على وقع الثورات العربية، وعلى هدير الهتاف الأكثر شهرةً في الوطن العربي، «الشعب يريد إسقاط النظام»، انطلقت الدعوة في شهر شباط الماضي، من مجموعات شبابية فلسطينية لإنهاء الانقسام الفلسطيني، بين جناحي الانقسام الرئيسيين، حركة فتح وحركة حماس، وكان العنوان: «الشعب يريد إنهاء الانقسام».كانت تلك المجموعات الفلسطينية الشبابية مدفوعة بأمرين أساسيين عندما طرحت هذا الشعار. الأمر الأول متعلق بالطريق المسدود الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، وما ألقاه ذلك على الفلسطينيين من إحباط. والأمر الآخر هو الثورات العربية التي فتحت الأفق لنهوض عربي جديد، بقيادة شرائح شبابية، تحوّلت، بحيوية كبيرة، إلى أهم فاعل اجتماعي ـــــ سياسي في الوطن
العربي.
يعيش اليوم نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية التي من المفترض أن تكون أساس الدولة الفلسطينية الموعودة، لكن أراضيها تتآكل لمصلحة الاستيطان. ويشعر الفلسطينيون، على نحو متزايد، بأنّ صراعهم مع الدولة الصهيونية هو صراع وجود. فمن الواضح بالنسبة إليهم اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، أنّ الدولة الفلسطينية على حدود 1967 كانت أحد أكبر الأوهام التي انساقت وراءها القيادة الفلسطينية، مدفوعةً بمصالحها أولاً، وبتحليلات ورؤى خاطئة ثانياً.
كذلك يتابع الفلسطينيون العجز السياسي المزمن الذي تعيشه القيادة الفلسطينية المتمثلة في منظمة التحرير في الضفة الغربية، وعجز بديلها الافتراضي، أي حركة حماس، التي سيطرت على قطاع غزة في 2007، لتؤدّي ممارسات السلطة الفلسطينية نفسها في الضفة، من فساد في السلطة ومحاباة لرجالاتها، ومنع للمقاومة، واعتقالات لكلّ المخالفين. هكذا، أصبح الشعب الفلسطيني أمام سلطتين دكتاتوريتين، تهتمان بمصالحهما السلطوية، في ظلّ غياب بارز لرؤية سياسية جديدة تؤدي إلى الخروج من المأزق الفلسطيني والطريق المسدود الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية.
من هنا، كان شعار «إنهاء الانقسام» مثار استهجان لدى البعض، وخصوصاً بعد موجة الثورات العربية التي طرحت «إسقاط النظام»، أي إسقاط الظلم والفساد والنهب والدكتاتورية، فإذا ببعض الفلسطينيين يريدون توحيد السلطتين الدكتاتوريتين، عوضاً عن التخلص منهما!
سوف يصر البعض على خصوصية المسألة الفلسطينية، سواء من ناحية «الشرعية» النسبية للقادة الفلسطينيين الذين جاؤوا بالانتخاب، أو من ناحية أولوية إنهاء الانقسام، على اعتبار أنّنا أمام حركة تحرر وطني لا دولة ناجزة، وهو ما يعطي شعار توحيد هذه الحركة أهمية خاصة.
ومع تحفّظنا على ديموقراطية السلطتين، إذ تمارسان مختلف أشكال القمع، وتتشابهان في ذلك مع مختلف الدول العربية ذات الديموقراطية الشكلية، لكن لأنّنا حركة تحرر وطني تريد إنهاء الاحتلال، فإنّ ذلك يستدعي بحثاً عميقاً في طبيعة هذا الاحتلال. وبالتالي، يجب طرح شعارات تعبّر عن رؤية جديدة للحل الفلسطيني، تبتعد عن الشكلية والتقليد الأعمى، وتقترب من جوهر المسألة. فليس إنهاء الانقسام هو ما يؤسس لخط فلسطيني جديد وضروري، بل إنهاء السلطة التي مثّلت مادة هذا الانقسام، وبالأساس إنهاء الأرضية السياسية التي بنيت عليها تلك السلطة، إذ اعتمدت الرؤية السياسية «الواقعية» لمنظمة التحرير، عندما جرت الاستعاضة عن التحرير بالتسوية، والدخول في رهان فلسطيني مدعوم دولياً على تسوية مع الدولة الصهيونية. واليوم، بات من الواضح أنّ تلك التسوية المسمّاة «حلّ الدولتين»، إنما كانت مجرد وهم، أتاحت للدولة الصهيونية استكمال مخططاتها بالسيطرة على الأرض وطرد الفلسطينيين. وبالتالي، خسرت القيادة الفلسطينية رهانها الوطني، وما ربحت إلا الفساد وعلاقات اقتصادية تجارية تشاركية مع فئات من الدولة الصهيونية.
وإذا كان الداعون من الشباب إلى نشاط إنهاء الانقسام، وقسم من الشعب الفلسطيني، يعتقد أنّ الانقسام بين فتح وحماس كان سبباً في الفساد المستشري، والبطالة المخيفة، وتراجع أعمال المقاومة ضد الاحتلال، وغياب رؤية سياسية جديدة واضحة، فسيكتشف الجميع بعدما عُقدت المصالحة وانتهى الانقسام، أنّه لا تغيير جوهرياً قد طرأ على حياة الفلسطينيين ومسار قضيتهم، في عهد الوحدة المنتظرة (باستثناء بعض التسهيلات الإنسانية البسيطة، الخاصة بسكان قطاع غزة، إذا رُفع الحصار عنه). وسيكتشف الجميع أيضاً أنّ مكمن الخلل في مكان آخر، وعلى الشباب الفلسطيني أن يرتقي بمبادراته ونشاطه إلى مستوى التحدّي المطروح على الشعب الفلسطيني: تحدي إنهاء الاحتلال من جهة، وتحدي السلطة الفلسطينية ودورها، من جهة أخرى.
فليس المهم هو تغيير شكل السلطة عبر توحيدها لتؤدي نفس الدور، المهم تغيير الدور الذي تؤدّيه السلطة تحت الاحتلال. وهنا نطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن أن تؤدّي السلطة الفلسطينية دوراً يختلف عن دورها الحالي الذي يصب على نحو مباشر أو غير مباشر في خدمة الاحتلال؟ وهي السلطة الناشئة على أرضية اتفاق أوسلو، وكلّ القيود التي فرضها ذلك الاتفاق على الشعب الفلسطيني وقيادته، وهي السلطة الممولة ممّا يسمى «المجتمع الدولي» الداعم للاحتلال، ومن قبل الاحتلال نفسه (يبلغ حجم الضرائب التي تقوم إسرائيل بجبايتها من الفلسطينيين لمصلحة السلطة الفلسطينية 1.5 مليار دولار سنوياً، وهو ما يعادل حوالى 65% من ميزانية رواتب ونفقات موظفي السلطة ومشاريعها في الضفة الغربية). هل يمكن سلطة بتلك المواصفات أن تؤدّي دوراً مناهضاً للاحتلال، وذلك بمعزل عن كونها سلطة موحّدة أو غير موحدة، سلطة حماس أو سلطة فتح؟ نحن هنا نتحدث عن بنية السلطة، من حيث هي بنية نابذة للمقاومة، ومتكيّفة مع المشروع الإمبريالي الأميركي في الوطن العربي، وكانت جزءاً من مجموعة أسباب أوصلت الشعب الفلسطيني إلى الوضع البائس الذي يقبع فيه اليوم.
اليوم، تنتهي قصة الانقسام الفلسطيني على وقع الثورات العربية وصعود نجم الشباب العربي ودوره الحاسم في تلك الثورات، لكن ربما سيكتشف الشباب الفلسطيني، بمرارة، أنّ حراكهم لم يكن له الأثر الحاسم (كما هي الحال مع حراك الشباب في بقية الدول العربية) في الوصول إلى الهدف المطلوب، وإنما خضع إنهاء الانقسام للتحولات في الدول المجاورة، وخصوصاً مصر، وتكتيكات فتح وحماس، أكثر منه للضغوط الشعبية الشبابية الفلسطينية.
لكن في جميع الأحوال، إذا كانت ثورة الشباب الفلسطيني بالقياس مع ثورة الشباب التونسي والمصري والعربي هي «إسقاط الانقسام»، فهي قد نجحت بأقل الجهود والتكاليف. نجح الشباب إذاً في «توحيد النظام»، وربما عليهم الآن العمل على إسقاطه!
* كاتب عربي