«ما دمت رئيساً للسلطة الفلسطينية، فلن أسمح أبداً باندلاع انتفاضة جديدة، مهما كان شكلها». هذا ما قاله الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الصحافيين التونسيين، ونقلته وكالات الأنباء إلى أرض الوطن، حيث يستعد الفلسطينيون للتمثّل بأقرانهم العرب، والخروج في ثورة شعبية سلمية لإنهاء الاحتلال في الخامس عشر من أيار المقبل.موقف أبو مازن ليس جديداً. هو معروف للقاصي والداني من داخل فلسطين وخارجها، ولم يكن بحاجة إلى تكراره من تونس. لكنّه تقصّد اجترار الموقف، لإيصال رسالة إلى الداخل الفلسطيني، ولا سيما بعد مقابلة القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي التي توجّه فيها إلى الشعب الفلسطيني بالخروج آلافاً وبمئات الآلاف إلى شوارع الضفة الغربية والسير باتجاه الحواجز الإسرائيلية والهتاف «الشعب يريد إنهاء الاحتلال».
رسالة عبّاس فيها الكثير من الشخصانية: «ما دمت رئيساً». إنّها رسالة مباشرة إلى شخص معيّن، من المرجّح أن يكون البرغوثي، ولا سيما أنّ محتواها جاء مناقضاً لما دعا إليه القيادي الفتحاوي الأسير. الجزء الأخير من جملة أبو مازن يؤكد أيضاً أنّها تأتي رداً على شخص أو حالة بعينها. «مهما كان شكلها»، جملة غريبة لدى الحديث عن الانتفاضة، وخصوصاً أنّ من المفترض أنّ شكل الانتفاضة معروف، وقد اختبره الشعب الفلسطيني في مناسبتين كان الفرق بينهما بدرجة التسلح ونسبة اللجوء إلى العمل العسكري. يبدو أنّ الشكل الذي قصده عبّاس موجهاً أيضاً إلى البرغوثي الذي شدّد على الطبيعة السلميّة للتحرّك الفلسطيني المرتقب، في محاكاة لمشهد الثورات العربية، باستثناء ليبيا. ففي زمن الثورات العربية، لا يمكن الشعب الفلسطيني أن يبقى على الهامش، ويتابع بصمت ما يجري من حوله من علامات تغيير تاريخية، سيكون لها الأثر الكبير على مصير المنطقة، على المديين القريب والبعيد، من دون أن يشارك في صناعة مصيره بطريقته الخاصة.
وبغض النظر عن الرسالة الشخصية لعبّاس إلى البرغوثي، فالرسالة الثانية موجهة إلى الداخل الفلسطيني، وتحديداً إلى أولئك الشبان الذين يعملون على التحرّك في ذكرى النكبة. لكن لم يوضح أبو مازن كيف ينوي منع اندلاع انتفاضة جديدة في الأراضي الفلسطينية. هل سيلجأ إلى القمع المعتمد لدى نظرائه العرب الذين يواجهون انتفاضات شعبية؟ أم سيلجأ إلى القوات الإسرائيلية لمنع الشعب الفلسطيني من الخروج لمواجهة محتلّه؟
رسالة عبّاس عبارة عن تهديد مباشر لشعب كان أحق بأن يلتقط عدوى المدّ الثوري العربي منذ اليوم الأول، وكان من المفترض أن يكون هو من يصدّر الثورات بشكلها الحالي، لا أن يكون عنصراً متلقّياً. العدوى وصلت أخيراً إلى الشعب، لكن يبدو أنّ أبو مازن لا يزال يعيش في زمن آخر. لم تصل إلى الرئيس الفلسطيني المعلومات عن أنّ القمع لا يزيد الشعب إلا إصراراً، وأنّ المنع لم يعد وسيلة ذات جدوى في زمن الثورات على الأنظمة الاستبدادية. ومن الأفضل لأبو مازن الاستفادة من الدروس المستقاة من تونس ومصر واليمن وليبيا، حيث يتضّح أنّ ثمن معارضة الرغبة الشعبية يكون باهظاً.
للرئيس الفلسطيني حساباته الخاصة. حسابات مرتبطة بالدعم الدولي وقيام دولة فلسطينية في مجلس الأمن، وهو يخشى من خسارة مثل تلك المعطيات إذا تحوّلت الأراضي الفلسطينية إلى ساحة مواجهات. لكن في المقابل، بإمكان أبو مازن أن يحاول استغلال الدعوات للانتفاض والتظاهر، وخصوصاً شعار «السلميّة»، الذي يشدّد الجميع عليه، لاستخدامه في المحافل الدوليّة. فالضغط الميداني في أيار، المتلاحم مع العمل السياسي في أيلول (موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة)، من الممكن أن ينتج حالة مختلفة، داعمة أكثر للشعب الفلسطيني الباحث عن حقوقه بالطرق السلميّة.
كان بإمكان أبو مازن أن يصطفّ إلى جانب الرغبة الشعبية، ويلوّح بالانتفاضة السلميّة في وجه الاحتلال والدول الغربية، على نحو يترافق مع التوجه إلى نيل الاعتراف الدولي، فالتوجهان لا يتناقضان. لكنّه فضّل بعث رسالة تهديد. رسالة من المؤكّد أنّها لن تصل، والموعد سيكون في الخامس عشر من أيار.