أخيراً، تمكّن المالكي وطاقمه السياسي من اجتراح المأثرة واختراع بيضة الديك السياسية. إنّها المعجزة التي يتصوّر أنّها ستضمن له تفادي الضغوط الأميركية والكردية، وحتى من بعض حلفائه في «التحالف الوطني»، ومن بعض خصومه في «العراقية»، لتمديد بقاء قوات الاحتلال الأميركية، والإصرار على تنفيذ جلائها في الموعد المقرر نهاية السنة الجارية. سيتفادى تلك الضغوط، ولن يخسر شيئاً من تأييد الكتلة الانتخابية المؤيدة لانسحاب الاحتلال في الوقت نفسه. هكذا يتصور الأمر! أصرَّ على عدم تقديم طلب إلى المحتلين لتمديد بقاء جزء مهم من قواتهم، لكنّه في المقابل وافق على بقائها بصيغة معينة، وتفادى غضبهم الذي كان سيؤدي إلى ضرب «العملية السياسية» الضامنة لاستمرار حكم التحالف الطائفي، القائم ضمن صيغة «المحاصصة».تقول آخر الأنباء الواردة من بغداد إنَّ المحتلين فشلوا في قطف طلب رسمي حكومي من المالكي، لكنّهم وافقوا، أو في طريقهم إلى الموافقة، على خطة إبقاء ستة عشر ألف جندي من تلك القوات، في السفارة الأميركية الضخمة ببغداد. تعدّ تلك السفارة أكبر سفارة أميركية، أو غير أميركية، في العالم، بل إنّ أحد كاتبي التعليقات في «نيويورك تايمز» قال إنّها أضخم وأفخم من وزارة الخارجية الأميركية ذاتها.
أما إذا بدا هذا الخيار صعباً أو مرفوضاً من جانب بعض الأطراف، فإنّ هناك خطة أميركية لإبقاء هذا العدد من العسكريين الأميركيين أو حتى نصفه، على الحدود الكويتية ـــــ العراقية. هذا ما سربته قيادة التيار الصدري، أحد أشد خصوم خيار تمديد بقاء قوات الاحتلال، بل يكاد يكون الطرف الوحيد المتماسك والصريح في رفضه. يمكن لنا أنْ نتصور أنَّ ضخامة المهمة الملقاة على عاتق إدارة أوباما لتحويل احتلال العراق من احتلال مباشر إلى غير مباشر قد تجبرها على دمج الخطتين السالفتي الذكر بعضهما ببعض، وإبقاء 16 ألف جندي في سفارتها ببغداد، و10 آلاف آخرين على الحدود الكويتية، وقد تصل المساومات بهذا العدد إلى نصفه أو ربعه.
هذا الأمر، إنْ حدث، لن يغيّر الكثير من شعارات وحجج ومطالب الأطراف المناهضة للاحتلال. الوجود العسكري الضخم، سواء كان في السفارة أو على الحدود الدولية لإمارة الكويت، أو في كلتيهما، سيكون وجوداً فعلياً لاحتلال مباشر، لا يمكن نكرانه. وبالتالي، لن يكون ذلك الاحتلال كافياً لتعويم مزاعم استعادة السيادة والاستقلال الكاملين، أو لسحب البساط من تحت أقدام الداعين إلى رفع السلاح بوجه الاحتلال، كما ينتظر بعض أقطاب العملية السياسية الأميركية، وفي مقدمتهم المالكي نفسه. هذا يعني أنّنا سنشهد جلاءً رمزياً لقوات الاحتلال من الشوارع والقواعد البعيدة، ونقلاً لها إلى قلعة حصينة في قلب العاصمة بغداد تدعى السفارة الأميركية.
إنّ دعوة البعض ـــــ زميلنا الكاتب العراقي صائب خليل مثلاً ـــــ إلى دعم المالكي في موقفه الرافض لتمديد بقاء الاحتلال، بمقدار وضوح المالكي في هذا الرفض، دعوة يمكن تفهّمها، إذا تصورنا حجم الضغوط الهائلة المسلّطة عليه لجره إلى تمديد الاتفاقية الأمنية مع الاحتلال التي يسمونها حكومياً «اتفاقية انسحاب القوات الأجنبية»، لكن إهمال خطورة بقاء الآلاف من قوات الاحتلال على الحدود، أو في قلب بغداد، أو غض الطرف عن تلك الخطورة، لن يجعل لهذا الشعار ـــــ دعم المالكي بمقدار وضوح رفضه ـــــ أيّة قيمة ذرائعية أو مبدئية وطنية، وسيكون بمثابة ترويج أو تمرير لمطلب بقاء قوات الاحتلال بالصيغة الاحتيالية الجديدة.
إنّ مواقف أطراف التحالف الطائفي العرقي الحاكم في العراق، من قضية تمديد بقاء قوات الاحتلال، تكشف حقيقة تلك الأطراف التكوينية والأيديولوجية، وحقيقة برامجها السياسية والمجتمعية، اللاوطنية والرجعية، كما أنّنا نضع اليد على دلالة مهمة من دلالات مطالبة التحالف الكردستاني باعتماد التصويت الإلكتروني في مجلس النواب، بحجة ضرورة إخراج النواب من هيمنة رؤساء كتلهم، وتركهم يصوتون بما «تمليه عليهم ضمائرهم». لن يحتاج المرء إلى موهبة خاصة ليعرف السبب الحقيقي لهذا المطلب. فالنواب، أو جُلّهُم، سيصوتون بما «تمليه عليهم» مصالحهم الذاتية، ومرجعياتهم الطائفية السياسية، وستكون أصواتهم، إن جرى التصويت إلكترونياً وسراً، لمصلحة التمديد لبقاء قوات الاحتلال. أما التصويت العلني بالأيدي، فسيكون فضيحة لهم إنْ هم صوّتوا بهذا الاتجاه. أما التمايزات الحادة التي بلغت التهديد بالانشقاق أحياناً في كتلة «علاوي ـــــ النجيفي ـــــ المطلك، أو في تحالف المالكي ـــــ الصدر ـــــ الحكيم، فهي أمور قابلة للضبط والسيطرة، ويمكن بالتالي لجمها وإيقافها عند حدود معينة وغير مؤذية للعملية السياسية. فتلك الأطراف تتفق على « قدسية» و«شرعية» تلك العملية السياسية، لأنّها تستمد «شرعية» وجودها في الحكم منها تحديداً.
قد يبدو من الملتبس وغير القابل للتفسير تركيز خصوم المالكي، سواء كانوا داخل العملية السياسية أو خارجها، نقدهم الشديد عليه شخصياً، أو عليه كرئيس للحكومة، وإهمالهم المقصود لواقع أنّ هذه الحكومة هي حكومة تحالف طائفي عرقي، يشارك فيها ممثلو أحزاب الشيعة والأكراد والعرب السنّة، لكن هذا الالتباس سيزول من هذا المنطق الناقد للمالكي، إذا فهمنا أنّ الدافع إليه ليس بالضرورة نابعاً من الوطنية السياسية، ولا من مبادئ المواطنة الحديثة الرافضة للطائفية السياسية، بل قد يكون قادماً من منطق طائفي مضاد، يريد استبدال هيمنة طائفية معينة على مستوى قيادة الحكومة، بهيمنة طائفية من نوع آخر.
لكن ماذا بخصوص الاستعداد الحكومي العراقي لاستيعاب الحالة الأمنية لما بعد الانسحاب، وما سيتلوه من فراغ أمني؟ هل أعدّت الحكومة العدّة لذلك؟ هناك تقديرات سربها نائب شيعي، لم يكشف عن اسمه، لوسائل الإعلام العراقية، قال فيها إنَّ إمكانات ومقدرة حكومة المالكي على استيعاب ذلك الفراغ لا تتجاوز الخمسة في المئة. وهذا تقديرٌ مُغْرِضٌ دون ريب، يقدمه أحد أصدقاء الاحتلال الراغبين في بقائه على أرض العراق إلى الأبد. لكنّنا، من جهة أخرى، لا يمكن أنْ ننكر الغموض الذي يلف الصورة الحقيقية للحالة الأمنية. فالحكومة والمقربون من المالكي خصوصاً، يكررون، لكن باقتضاب ودون مزيد من التفاصيل والأدلة، اللازمة ذاتها التي تقول: «قواتنا قادرة على استيعاب الحالة الأمنية بعد انسحاب القوات المحتلة». ولا شيء آخر عدا ذلك!
في المقابل، يتساءل بعض المراقبين، هل يمكن اعتبار تهديدات دولة الاحتلال باستمرار مفاعيل قرارات وعقوبات الفصل السابع ضد العراق غير ذات قيمة؟ وماذا أعدّ العراق وحكومته الهشة، المتصارعة المكوّنات، للوقوف بوجه هذا التهديد الجدي؟ وإذا افترضنا أنّ هذا الخيار لن تكون له الأولوية في الوقت الحاضر، فهل يجوز لنا أو لغيرنا أن يركن إلى الاطمئنان المجاني، الذي لا مبرر له، فيما دولة الاحتلال لن تخسر الكثير ـــــ سوى التكاليف المادية الزهيدة ربما ـــــ إنْ هي فكرت في الانتقام من العراق والعراقيين، عبر زجهم في حرب انتحار ذاتي على النمط الصومالي، أو حتى دفعهم إلى التشرذم والتشظي إلى دويلات طائفية متذابحة.
أما عن الاستعداد السياسي والاجتماعي والنفسي لاستيعاب مرحلة الجلاء وانسحاب القوات المحتلة، فالأمر أكثر قتامةً وسلبية. إنََّ قوى الحكم القائم تعدّ حكمها الطائفي غاية الغايات والنموذج الأمثل لحكم العراق، وثمة أطراف منها تريد إصلاحات جزئية تجمل بعض مواد الدستور وخطوط النظام العامة، مع إبقاء قوانين ومبادئ المحاصصة الطائفية. إنَّ الساحة السياسية العراقية مُشَرَّعَة على أكثر الاحتمالات تشاؤماً واضطراباً، ما لم يجرِ الانتقال من العملية السياسية الأميركية إلى «عملية سياسية وطنية»، تنهي الى الأبد مرحلة الاحتلال والدكتاتورية البعثية التي سبقته والطائفية السياسية التي أعقبته. إنَّ الخطوات الأولى لضمان مستقبل آمن للعراق وشعبه، التي سيساعد الزخم المتوافر من جلاء قوات الاحتلال الفعلي على توفيرها، لا يمكن أن تجري دون أن يكون هذا الجلاء تاماً وكاملاً وشاملاً، كما أنَّ بقاء جندي أميركي واحد على أرض العراق، سيفرغ ذلك الانسحاب من جوهره. وحين سيجري الجلاء التام والشامل، يمكننا أن نتصور مشروعاً وطنياً حقيقياً للمصالحة، يقوم على إعادة كتابة الدستور باتجاه إلغاء المحاصصة الطائفية والعرقية.
* كاتب عراقي