شيء منّي لا يزال هناك. في أرض تلك الدار في حمص القديمة. شجرة الكبّاد، وشجرة الزيتون، والأعشاب النابتة بخجل في زوايا المربّعات الحجريّة. هناك حيث لا أبواب تفصل الجيران بعضهم عن بعض، بل مجرّد فتحات في الجدران. هناك حيث الدرّاجات الهوائية المتهالكة هي وسيلة النقل وسط الطرقات التي لا تكاد تتّسع للسيارات الحديثة. وهناك حيث يسير الأطفال حفاةً يحملون بفرح عصيراً برتقالياً عُبّئ داخل أكياس من النايلون.كنّا نسمّيه «بيت العمّات» حيث يقيم أقارب. وفي بيت العمّات، لم يكن ثمّة مكان لغير الحبّ الذي لا يمكن اختباره تماماً لمن لا يعرف حمص وهواء حمص. غالباً ما كنّا نلجأ إلى ذلك البيت هرباً من أحد فصول الحرب الأهليّة التي عصفت بلبنان. مرّة، هرباً من القتل على الهويّة، ومرّة، هرباًَ من معارك التصفية التي قادتها حركة التوحيد في طرابلس، ومرّة، هرباً من معارك إخراج «التوحيد» من المدينة. كان الوصول إلى حمص بمثابة الوصول إلى شاطئ الأمان. ولم يخطر في بالي يوماً أنّ الرصاص القاتل سيبدّل مكانه.
شيء منّي لا يزال هناك. في أرض تلك الدار التي هجرها أهلها. لا شيء فيها سوى صناديق تحوي أغراضاً قديمة لأسماء سكنت داخل البراويز. كلّهم أصبحوا في الخارج منذ زمن بعيد، حتّى باتت عبارة «سافر عالبرازيل» مرادفة للموت. وحدهما العمّتان بقيتا هناك متّشحتين بالسواد، من دون أن أعرف يوماً سبباً لذاك الحداد الذي لا ينتهي. لكنّ سحراً كان ينشأ بين الحزن الكامن في الضلوع والعاطفة التي تفيض تجاه الهاربين من الجحيم اللبناني.
حمص الجديدة كانت أمراً مختلفاً. كنت أرفض في طفولتي أن أدعوها حمص. أبدأ بالبكاء ما إن تطأها قدماي، وأتمسّك بتنّورة والدتي صارخاً: «هذه سوريا وليست حمص. خذوني إلى حمص».
وإلى حمص القديمة، إلى حمص ـــــ البلد، عدتُ هذا الأسبوع عبر الصور القليلة التي وصلت إلينا. لكن، هذه المرّة، لم يكن سحراً ما شعرت به. إنّه الحزن نفسه. فائض الحبّ نفسه. لكنّ شيئاً آخر أفسد هواء المدينة. لعلّها رائحة الدماء التي سالت في الطرقات. دماء لأسماء نجهلها، وقيل لنا إنّها «سافرت عالبرازيل».