يَشهد لبنان منذ ثلاثة شهور حراكاً شعبياً متفاوت الحجم والتأثير من أجل «إسقاط النظام الطائفيّ... ورموزه». هنا أطرح، في القسم الأوّل، إشكاليّات نظريّة تسود حراكَنا حتى اللحظة، ويجسّدها شعاره المركزي، ثم أنتقل في القسم الثاني إلى بعض العوائق الذاتيّة... مع التنبيه إلى أنّني أعبّر ههنا عن رأيي الشخصيّ، لا غير.
■ ■ ■

كلّ كلمة من الشعار الذي اتّخذناه لحراكنا تحتاج إلى شيء من التفكيك. وأهميّة فحص الشعارات، ولا سيّما المركزيّة منها، كبيرةٌ لا لإدراك مدى جاذبيّتها الشعبيّة فحسب، بل لامتحان درجة استيعابنا للمشكلة اللبنانيّة أيضاً.
فلنقرّ، بدايةً، بأنّنا تسلّمنا، على طبق ظننّاه من ذهب، شعاراً تونسياً ـــــ مصرياً أَثبتَ نجاعته في القطرَيْن المنتفضيْن، ألا وهو: «الشعب يريد إسقاط النظام». إنّه شعارٌ فرض نفسَه على كلّ تحرّك شعبيّ عربيّ منذ انتصار انتفاضة تونس؛ لاحظوا مثلاً أنّ التظاهرات العربيّة التي لا تريد إسقاطَ الأنظمة كيّفتْ نفسَها، هي الأخرى، مع هذا الشعار، فبتنا أمام تنويعات من قبيل: «الشعب يريد إصلاحَ النظام» أو «الشعب يريد بقاءَ الملك» (كما في بعض تظاهرات الأردن والمغرب). من هذا المنطلق، كان الشعار التونسيّ ـــــ المصريّ أمراً يصْعب تجاهله لدى منظّمي الحراك اللبنانيين الأوائل، فعمدوا إلى لبننتِه بإضافة نعت «الطائفيّ» إلى النظام. ثم أضاف المنظّمون، بعد جدال لم تخفّ حدّته إلى اللحظة، حرفَ عطف واسماً معطوفاً: «...ورموزِه». شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» (بالإضافتين أو بدونهما) شعارٌ جذّاب، إذنْ، وهو بالتأكيد أكثر تحريضاً ونضاليّة من شعارات أدقّ وأشدّ عمليّة (من قبيل «الشعب يريد تطبيقَ الدستور» على ما طرح سليمان تقيّ الدين وفوّاز طرابلسي ونصري الصايغ في جريدة السفير)، لكنْ، أليس شعارُنا ذاك إسقاطاً تونسياً/مصرياً على بيئة مختلفة نوعاً ما؟ هذا ما سنحاول امتحانَه في ما يأتي.
أ ـــــ «الشعب يريد». هل ثمة شعبٌ في لبنان؟ في لبنان قُرْطة عالم (بتعبير زياد الرحباني)، أو شعوبٌ لبنانيّة (بتعبير نصري الصايغ)، لا تُجْمع على هويّة مشتركة، ولا على عدوّ مشترك، ولا على صديق مشترك. وليس أدلّ على ذلك من تسريبات ويكيليكس أثناء عدوان تمّوز 2006، إذ كان يُفترض أن يتوحّد زعماء البلد ضدّ المحتلّ الخارجيّ (فكيف إذا كان إسرائيل؟)، فإذا بنا نجد غير زعيم أو «نائب للأمّة» يحرِّض الأميركيّين على أن «ينصحوا» الإسرائيليّين بتجنّب قصف مناطق لا تَخْضع لسيطرة المقاومة «الشيعيّة»، لكي لا يؤلّبوا المسيحيّ والسنّيّ والدرزيّ عليهم! بمعنى آخر، في عزّ العدوان الخارجيّ، تغلّب ولاء زعماء ونوّاب لمذهبهم و/أو طائفتهم على الولاء المفترض لبلدهم و«شعبهم على اختلاف طوائفه ومذاهبه...» (إلى آخر الأسطوانة الكاذبة)، كأنّ هذا العدوان استهدف الشيعة وحدهم، أو كأنّ إسرائيل لم يسبقْ أن اعتدتْ على لبنان، قبل أن يتسلّح هؤلاء. وما يزيد الأمرَ فضائحيّةً أن يبزّ نوّابُ تيّارٍ وَقّع ورقة تفاهُمٍ مع حزب الله (أمثال أحد تلاميذِ البروفسور الليكوديّ اللبنانيّ فؤاد عجمي) خصومَهم الداخليين من أعداء المقاومة، في تحريض الإدارة الأميركيّة على «نصح» العدوّ الإسرائيليّ.
هذا عن الزعماء وممثّليهم داخل الطبقة السياسيّة الحاكمة. فماذا عن رعايا الطوائف؟ هؤلاء، والحقُّ يقال، ليسوا كلّهم ضحايا مساكين «معتّرين»، بل كثيرون منهم فاعلون أصيلون، ومقاتلون أشاوس، وشهداءُ أبرارٌ لمجد طوائفهم. ثم إنّ بعضَهم يستفيد من فتات النظام الطائفيّ، أو من الدعم الخارجيّ الذي يصل جناحاً من هذا النظام دون جناح، أو يستفيد بما هو أكبرُ من الفتات: فالطائفة تحميهم أحياناً من زعران الطائفة الأخرى، أو تؤمِّن لهم هيبةً و«ظهراً»، ومعاشاتِ تفرُّغٍ لمقاتليها، ومنحاً دراسيّةً لأولادهم، ووظائفَ مجزيةً أو مقبولةً، في ظلّ البطالة المتفاقمة. وهكذا تَضْمن الطائفيّةُ السياسيّة، عبر الأداة الزبائنيّة، توسيعَ أُطُرها وتجديدَ دمها. وقد لا يكون من المبالغة القولُ إنّنا جميعنا أو معظمنا، بمن في ذلك اللاطائفيّون، استفدنا في وقتٍ ما، وربّما لا يزال بعضُنا يستفيد، من «منّات» الطائفيّة الزبائنيّة وخدماتها.
ومع ذلك، فإنّ هناك مَن يطمعُ في أن نصير شعباً، بمعنى أن نَخرج من الولاء المطلق للطائفة والمذهب والعشيرة والحيّ والزعيم، فيغدو هذا البلدُ، ولو بالحدود التي رسمها الانتدابُ البغيض، هو هدفَ الحاصلين على الجنسيّة اللبنانيّة (أو «اللبنانيين» تجاوزاً) ومحطَّ اهتمامهم وقِبلةَ توجّههم. وعليه، فإنّ الأصحّ بالتأكيد هو أن نقول، بدلاً من «الشعب يريد...»، «نحن نريد...».
ولكنْ مَن «نحن»؟
هنا نقع أيضاً في إشكال. فقد ذيّلنا بيانَنا الأوّل بتوقيع «مواطنون ومواطنات». بيْد أنّنا لسنا في الواقع كذلك؛ وإلّا فكيف نطالب بأن تكون دولتنا المنشودة «دولةَ مواطَنة»؟! الحقّ أنْ لا مواطنين في لبنان، ناهيكم بمواطنات، بل كلُّنا، بدرجات متفاوتة، رعايا عند طوائفنا كما بيّنّا. وإذا كان لنا أن نعرِّف هويّة منظّمي الحراك وكثيرٍ من المشاركين فيه، فلربّما قلنا إنّنا من حَمَلة الجنسيّة اللبنانيّة التائقين إلى أن نكون مواطنين ومواطنات. في صفوفنا حزبيّون ومستقلّون (الأفضلُ وصفُ الأخيرين بـ«غير الحزبيّين»)، اختاروا أن يشقّوا عصا الطاعة وأن يشْهروا سيفَ العصيان. هؤلاء «الصعاليك» اللبنانيّون، المتأبّطون شراً ضدّ الطائفيّة، وخيراً لمستقبل بلدهم كما يزعمون، لا يمثّلون الشعوبَ اللبنانيّة. ومن يدّعِ عكسَ ذلك مِن بينهم فهو منتحلُ صفة! وهذا يعود إلى سببين:
ـ الأول هو قلّةُ عددنا نسبياً. فمهما تخطّينا عتبة العشرين ألفاً التي بلغناها في التظاهرة الثانية من الأشرفيّة إلى الصنائع، فلن نصل إلى «مليونيّة» تظاهرات 8 أو 14 آذار. والأفضل، في كلّ الأحوال، ألاّ نتنطّعَ في المبارزات الرقميّة مع الطوائف وحلفائها.
ـ الثاني، وهو الأهمّ، لأنْ ليس ثمة شعبٌ لبنانيٌّ لنمثّله، على ما أظهرنا، وإنّما نحن نمثّل ما نؤْمن أنّه قد يجعل منّا شعباً. وفي المقابل، فإنّ الشعب التونسيّ، بغالبيّةٍ عظمى كما دلّت التظاهرات، كان يريد فعلاً إسقاط النظام ورموزِه (زيْن العابدين، حكومة محمد الغنوشي، الحزب الدستوريّ،...). كما أنّ الشعب المصريّ، بملايينَ عمّت الساحاتِ في عشرات المدن، كان يريد فعلاً إسقاطَ النظام المصريّ ورموزِه (حسني مبارك، عمر سليمان، أحمد شفيق، جمال وعلاء مبارك، الحزب الوطنيّ،...).
أكثر من ذلك: نحن، وأقصد هذا الجزءَ الصغيرَ من «الشعب» اللبنانيّ، الطامحَ إلى أن يصير كبيراً وفاعلاً، لا يريد كلُّه، وبمختلف مكوّناته، إسقاطَ النظام. وهنا نأتي إلى الجزء الثاني من الشعار المركزيّ.
ب ـ «إسقاط النظام الطائفيّ... ورموزه». بعضُنا، داخل الحراك نفسه، لا يريد إسقاط النظام الطائفيّ، بل جانبٍ منه فحسب، هو الطائفيّة السياسيّة، لا طائفيّة الأحوال الشخصيّة مثلاً. لذا فهو لا يتردّد في رفض الزواج المدنيّ، ولو كان اختيارياً. غير أنّ الأمانة تقتضي القولَ إنّ بين رافضي إدراج بند الزواج المدنيّ الاختياريّ ضمن بنود الإصلاح المنشود مَن يفعلون ذلك حرصاً على عدم تنفير الملتزمين (إسلامياً خصوصاً)، لا عن قناعةٍ راسخةٍ برفضه مطلقاً. ومع ذلك، تبقى الأسئلة الآتية مشروعةً:
هل يمْكن إسقاطُ النظام الطائفيّ (ورموزِه) من دون إسقاط تحكُّم المؤسّسة الدينيّة في عواطفنا وأجسادنا وإرثنا وأولادنا، ورغبتنا في المزيد من الحريّة؟ وهل يمْكن حصرُ «إسقاط النظام الطائفيّ»، ولو تكتيكاً، بسنّ قانون انتخابٍ نسبيّ جديد، على أهمّيّة المطلب الأخير الفائقة؟ وهل يمْكن، أخلاقياً في الحدّ الأقلّ، تأجيلُ المطالبة بالحريّات الفرديّة إلى حين تحقيق النصر على جبهة القانون الانتخابيّ المرغوب عملاً بمنطق الأنظمة العربيّة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»؟ وفي هذه الحال، ما تراه يكون الفرقُ بيننا وبين حركاتٍ طائفيّة، أو مشوبةٍ بالطائفيّة، أقصى طموحِها الإصلاحيّ سنُّ ذلك القانون الانتخابيّ؟!
هذا في ما يخصّ عبارة «إسقاط النظام الطائفيّ» في شعارنا. أمّا «...ورموزه» فتستحقّ حديثاً آخر، هاكم تفصيله، وهو متعلّقٌ إلى حدٍّ ما بالسؤال الأخير أعلاه.
يخيّل إليّ أنّ المنظّمين أضافوا حرفَ العطف والاسمَ المعطوف، بعدما استشعروا محاولةً حثيثةً من بعض رموز السلطة الطائفيّة (أحد جناحَي الشيعيّة السياسيّة تحديداً) لركوب حراكنا. الإضافة مفهومة ومبرّرة إذا كان منطلقَها الحرصُ على النأي بالحراك عن المعسكريْن الطائفيّيْن (14 و8 آذار)، لكنّ مجرّدَ ذكْر سعينا إلى قانونٍ جديدٍ للأحوال الشخصيّة، بما في ذلك الزواجُ المدنيّ (الاختياريّ)، قد يُبْعد الرموزَ الطائفيّة تلقائياً! هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ ثانية، يجب طرحُ سؤالٍ جوهريّ آخر: هل رموزُ حزب الله، مثلاً، رموزٌ طائفيّة فقط، أمْ أنّهم أيضاً رموزٌ لمقاومة العدوّ الإسرائيليّ؟
هنا حصل بعضُ الارتباك لدى بعض طارحي «...ورموزه» أنفسهم؛ وإلّا فلماذا وَضَعَ الرفاقُ الأعزّاء في حملة «حلّوا عنّا!» (وهم جزءٌ من الحراك) صورة النائب الحاجّ محمّد رعد إلى جانب زعماء النظام الطائفيّ اللبنانيّ، بدلاً من صورة السيّد حسن نصر الله بالذات؟ هل مجرّدُ كون رعد رئيسَ الكتلة النيابيّة في البرلمان الطائفيّ يمنحه «شرفَ» تبوّء منصب تمثيل أحد جناحَي الشيعيّة السياسيّة في النظام، بدلاً من القائد الفعليّ لحزبه؟
وقد ينطبق الأمرُ، ولو إلى حدّ أقلّ، على العماد ميشال عون. فوقوفُه الصلب والمشرّف، في العلن والسرّ (باستثناء بعض نوّابه على ما فضحتْ ويكيليكس ذلك)، إلى جانب المقاومة «الشيعيّة» أثناء عدوان تمّوز وما بعد بعد تمّوز، لا يمكن أن يَحْشره في خانة الرموز الطائفيّة دون غيرِها من الخانات، على الرغم من تراجعه أشواطاً كبيرةً عن أطروحاته العَلمانيّة التي كان قد أعلنها بعيْد رجوعِه من منفاه القسريّ عام 2005، وعلى الرغم من طموحِه المتصاعد، من ثمّ، إلى أن يكون الممثّلَ الأوّل للمسيحيين. وقد يقال إنّ رموزَ النظام الطائفيّ قد تشمل رئيسَ الجمهوريّة نفسَه، فضلاً عن مختلف المرجعيّات الدينية؛ وإنّ عدمَ إدراجها بالاسم والصورة تراجعٌ مفاجئٌ مِن قِبلنا أمام «الحساسيّات» المتعدّدة.
وباختصار، فإنّ إضافة «...ورموزه»، في رأيي، ربّما كانت مبرّرةً أوّل الأمر من أجل تظهير هويّتنا الفكريّة المغايرة لمعسكرَي الطبقة الحاكمة؛ لكنّها تورِّطُنا في سجالاتٍ قد لا نعْرف كيف نخرج منها. زدْ على ذلك أنّها تنفّر كثيرين مِن الذين يتململون من النظام الطائفيّ لكنّهم يشْعرون (ولا تسألوني عن السبب) بالاستفزاز إذا تعرّضتْ «رموزُهم» للتشهير! وربّما يَلْزم اليومَ التفكيرُ في إبدال «...ورموزِه» بشيءٍ عن المؤسّسات الطائفيّة التي هي عصبُ النظام الطائفيّ وأداتُه التنفيذيّة والتشريعيّة.
تبقى كلمة «إسقاط». والأسئلة المرتبطة بها كثيرةٌ ومربكةٌ هي الأخرى، من قبيل:
هل نُسْقط من حسابنا النوّاب اللاطائفيّين الذين جاؤوا إلى السلطة بفضل محادل الطوائف، لكنّهم قد ينحازون إلى «أصلهم» إنْ آنسوا تصاعداً في قوّتنا على الأرض (والأمر ينطبق على بعض الوزراء أيضاً)؟ ألا يعطي لفظُ «الإسقاط» انطباعاً خاطئاً بأنّنا إزاء ضربةٍ قاضية، أو ضرباتٍ متواليةٍ عاتية، تؤدّي عمّا قريب إلى ترنّح النظام وانهياره، فيما غالبيّتنا الساحقة تعي الآن (بعدما توهّم بعضُنا أنّ النصرَ صبرُ ساعة!) أنّ معركتنا طويلة لوجود أكثر من بن عليّ ومبارك في لبنان، ولتغلغل الطائفيّة إلى داخل صفوف المسحوقين الذين يُفترض أن نقاتلَ معهم النظامَ الطائفيّ؟! أفلا يُحبط لفظُ «الإسقاط» كلَّ عملٍ خارج إطار التظاهرات والمواجهات المباشرة، من نوع الضغط بالقانون وتثقيفِ أنفسنا والآخرين بموضوعات العَلمانيّة والطائفيّة... بما يصلّب عودَنا في وجه التربية الطائفيّة والمذهبيّة التي تزداد رسوخاً في المجتمع؟ وإذا كان شعارُنا في هذه المرحلة الأولى من حراكنا هو «إسقاط النظام» (لا تغييره مثلاً، أو تطبيق الدستور)، فماذا تركنا لمرحلة المواجهة الجسديّة ـــــ وهي قادمةٌ على الأرجح، على ما تنذر الاعتقالاتُ الأمنيّةُ الأخيرةُ لمناضلي الحراك في وسط بيروت والنبطيّة وعالية (وقبلها اختطاف بلاطجة أحد أجنحة النظام الطائفيّ مناضلَيْن يوزّعان مناشيرَ ضدّ الطائفيّة ومعاقبتهما بالضرب)؟ إنّ أجنحة النظام الطائفيّة مسلّحة حتى أسنانها، وتتلطّى أحياناً بالأجهزة الأمنيّة الشرعيّة، وهي لن تتخلّى عن امتيازاتها طوعاً وكرمى لعيوننا. وأخيراً، لماذا يقتصر فعلُ الإسقاط على النظام الطائفيّ (ورموزه) ويُغْفل مصائبَ لا تقلّ ظلماً وخطراً، كالفساد مثلاً، وهو لا يرتبط، بالضرورة، بالطائفيّة؟

■ ■ ■

اقتصرت السطورُ السابقة على تفكيك شعار حراكنا. والهدف ليس تعديلَ الشعار (الذي بات يمتلك شبه «حقٍّ مكتسبٍ» بمرور الوقت)، وإنّما تنبيهَ أنفسنا إلى ما ينتظرنا من تحدّياتٍ نظريّةٍ، قد تنعكس سلباً على انتشارنا عملياً. تحدّياتٍ كان من الطبيعيّ ألا نعيَها تماماً حين انطلقنا على إيقاع انتفاضتيْ تونس ومصر المظفّرتيْن.
في الختام أرى أنّ حراكنا يبشّر بحصول انقلاب جميل، ولو بعد سنوات، على مستوى الدولة والمجتمع، وفقاً للشروط الآتية:
أولاً، أن نصوغ برنامجاً مرناً للخطوات اللاحقة، وذلك عبر هيئة للتخطيط، على ما اقترح الرفيق باسل عبد الله من «تيّار المجتمع المدنيّ». تلك اللجنة ليست «لجنة حكماء» متعالية كالتي نشأتْ غداة ثورة 25 يناير، وإنّما تضمّ ممثّلين عن اللجان داخل الحراك، غير أنّه يضاف إليهم اقتصاديّون وقانونيّون وصحافيّون ومؤرّخون من خارج «الجهاز» التنظيميّ للحراك، لكنّهم مؤمنون بأهدافه العامّة (أمثال أوغاريت يونان وجورج قرم وسليمان تقيّ الدين وفوّاز طرابلسي وكمال حمدان ونصري الصايغ، بالترتيب الألفبائيّ). وبهذا يتزاوج النشاطُ والحماسة والمثابرةُ والصبرُ بالمعرفة العميقة والدقيقة بالتربية والتاريخ والاقتصاد والقانون وثقافة عصر النهضة، لتُنتج، بمجموعها، خطّةَ تحرّكاتٍ للشهور الستة القادمة، مثلاً.
ثانيًا، أن نتخفّف من شعورنا بالارتياب من الآخرين الجالسين إلى جانبنا ضمن الحراك. ليس الأمرُ سهلاً بالتأكيد؛ فتلك هي المرّة الأولى التي يلتقي فيها على امتداد شهور أناسٌ بهذا العدد (120 ـــــ 150): حزبيّون، وغير حزبيين (هم الغالبيّة)، و«لاناشطون» (أيْ لم يسبقْ أن شاركوا في أنشطة عامّة)، ومن أجيال مختلفة (18 ـــــ 35 سنة مع حضور لا يتجاوز الـ15% لِمن هم خارج هذين الحدّين)، وبطبقات اجتماعيّة متغايرة (مع غلبة للشرائح الوسطى المتعلّمة)، ومن مناطقَ متباعدة، وبتوجّهات جنسيّة مختلفة، وأمزجة متباينة. وهذا كلُّه، إنْ دلّ على شيء، فعلى أنّ الحماسة في مقارعة الطائفيّة عابرة لفئات المجتمع، ومرشّحة لأن تكوّن تيّاراً معتبَراً في لبنان. وبالمناسبة، فإنّ ذلك نمطٌ جديدٌ من «الفسيْفساء اللبنانيّة»، غير فسيفساء الطوائف التي لم تُنتجْ إلا حروباً في أسوأ الأحوال ونهشاً لقالب الجبنة (الدولة) في أحسنها. غير أنّ الفسيْفساء «الجديدة» تحمل أيضاً الكثيرَ من سمات المجتمع الذي أنتجها: من رواسبَ طائفيّة لا تَخْفى، ومن انحياز نسبيّ إلى أحد معسكريْ 8 أو 14 آذار (ولا سيّما في مسائل المقاومة والعلاقة مع سوريا والمحكمة الدوليّة)، ومن ذكوريّة فاقعة تفْضحها النبراتُ العالية و«لغةُ الجسد» أثناء الكلام.
ثالثاً، أن نتخفّف قدرَ الإمكان من «إيغوياتنا» (ذاتيّاتنا) المفرطة. ومن هنا تكرارُ الرفيق عربي عنداري لفظ «التواضع» عشرَ مرّات في مقاله الأخير في مجلة الآداب، عند كلامه على عوائق حراكنا. تلك الذاتيّات تتضخّم كلّما ابتعد حضورُ «القضيّة» عن أفئدتنا؛ ولذلك لم يكن غريباً أنْ عدنا إلى خلافاتنا الداخليّة بعد تراجع انتصارات الانتفاضات العربيّة.
رابعًا، أن ندْرس بجدّيّة فكرةَ «الائتلاف»، أيْ وجود مجموعات متنوّعة المشارب ضمن الخطّ العامّ وتحت سقف الشعار المركزيّ المُجمَع عليه. وتلك الفكرة كان أوّل مَن طرحها ، إنْ لم تخُنّي الذاكرة، الرفيق دياب أبو جهجه، قبل أن يستقلَّ هو وبعضُ الرفاق الآخرين في تكتّل سمّوْه «تكتّل ثورة 2011».

■ ■ ■

في جميع الأحوال، هذا الحراك ملْكٌ لجميع المتضرّرين من الطائفيّة. والمطلوب من كلّ حريص ألّا ينقضّ عليه بعد كلّ كبوة، وألّا يصفّقَ له تصفيقاً لانقدياً بعد كلّ نجاح، بل أن ينخرط في هذه المسيرة الطويلة بحسب وقته وإمكاناته؛ فذلك يبقى أقصرَ الطرق إلى وطنٍ عادلٍ يطوي صفحة الحروب الأهليّة إلى الأبد.
* رئيس تحرير مجلة الآداب، ويُنشر هذا المقال ضمن عددها القادم الصادر بعد أيّام