يوم 18 آذار، سوّت قوات مجلس التعاون الخليجي دوار اللؤلؤة في البحرين بالأرض. وفي الوقت عينه، دفن مئات من المشيعيين الغاضبين في مدينة سترة وقرية كرانة، كلّاً من أحمد فرهان علي (29 سنة)، ومحمد عبد علي (40 سنة)، اللذيْن قتلا بنيران القوات المسلحة، في وقت سابق من الأسبوع. وأثناء تدمير دوار اللؤلؤة (ميدان التحرير البحريني)، كان التلفزيون البحريني الرسمي يقول لمشاهديه إنّ التسمية الرسمية التي كانت قد أطلقت على النصب هي «مجلس التعاون الخليجي»، وإنّ كلّ عمود فيه يمثل بلداً من بلدان مجلس «التعاون».فالمكان الذي ظنّ المحتجون البحرينيون أنّه سيعيد إليهم البحرين «لؤلؤة الخليج»، وسيصنعون على أرضه مستقبلهم، كان المكان الذي جمعهم وجهاً لوجه بأركان القمع في المنطقة. يتضح جليّاً الآن، أنّ أيّ حركة تغيير اجتماعية في البحرين، لن تصطدم بحصون النظام وحده، بل بمصفوفة القوة بأكملها التي تحافظ على الوضع الراهن في الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية (والولايات المتحدة الأميركية على الجانب الآخر).
تساعد وتدعم هذه المصفوفة وتتستر على أعمالها، «قوى عظمى» أخرى، و«مصالح»، وهي أكثر المصطلحات المنفرة في قاموس العلاقات الدولية. ووفقاً لمعلومات ترد من دبلوماسيين في الاتحاد الاوروبي ومجموعة BRIC (أي مجموعة الدول الأكثر نمواً في العالم: البرازيل، روسيا، الهند والصين)، فإنّ دعم مجلس التعاون الخليجي للقرار 1973 الدولي القاضي بفرض منطقة حظر جوي على ليبيا، كان بمثابة صفقة اميركية ـــــ سعودية مقابل التزام الولايات المتحدة الصمت حيال التدخل السعودي في البحرين.
وفيما تُجرّ الثورة الشعبية الى الساحة الدولية، شرع مجلس التعاون الخليجي في استنهاض شبح «التدخل الإيراني»، من مدفنه الى الواجهة. وتدّعي الحكومة البحرينية، أمام العالم بأسره، بأنّ قوات مجلس التعاون قد أحبطت مؤامرة أجنبية عمرها 30 سنة. بالتأكيد، أدلي بهذا التصريح، لإقناع الحكومات الأجنبية بأنّ هناك حاجة للتدخل السعودي المتوحش، فالشعب البحريني معتاد على التصرفات البطولية لحكومته.
إذا أجرينا بمراجعة للأحداث التي وقعت على مدى الثلاثين سنة الماضية، نرى أنّ البحرين قد نجحت في 1981 في التصدي لانقلاب ـــــ بدعم خارجي، وقمعت انتفاضة «مدعومة من الخارج» في 1996، واعتقلت في 2008 14 مواطناً بتهمة خضوعهم لتدريبات من جهات أجنبية، وكشفت عن «شبكة إرهابية دولية» في 2010. أي في كلّ مرة يهبّ الشعب البحريني لمحاسبة حكومته، تتمكّن هذه الأخيرة من «اكتشاف» مؤامرة خارجية أخرى و«إيقافها».
قبيل استقلالها في 1971، اعتمدت البحرين على الدعم السياسي والعسكري البريطاني لقمع التحركات الشعبية، وتولّى مجلس التعاون الخليجي، الذي تسيطر عليه السعودية، هذه المهمة بعد نيل البلاد استقلالها. إنّ اتفاقية «التعاون الأمني الثنائي» بين السعودية والبحرين في 1981، وإنشاء مجلس التعاون الخليجي، والبدء في بناء جسر سعودي ـــــ بحريني (يزعم أنّ المحادثات بشأنه بدأت في 1965)، ما هي إلا وسائل استخدمت لتعبئة الإمارات والسلطنات وتجييشها لمنع انتشار الثورة الشعبية في الخليج.
لا تزال مزاعم مجلس التعاون الخليجي بوجود تدخّل اجنبي (اقرأ: ايراني) بدون إثبات. ووفقاً للمراسلات الاستخباراية الأميركية التي سربت في وثائق ويكيليكس، لا دليل على الدعم الإيراني للمعارضة البحرينية. لكن تصريحات الحكومة حققت أهدافها. سرقوا ثورتنا الشعبية وحوّلوا البحرين من لؤلؤة الخليج الى طاولة بوكر الشرق الأوسط، يتجمّع حولها اللاعبون الدوليون الأساسيون، للمطالبة بحصصهم. تحذّر الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الحالي، إيران من تدخلها الذي لا دليل عليه في شؤون البحرين، بعدما كانت قد حثت الحكومة البحرينية على اتخاذ المزيد من الخطوات الاصلاحية الصغيرة. وصرح دبلوماسيون من الاتحاد الاوروبي بأنّهم قلقون بشأن «التدخل الإيراني»، أكثر من العنف المميت الذي تمارسه قوات مجلس التعاون على أرض البحرين.
في الجهة المقابلة، وجّهت إيران (التي بدورها استخدمت القوة والعنف لقمع ثورة شعبية ضد نظامها في 2009 و2010 وشباط 2011) انتقاداتها للتدخل السعودي في البحرين لتفريق المتظاهرين. ووجّه قائد حزب الله، حسن نصر الله (الذي فشل طبعاً بإعلان دعمه للثورة الشعبية في سوريا) رسالة دعم للثورة البحرينية ـــــ لكنّه أضاف أنّ حزب الله لا يوفر الدعم المادي للمعارضة البحرينية. إنّ أطرافاً من المعارضة البحرينية (التي تضم ممثلين عن قوى علمانية، وقومية، ويسارية، وغير ايديولوجية، ونقابية وناشطين في حقوق الانسان)، ينفون نفياً قاطعاً الدعم الايراني لهم، ويرفضونه، إلا أنّ لا أحد يبدي اهتمامه لما يقوله هؤلاء.
إنّ مجلس تعاون الدول الشهير، الذي لم يحقق، طوال 30 سنة، أيّ «تعاون» يذكر باستثناء الاتفاق على لائحة الطعام خلال اجتماعاته ربما، نجح الآن بتنسيق تدخل عسكري في البحرين، بقيادة السعودية، وإرسال رزمة مساعدات بقيمة مليار دولار لكلّ من حكومتي البحرين وسلطنة عمان. هيمنة السعودية على المنطقة، ليست بالواقع الجديد طبعاً. بنيت هذه السيطرة بأيد ملطّخة بالدولارات النفطية، وحافظ على هذه السيطرة، نظام ٌعديم الشفقة يحظى بدعم الأنظمة الديموقراطية الرائدة في العالم. نظامٌ يدفع ثمن العنف وعدم الاستقرار في افغانستان، والعراق، ولبنان وباكستان. وتعدّ البحرين الزبون الأحدث على القائمة، وسقف ديون حكومتنا تجاه السعودية مرتفع جدّاً. يؤلّف الحقل النفطي «المشترك» بين السعودية والبحرين أغلب ميزانية النظام البحريني، ويعتمد الاقتصاد المحلي للبحرين على الاستثمارات والنفقات السعودية، فما الذي اقترفته اليد السعودية (التي هددت شعبها في الشهر الماضي، بقطع أيّ إصبع ترفع بوجه النظام) في البحرين؟ عبر التعاون، قتل أفراد الأمن البحريني والسعودي 23 مدنيّاً و3 أشخاص، من بينهم اثنان من أفراد الأمن لقوا مصرعهم خلال أحداث العنف المدنية. واعتُقل قادة المعارضة، والناشطون المستقلون، والمعلمون، والصحافيون، والنقابيون، وحتى مستخدمو وسائل الاتصال الاجتماعي كتويتر. وهناك أكثر من 300 شخص مفقود أو محتجز، وطرد المئات من وظائفهم بسبب مشاركتهم في إضرابات احتجاجية على استخدام الحكومة للعنف. وأحكم الجيش السيطرة على المستشفى المدني العام الوحيد، ومُنعت الصحيفة المستقلة الوحيدة في البحرين من الصدور. وطاولت دائرة الاستهداف شخصيات محلية، ووزراء، ورياضيين، ورجال أعمال، من الإعلام المحلي الذي زعم بأنّهم شاركوا ودعموا الاحتجاجات والإضرابات. ووُثّقت مجموعة كبيرة من انتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها من عمليات القتل من دون محاكمة، والهجمات على المنشآت الطبية والمسعفين، والاعتداءات على الأماكن الدينية، والأعمال الوحشية للشرطة، والاعتداءات على الحواجز والتحريض الطائفي والمذهبي. وعليه، فإنّ نتيجة تعاون «مجلس التعاون الخليجي» واضحة: أيّ تحدّ لنظام دولة من دول مجلس التعاون، الثابت والقائم على القمع والإكراه والاقتصاد الملتوي، سيواجه بأسلحة هذه الدول. وكما ذكّرنا رئيس حكومة البحرين، «سنساعد أولئك الذين يقدمون لنا المساعدة، لكنّنا لن نعفو عما مضى». وتمضي كلّ تلك الأحداث فيما جنود الولايات المتحدة الأميركية، راعية «الديموقراطية في الشرق الأوسط»، يغطون في سبات عميق في أكبر قاعدة بحرية في الخليج: الواقعة في ضاحية الجفير في المنامة.
تُميّع تطلعات الشباب وآمالهم، وتسرق وتخنق، بسبب الاشتباك الحاصل بين دول «محور الشر» الفعلية، التي تمتدّ من الولايات المتحدة الأميركية مروراً بالسعودية وإيران وإسرائيل. والرابح الآخر في هذه اللعبة، رغم وجوده في الظل، هو اسرائيل. ففيما يمارسون القمع على شعوبهم، يلوّح قادة مجلس التعاون الخليجي بورقة إيران، ويتقرب قادتنا من اسرائيل والأنظمة الغربية الديموقراطية ـــــ المنافقة، على أساس أنّ «عدوّ عدوّي هو صديقي». ويمكن القول إنّ اسرائيل هي الرابح الأكبر، في لعبة تتجمهر فيها القوى لتنفيذ المرحلة النهائية، وهي «قطع رأس الأفعى (الإيرانية)».
طبعاً، لا ينبغي لنا أن نفاجأ، فنحن على علم مسبق بالصفقات الاقتصادية غير المباشرة بين بعض الدول الخليجية واسرائيل، وحبهم الأبوي المقزز للعميل الاسرائيلي، ابو مازن. وأقتبس مبدأ إدوارد سعيد القائل «من المخزي والمعيب أن نقارن معاناة الشعوب ببعضها»، ونحن لا نقارن وضعنا بالوضع الذي يعانيه إخواننا وأخواتنا الصامدون في فلسطين، لكن يمكننا القول إنّ قادتنا قد تعلموا الكثير من نموذج الدولة الاسرائيلية: القمع الإجرامي للسكان المحليين على أيدي نخبة عديمة الرحمة، تتغذى من الدعم الدبلوماسي والعسكري للدول الكبرى، والعنصرية، والعنف، وحاليّاً من القوة العسكرية والحط من قيمة المعارضة لتبرير الأفعال الوحشية من دون اي رادع، بالاضافة الى ملايين الدولارات لتحسين الصورة العلنية. وفي ظلّ تعقيدات تاريخنا بأجمعه، آسف أن أقول إنّ الطريق من الرياض، مروراً بكلّ عاصمة من دول مجلس التعاون الخليجي، لن تؤدي الى القدس في الوقت الراهن، بل مباشرة إلى تل أبيب.
* كاتبة بحرينية
(ترجمة: كوثر فحص)