا اليوم في عرف النظام ومعارضته تتسع لغير السوريين.
الفلسطينيون الذين تقاسموا وإيّانا مرارة الأيام وحلاوتها طوال سنين، باتوا جزءاًَ من المؤامرة. كيف لا و«حماس» حتى اليوم لم تدل بدلوها في ما يحدث، ولم تصطفّ علانية إلى جانب النظام الذي رعاها طويلاً، وأمّن لها الحماية والدعم السياسي. قيل هذا بوضوح على أكثر من منبر دعائي موال، وترافق ذلك مع تحريض واضح على الفلسطينيين المقيمين في سوريا بحجّة أنّهم لم يضبطوا كفاية مخيماتهم التي انطلقت منها بعض الاحتجاجات المعارضة للنظام (مخيم الرّمل في اللاذقية مثلاً).
كأنّنا أمام سيناريو شبيه بذاك الذي عاشه لبنان قبل مدّة، أثناء محنة نهر البارد. حينها، أخرج النظام الطبقي ـــــ الطوائفي حمولته العنصرية كاملة، في وجه فلسطينيي نهر البارد. لم تشفع لهؤلاء مدنيتهم وسلميتهم، ولا نفورهم من حركة «فتح الإسلام». هم دائماً الحلقة الأضعف في أي نزاع يندلع في هذه المنطقة. والنزاع اليوم انتقل إلى قلب سوريا، لكنّه نزاع من نوع آخر، فلا وجود هنا لتنظيم مسلح ذي أجندة أيديولوجية يعتدي على الجيش الوطني، كما في حالة نهر البارد، رغم ظهور بعض «الحالات المسلحة» المحدودة، هنا وهناك (مما لا يمكن عدّها كياناً مسلحاً، كما ترطن بذلك دعاية النظام). ويعني ذلك أنّ مقاربة هذا النسق غير المسلّح لا يجوز أن تكون أمنية، ولا حتى عسكرية، لكن ماذا تفعل مع من يريد أن يستدعي تجربة نهر البارد بالقوّة إلى هنا، ويقسّمنا تبعاً لموقفنا منها، إلى وطنيين وخونة ومشتبه فيهم. طبعاً، لا وجود ملموساً للعامل الفلسطيني في دعاية النظام، نظراً إلى تهافت الحجج التي قد تحاول إلباس الحراك الشعبي السوري طابعاً إقليمياً، لكن ذلك لم يمنع إقحام بعض الفلسطينيين في المشهد قسرياً، بوصفهم «مشتبهاً فيهم». تخيّلوا. لقد بات كثير من هؤلاء اليوم «مشتبهاً فيهم» لمجرّد أنّهم كانوا في مكان خرجت منه تظاهرة معارضة للنظام، تماماً كما حدث مع الشاب المصري الذي اعتُقل لأيام، فقط لأنّه كان موجوداً قرب المسجد الأموي، وهو يحمل كاميرا أثناء خروج تظاهرة تطالب بالحرية، في الأيام الأولى للانتفاضة السورية (ثم أفرج عنه لاحقاً بعد تدخّل وزارة الخارجية المصرية!). يا للمهزلة. أين الرّطانة البعثية التي نصّبت هذا البلد قلباً نابضاً للعروبة (وهو كذلك فعلاً في المخيال الشعبي السوري والعربي)؟ هل هذه هي دمشق التي حضنت الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين، وداوت جراحهم، عندما عزّ الدواء؟ هل من يفسر لنا كلّ هذه الريبة الطارئة على وعينا، تجاه أشقائنا العرب؟ المشكلة أنّ هذه اللّهجة المستجدة لم تتصاعد في مواجهة الفلسطينيين وحدهم، إذ نال المصريون واللبنانيون الذين تصادف وجودهم في سوريا أثناء الاحتجاجات أيضاً حصّتهم من نقمة «الصحوة» السورية الشوفينية. وكذا الأمر مع فقراء دمشق والنازحين إليها من الجولان المحتل. فهؤلاء انضموا إلى القافلة عندما خرجوا في تظاهرات دامية ومتضامنة مع درعا، في منطقة الحجر الأسود . هم ليسوا «عرباً غرباء» حتى يوضعوا من جانب الدعاية الرسمية الفظّة في طابور من «لا يريد الخير لسوريا»، لكن لعنة النزوح لديهم تلاقت مع شظف العيش الذي يعانونه، لتجعل منهم ضحايا مرّتين: مرّة برصاص الأمن السوري الذي يردي المدنيين المحتجين دون هوادة، ومرّة أخرى لأنّهم وقعوا فريسة سهلة «لدعاية المعارضة» التي بات وقودها الفعلي اليوم دم الفقراء. طبعاً، سأترك الاشتباك مع النّسق التبسيطي الذي تنتهجه المعارضة السورية في تحشيدها للناس لمناسبة أخرى، وسأكتفي هنا بمعاينة ردّها على شوفينية النظام بشوفينية مماثلة.
هنالك دائماً من يشكّك في فكرة توزيع المسؤولية على طرفي الصراع في سوريا اليوم، لأنّ ذلك سيتيح للقاتل الجلاد أن يظهر بمظهر متساوق مع ضحيته. طبعاً هذا الأمر غير صحيح بالمرّة. فمن يَقتل لا يمكن أن يوضع في الخانة ذاتها مع من يُقتل. هذه قاعدة أخلاقية لا يمكن التشكيك فيها، لكن ما يحصل اليوم أنّنا وصلنا في هذا البلد إلى حالة استعصاء لا يمكن الخروج منها إلا بمزيد من القتل وسفك الدماء! وعادةً ما تلجأ الضحية، في حالات مماثلة، إلى استبطان دعاية القاتل جزئياً، والرّد عليه بمثلها. والأرجح أنّ أسلوباً كهذا سيجد من يصفّق له بين عموم الناس، بوصفه الخيار الوحيد الممكن في مواجهة بطش النظام وآلة قتله المتنقّلة. إلى الآن، الأمر مفهوم وغير متناقض مع المبدأ الأخلاقي، لكن عندما يصل الأمر مثلاً إلى قضية خلافية وغير مجمَع عليها، مثل قضية «التلاعب بعلم البلد»، لا يعود ممكناً القول بمشروعية هذه المقاربة. «التلاعب بألوان العلم» هنا مثله مثل الدعاية الشوفينية التي يملأ بها النظام فضاءه الأجوف. كلاهما ينتمي إلى النّسق الدعائي ذاته: التحشيد ثم التحشيد ثم التحشيد. وهذه قد تكون مناسبة لمساءلة التحشيديين من الجانبين: من فوّض المعارضة السورية بأن تنوب عن شعبها في العودة إلى «علم الاستقلال»؟ هل استفتت السوريين في ذلك، وقررت أن تخرج استفتاءهم ذاك إلى العلن؟ طبعاً هذا لم يحصل. لماذا إذاً هذا الإصرار على استنساخ التجربة الليبية الهزيلة والكولونيالية، في اعتماد علم الاستقلال؟هل هنالك نية لدفن المرحلتين البعثية والوحدوية مع مصر، وإزالتهما من الذاكرة الجمعية للسوريين (اقترح إخراج عبد الناصر من هذه المعمعة)؟ هل هذا ممكن فعلاً؟ وما علاقته بمحاولة «سَوْرَنَة الانتفاضة» وتجريدها من أي بعد عربي، رغم مناشدة المعارضة السورية العرب (غير النفطيين طبعاً) كي يتدخلوا (أيّ تناقض هذا)؟ أليس هذا هو الأسلوب ذاته الذي يتبعه النظام اليوم؟ يسحب من التداول رطانة العروبة الحاضنة، ويطرح بدلاً منها أفكاراً تجزيئية، تعزل السوريين عن محيطهم العربي (غير النفطي طبعاً، وتجعل منهم كائنات افتراضية بلا سياق عام، وبلا ملامح تقريباً، إلا ذاك الملمح الذي يراد لكل منا أن يلبسه ولو مرغماً: «السوري». والسوري هذا كائن مبهم إلى حدّ بعيد. كائن صنعته أيدي النظام والمعارضة. مرة جديدة يتواطآن علينا، ويريدان لنا أن نكون شوفينيين مثلهما. وللشوفينية هنا امتيازاتها وتراتبيتها. فشوفينيو النظام لا يريدون لأحد أن ينازعهم على هويتهم السورية بعد اليوم، وخصوصاً أنّها ازدادت تجذراً بعد هذا الامتحان الذي فرز الناس فرزاً واضحاً، وامتحن معدنهم السوري الأصيل. سوري، سوري، سوري. لم نعد نسمع هذه الأيام إلا هذه الكلمة. لقد جوّفوها وعزلوها عن سياقها النهضوي الذي اختطه العرب والسوريون يداً بيد، ثم حوّلوها إلى طوطم. حتى المعارضة باتت ترطن بهذا الطوطم، وتتحدث عما تسميه «الاستثناء الثوري السوري». نحن لسنا مصر وتونس، ولا حتى ليبيا واليمن والبحرين. نحن شيء آخر تماماً، يقول النظام، وتردد المعارضة من بعده، لكن من موقعها هي. نعم نحن لسنا كذلك، يقول أحد الناقمين على شوفينية النظام والمعارضة معاً، لكن سياق هذا القول هو ما يحدد طبيعة «الاستثناء» الذي محضناه ثقتنا، معارضة وموالاة. والسياق هنا هو سياق تزاوج العامل الطبقي المحفّز على الثورة، بالعامل الطائفي المعوّق لها. وخارج هذا التزاوج يمكن مناقشة أيّ شيء وكلّ شيء. حتى المعطى الشوفيني الذي يتبجّح به و«باستثنائيته» الطرفان، يمكن مناقشته إذا ما أجمعنا على السياق أعلاه. هل من يسمع؟
* كاتب سوري