الإدمان على الحرب


ستيفن والت *
بدأت الولايات المتحدة، كدولة، مع 13 مستعمرة صغيرة وضعيفة، في الساحل الشرقي لأميركا الشمالية. خلال القرن الذي تلى ذلك، توسعت هذه المستعمرات الثلاث عشرة عبر القارة، فأخضعت أو أبادت السكان الأصليين، وانتزعت تكساس، ونيو مكسيكو وأريزونا وكاليفورنيا من المكسيك. شاركت في حرب أهلية مريرة، وحصلت على مجموعة متواضعة من المستعمرات خارج الحدود، وانضمت متأخرة إلى الحربين العالميتين. لكن منذ أن أصبحت قوة كبيرة في 1900، حاربت في 12 حرباً حقيقية وانخرطت في تدخلات عسكرية لا تحصى.

لكن، يقول الأميركيون إنّهم شعب محبّ للسلام، ونحن بالطبع لا نرى بلدنا كـ«أمة محاربة» أو «دولة عسكرية». ربما كان تيدي روزفلت آخر رئيس أميركي رأى أن الحرب نشاط مرحّب به (قال مرّة إنّ «الحرب الصحيحة هي، في المدى الطويل، أفضل لروح الإنسان من أي سلام مزدهر»)، والرؤساء الذين أتوا بعده صوّروا أنفسهم دوماً، بأنّهم يذهبون إلى الحرب مترددين، وباعتبارها الحل الأخير فقط.
في 2008، انتخب الأميركيون باراك أوباما، جزئياً، لأنّهم اعتقدوا أنّه سيكون مختلفاً عن سلفه في قضايا عدّة، لكن خصوصاً في مقاربته لاستخدام القوات المسلحة. كان واضحاً للجميع تقريباً أنّ جورج بوش الابن أطلق حرباً حمقاء وغير ضرورية في العراق، ثم فاقم الخطأ عبر إساءة إدارتها (وكذلك الحرب في أفغانستان أيضاً). لذلك، اختار الأميركيون مرشحاً عارض حرب بوش في العراق، ويستطيع أن يجعل التزاماتنا تتوافق مع مواردنا. قبل أيّ شيء، اعتقد الأميركيون أنّ أوباما سيفكر أكثر في ما يتعلق بمكان وكيفية استخدام القوة، وأنّه فهم حدود أداة من أكثر أدوات السياسة فظاظة. يبدو أنّ لجنة نوبل النروجية فكرت بالطريقة نفسها، حين منحته جائزة نوبل، ليس من أجل أمر قام به، بل لما أملت أن يقوم به من الآن وصاعداً.
لكن بعد سنتين فقط، نجد أنفسنا في المعركة من جديد. منذ وصوله إلى منصبه، صعّد أوباما التورط الأميركي في أفغانستان، وشن حرباً جديدة على ليبيا. وكما في حالة العراق، الهدف الحقيقي من تدخلنا هو تغيير النظام، تحت تهديد السلاح. أملنا في البداية أن تكون معظم الأسلحة في أيدي الأوروبيين، أو في أيدي قوات الثوار المنظّمين ضد معمر القذافي. لكن يبدو واضحاً على نحو متزايد، أنّه من أجل إنهاء العمل في ليبيا، من الضروري وجود قوات عسكرية أميركية، عملاء من السي. آي. إيه ومؤن من الأسلحة الأجنبية.
بالإضافة إلى ذلك، كما برهن آلان كابرمان من جامعة تكساس وستيف تشابمان من صحيفة «شيكاغو تريبون»، فإنّ الادعاء بأنّه كان على الولايات المتحدة التصرف لمنع المستبد الليبي معمر القذافي من ذبح عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء في بنغازي، لا يعدّ حتى تدقيقاً غير رسمي. ورغم أنّ الجميع يعترف بأنّ القذافي هو حاكم دموي، إلا أنّ قواته لم تقم بمذابح على نطاق واسع ومقصود في أيّ من المدن التي استعادت السيطرة عليها، كما أنّ تهديداته العنيفة بالانتقام من بنغازي كانت موجهة ضد من يقاومون حكمه، لا ضد المراقبين الأبرياء. لا شك بأنّ القذافي مستبد مع صفات تعويضية قليلة (إذا وجدت)، لكن التهديد بحمام دم «سيلطخ ضمير العالم» (كما قال أوباما) كان ضعيفاً.
يبقى أن نرى ما إذا كان الدخول المترنح في الحرب سينفع أو لا، وسواء أن الولايات المتحدة وحلفاءها سينقذون الناس أو سيقضون عليهم، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه هو: لماذا يستمر ذلك بالحصول؟ لماذا يستمر رؤساء مختلفون بالقيام بالأمر نفسه؟ كيف يمكن الناخبين الذين بدوا وقد سأموا من الحرب في 2008 أن يراقبوا ما يحصل بسلبية، فيما جرى تصعيد حرب في 2009 وشنت أخرى في 2011؟ كيف يمكن حزبين سياسيين عالقين في صراع بغيض، على كل فلس في موازنة الحكومة، أن يجلسا بسرور ويشاهدا الرئيس يصرف مئة مليون دولار في اليوم في مغامرته الأخيرة؟ ماذا يحصل هنا؟
ما يلي هي الأسباب الخمسة، برأيي، التي تدفع أميركا إلى التورط بالحروب الحمقاء.

أولاً: لأنّنا نستطيع

السبب الأكثر وضوحاً الذي يفسر لماذا تستمر الولايات المتحدة في القيام بهذه الأمور هو أنّها في الحقيقة تملك جيشاً قوياً جداً، وخصوصاً في مواجهة قوة صغيرة مثل ليبيا. كما كتبت منذ أسبوعين، حين تملك مئات الطائرات، قنابل ذكية، وصواريخ، يبدو العالم أجمع كمجموعة أهداف. لذلك، حين تظهر مشكلة شائكة في مكان ما في العالم، من الصعب مقاومة إغراء «فعل أمر ما»!
كأنّ الرئيس يملك زراً أحمر كبيراً على مكتبه، ويدخل أحد مساعديه إلى مكتبه ويقول له: «هناك أمر سيئ جداً يحصل لبعض الأشخاص الأبرياء سيدي الرئيس، لكن إذا ضغطت على هذا الزر تستطيع إيقاف الأمر. قد يكلف ذلك بضعة ملايين الدولارات، وربما حتى بضعة مليارات حين ننتهي، لكن يمكننا تحمل المزيد من الديون. طالما لا ترسل مشاة، فإنّ الجمهور على الأرجح سيوافق، على الأقل لفترة، ولا خطر من ردود فعل عسكرية ضدنا ـــــ على الأقل ليس في القريب العاجل ـــــ لانّ الأشرار (وهم شريرون جداً) هم ضعفاء كثيراً أيضاً. مصالحنا الحيوية ليست على المحك سيدي، لذلك لست مضطراً إلى فعل شيء. لكن إذا لم تضغط على هذا الزر، فسيموت الكثير من الأبرياء. الخيار لك سيدي الرئيس».
يتطلب الأمر رئيساً قوياً جداً وحازماً ـــــ أو رئيساً مع مجموعة من الأولويات الوطنية الواضحة وفهم عميق للشكوك المتعلقة بالحرب ـــــ ليقاوم هذا الطلب المخادع.
بالطبع، أوباما، كأسلافه، يبرر لجوءه إلى القوة عبر ذكر موقع أميركا المميز في العالم. في الخطاب المعتاد عن «التميّز الأميركي»، صاغ الأمر بعبارات القيم الأميركية، والتزامها بالحرية، إلخ. لكن الأمر المميز بحق في أميركا اليوم، ليس قيمنا (وليس بالطبع بنيتنا التحتية العظيمة، معايير التعليم العالية، ازدهار الطبقة الوسطى المتصاعد، إلخ)، لكنّه تركيز القوة العسكرية في أيدي الرئيس، والقيود السياسية المتآكلة تجاه استخدامها.
ثانياً: لا أعداء جدّيين للولايات المتحدة
العامل الثاني الذي يسمح للولايات المتحدة بالاستمرار في شن هذه الحروب الاختيارية، هو حقيقة أنّ نهاية الحرب الباردة أعطت أميركا مركزاً آمناً، نسبياً. لا قوى عظمى في الغرب؛ لا «منافس ند» لنا في أي مكان (رغم أنّ الصين قد تصبح نداً قريباً إذا استمررنا في تبديد قوتنا بغباء). كذلك ليس هناك أي بلد في العالم يستطيع التفكير في الهجوم على أميركا، دون أن يجرّ الدمار على نفسه. نحن نواجه مشكلة مزعجة في ما يتعلق بالإرهاب، لكن هذا الخطر مبالغ به، على الأرجح، وهو في جزء منه ردّ فعل على ميلنا إلى التدخل في الدول الأخرى، ويمكن معالجته بطرق أخرى. إنّه أمر مثير للسخرية فعلاً: لأنّ الأراضي الأميركية آمنة من الأخطار الخارجية (وهو أمر جيد)، يتمتع الأميركيون برفاهية الخروج من بلدهم «للبحث عن وحوش لتدميرها» (وهو ليس أمراً جيداً). إذا كان الأميركيون فعلاً قلقين من اضطرارهم للدفاع عن أرضنا ضد عدو قوي، فلن نضيّع وقتنا وأموالنا على مشاريع تحسّن معنوياتنا مثل الحملة الليبية. لكن موقعنا الجيوسياسي، المناسب للغاية، يسمح لنا بالقيام بهذه الأمور، حتى لو لم تكن منطقية استراتيجياً.

ثالثاً: الجيش المؤلف من متطوعين

العامل الثالث المساعد وراء إدماننا على المغامرات هو الجيش المؤلف من متطوعين. عبر تحديد الخدمة العسكرية بالأشخاص المتطوعين، يمكن السيطرة بسهولة على الاعتراض الشعبي على الحروب. هل كان بإمكان بوش أو أوباما الاستمرار في حربي العراق أو أفغانستان لو كان معظم الشبان الأميركيين مضطرين للانتساب إلى الجيش، ولو كان أبناء وبنات مصرفيي «وول ستريت» يرسلون إلى الخطر لأنّ القرعة وقعت عليهم في الجيش؟ أشك كثيراً بذلك.
على فكرة، أنا لا أقول إنّ الجيش التطوعي هو فكرة سيئة يجب التخلص منها، فهناك أسباب كثيرة تدفع إلى الإبقاء عليه. لكن، الجيش القائم على التطوع هو واحدة من تلك الأفكار الخاصة بالأمن القومي الأميركي المعاصر التي تجعل اللجوء المتكرر إلى القوة مسموحاً به سياسياً.

رابعاً: إنّه «الاستبلشمنت» أيها الغبي!

السبب الرابع الذي يدفعنا إلى الاستمرار في التدخل في شؤون العالم أجمع هو حقيقة أنّ مؤسسة السياسة الخارجية مصممة على «القيام بأمر ما». يسيطر على السياسة الخارجية في واشنطن تفكير المحافظين الجدد (الذين يقولون علناً بضرورة تصدير «الحرية» ولم يعترضوا على أي حرب) أو تفكير «الليبراليين التدخليين» الذين يتحمسون لاستخدام القوة العسكرية لحل المشاكل، بشرط قدرتهم على تأمين غطاء تعددي لها. هؤلاء يعترفون أحياناً بأنّ الولايات المتحدة لا يمكنها حلّ كلّ المشاكل (على الأقل ليس في الوقت نفسه)، لكنّهم يعتقدون بأنّ الولايات المتحدة دولة «لا يمكن الاستغناء عنها»، ويريدون منا أن نحل أكبر عدد من مشاكل العالم.
يطوّر هذه الرؤى وينشرها ويدافع عنها، شبكة من مراكز الأبحاث، اللجان، ومدارس السياسات العامة، ووكالات حكومية لا تتفق دوماً على ما يجب فعله (أو على المشاكل التي تحظى بأولوية)، لكنّها كلّها ملتزمة باستخدام القوة الأميركية كثيراً. باختصار، تصوغ سياستنا الخارجية طبقة من فاعلي الخير يقضون سنوات خارج السلطة، محاولين العودة إليها، ويقضون وقتهم خلال عملهم في الإدارة محاولين دفع مشاريعهم الخاصة، مهما كانت. بعدما جهدوا للدخول إلى الإدارة، فإنّ من المستبعد أن يعمد الأشخاص الذين يديرون سياستنا الخارجية للدعوة الى ضبط النفس، أو إلى أن يقولوا إنّ الولايات المتحدة والعالم سيكونان في حال أفضل فيما لو تواضعت واشنطن قليلاً. في النهاية، ما الهدف من أن يكون المرء شخصاً مهماً في واشنطن إذا لم يكن باستطاعته استخدام كلّ هذه القوة ليغير العالم على ذوقه؟
بالمقارنة مع معظم الأميركيين، إنّها مجموعة من الأشخاص الأغنياء، ذات الحظوة، وتعليم عال، ومعظمهم لا يتأثرون بالسياسات التي يروّجون لها (مع استثناءات قليلة، أولادهم لا يخدمون في الجيش، راجع ثالثاً). على الأغلب، لا يعاني المدافعون عن التدخل من نتائج مالية قاسية أو يواجهون عقوبات مهنية طويلة إذا ساءت الحرب الخارجية. سيعودون ببساطة إلى وظائفهم في مراكز الأبحاث، حين تنتهي فترة خدمتهم.
على فكرة، تحت التوافق المؤسساتي في السياسة الخارجية تترصد أفضل خدعة قام بها اليمين الأميركي. منذ منتصف الستينيات، شن المحافظون الأميركيون حملة ناجحة، لا هوادة فيها، لإقناع الناخبين الأميركيين بأنّ دفع الضرائب لتحقيق برامج داخلية هو مضيعة للوقت وغباء وحماقة. لكن واجبنا الوطني هو دفع الضرائب لمساندة مؤسسة عسكرية تكلف أكثر مما تكلفه جيوش العالم مجتمعة، ولا تستخدم لحماية الأراضي الأميركية، بل لشن حروب بالنيابة عن أشخاص آخرين. بعبارات أخرى، اقتنع الأميركيون بأنّ من الخطأ صرف عائدات الضرائب على أمور تساعد مواطنيهم (مثل المدارس الجيدة، الرعاية الصحية، الطرقات، والجسور، السكك الحديد، إلخ)، لكنّه مقبول كلياً فرض ضرائب على الأميركيين (لكن ليس الأغنى بينهم) لصرف الأموال على حروب خارجية. لقد اقتنعنا بالموضوع. بالإضافة إلى ذلك، لا يبدو أنّ هناك آلية فعالة لإجبار الرئيس على أن يقف ضد الصفقات التي يعقدها: أموال تصرف على حروب اختيارية مقابل برامج محلية يجب الاقتطاع منها في الداخل، ما يجعلنا نصل إلى العامل الخامس.

خامساً: الكونغرس تخلى عن دوره

أعطيت سلطة شنّ الحروب إلى الكونغرس، لا الى الرئيس، لكن هذه السلطة أسيء استخدامها خلال الحرب العالمية الثانية. رغم أنّ الدستور واضح جداً في هذه النقطة، لا يشعر الرؤساء الحديثون بقيود حين يأمرون القوات الأميركية بالهجوم على دول أخرى، أو حتى في إخبار الكونغرس بما يفعلونه في السر. بالتالي، في الممارسة، فإنّ نظام المحاسبة المكرس في الدستور، الذي يسمح لفروع في الإدارة بمنع غيرها من القيام بأمر خاطئ، لم يعد يعمل. يعني ذلك أنّ استخدام القوة العسكرية الأميركية تُرك للرؤساء وبعض المستشارين الطموحين (راجع رابعاً). لا يعني ذلك أنّ الرأي العام الشعبي لا يدخل في حساباتهم (لديهم مسؤولون عن استطلاعات الرأي ومستشارون سياسيون أيضاً)، لكنّهم لا يرتدعون.
مما لا شك فيه، أنّه يمكن المرء أن يضيف عوامل أخرى لهذه اللائحة (الصحافة السلبية، الصناعات العسكرية، إلخ)، لكن العوامل المذكورة تذهب بعيداً في تفسير لماذا الولايات المتحدة، المفترض أنّها محبة للسلام، تجد نفسها في هذه الحروب الصغيرة، لكن الاستنزافية.
خلال حملة 2008، قال باراك أوباما إنّ فيلمه المفضل هو «العراب» (The Godfather). وإذا كنت لا أزال أذكر، قال إنّ ثاني أفضل فيلم لديه هو «العراب، الجزء الثاني» (The Godfather, Part II). لكن رئاسته بدأت تبدو كالجزء الثالث من هذه السلسلة المشهورة. ففي هذا الجزء، يشتكي مايكل كورليون من الأقدار التي خربت محاولته جعل عائلة كورليون شرعية.
أستطيع سماع أوباما يقول: «حين ظننت أنّني خرجت من هذه الدائرة ... سحبوني إليها مجدداً». هذا تحديداً ما يحصل.
*عن مجلة «فورين بوليسي»




مسألة الشرق الأوسط



وليم فاف*

هناك صراع يجري لإعادة السيطرة الأميركية على من سيأتي ليحل مكان المستبدّين الذين أطاحتهم الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر. هذه الانتفاضات تهدّد وظيفة الملوك المطلقين الآخرين المستبدين والرؤساء مدى الحياة (وذرّيّتهم).
سُرّب التقرير الذي يتحدث عن رمي الحكومة الأميركية للرئيس اليمني علي عبد الله صالح لتقضي عليه الجماهير المنتفضة، ما يفتح المجال أمام الـ«سي آي إيه» لاختيار خليفته، إلى صحيفة «نيويورك تايمز». غلطته، في نظر المسؤولين الأميركيين، ليست القتل والعنف الذي استخدمه ضد مواطنيه المنتفضين على حكمه، وهو مسموح حتى الآن، (كما في حالة حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس)، بل فشل هذا العنف في قمع الانتفاضة الشعبية. هؤلاء الأشخاص لا يُعدّون غير صالحين للحكم بسبب استبدادهم، بل لأنّ هذا الاستبداد فاشل.
ما اكتشفه الأميركيون عن الرئيس صالح هو فقدانه فائدته بما هو أداة في الحرب الأميركية على «الفرع اليمني من القاعدة»، التي يراها المسؤولون الأميركيون مواجهة مهمة مع الجهادية العالمية. يخاف الرأي العام في الأوساط اليمينية الأميركية من استبدال الدستور الأميركي في المحاكم بالشريعة الإسلامية، ومن سيطرة المهاجرين المتعصبين الإسلاميين على أوروبا، ورغبتهم في تأسيس خلافة إسلامية عالمية.
التهديدات ذاتها تلك، يتحدث عنها القس تيري جونز، من غينزفيل في فلوريدا، الذي يُعدّ لمشروعه المقبل، بعد التسبب في مقتل أكثر من عشرين شخصاً في أفغانستان. مشروعه هو محاكمة غيابية للنبي محمد. كلّ هذه الأحداث متصلة (ولو من بعيد) وتتعلق بالهستيريا السياسية الأميركية، وتستغلّ في وقت سواد الغوغائية، كما شهدته أميركا من قبل.
أعرف أنّ الدول الكبرى تقبل بزبائنها من دون التدقيق بأخلاقهم قبل أن تتبنّاهم سياسياً. لكن، منذ بدأت الانتفاضة التونسية، سمحت الأحداث المتعاقبة بتفكير الحكومة الأميركية ـــــ أو على الأقل الإدارة الحالية ـــــ بإمكانية إعادة النظر في سياسة قومية في ما يتعلق بالتعامل مع العالم العربي، عبر مستبدّين مثل صدام حسين، الذين يجب استبدالهم حين تنتهي مهمتهم.
يبدو أنّه كان هناك اعتراف بأنّ الحلول السياسية المحلية والحقيقية قد تكون أنجع من البنى السياسية الاصطناعية التي فُرضت على العراق وأفغانستان. بنى كانت بديلاً من ديكتاتوريات عسكرية محليّة أو عن تطرف ديني محلّي فرض نفسه على هذه المجتمعات. الديكتاتوريات كانت غير نافعة للسياسة الأميركية، وتميّز التطرف الديني بمعاداة الغرب والظلامية. أثارت الثقافات الإسلامية الدينية ذعر المسيحيين الأميركيين البروتستانت الأصوليين، والمصلحين السياسيين الغربيين التقدميين، على السواء. وجد المحافظون الجدد الأميركيون وأنصار التدخل الإنساني أرضية مشتركة في محاولتهم إعادة خلق الإسلام وفق خطوط عالمية جديدة (وصديقة لإسرائيل).
الأسباب الحقيقية للثورات كانت أعمق ممّا اعتقدته مكاتب المسؤولين الغربيين. كان واضحاً الغضب الاجتماعي بسبب سوء توزيع الثروات والحكم الاعتباطي عبر المؤسسات الأمنية القوية. لكن هذه الدول ليست متخلفة. إطلاق هذه الصفة على لبنان، سوريا أو عراق ما قبل 2003، أو إيران أو مصر، وهي أقدمها والأكثر تطوراً بينها، مناف للعقل.
يمكن وصف مشكلتها السياسة بتطوّر مفرط. لقد شهدت هذه الحضارات كلّ شيء.
مُنحت الدول العربية التي نتجت من تقسيم الإمبراطورية العثمانية في عشرينيات القرن العشرين، حدوداً اصطناعية تجاهلت حقائق ومصالح اثنية، مذهبية، تاريخية، وقبلية. العراق، وسوريا، والأردن، ولبنان، وليبيا أمثلة عن كيانات سياسية اصطناعية وتدخّل غربي من أجل تحقيق المصالح الاستعمارية الأوروبية. كذلك، فإنّ الدولة غير العربية وغير المسلمة الجديدة، إسرائيل، فُرِضت مكان فلسطين التاريخية، من أجل التكفير عن فظائع الهولوكوست، وهي جريمة أوروبية لا ينبغي أن تتحمل الحضارة الإسلامية مسؤوليتها، بأي شكل من الأشكال.
التفكير بأنّ الولايات المتحدة والدول الأوروبية تملك حلولاً أوتوماتيكية لكل ذلك هو منطق سخيف. قد «توافق» الحكومات الأوروبية غير المهتمة على أي قيادة سياسية جديدة تبرز من التطور الحالي الفوضوي في المنطقة، لكن وفق أي شروط؟ ما يعطي أفضلية للدول الاستعمارية السابقة هو معرفتها بالمنطقة، خبرتها، والارتباط اللغوي والثقافي. العوائق أمامها هي أنّها حاكم سابق، لن تُنسى جرائمه وانتهاكاته. هناك دول متقدمة أخرى صغيرة لا تملك تاريخاً استعمارياً مثيراً للجدل، تكون مستعدّة وقادرة على المساعدة. تقدّم الأمم المتحدة مشاريع بناء حكومات، ومساعدات وموارد لبناء الدولة، من ضمنها إرسال موظفين ذوي خبرة وفق الطلب أو الطوارئ. وتضمّ شرعة الأمم المتحدة بنية للوصاية يمكن استخدامها.
لكن النتيجة الأسوأ هي تلك الأكثر ترجيحاً: جهد أميركي جديد لإدارة المنطقة عبر زبائن ومفضّلين سياسيين مختارين، وفق مبدأ «الدمقرطة» الخادع. وهذا المنطق هو السياسة ذاتها التي منحت المنطقة حروباً داخل العراق وحوله، اسرائيل، لبنان، افغانستان، باكستان، وهدّد بالحرب في إيران والتدخل الليبي اليوم. يجب على المرء أن يفعل ما هو أفضل من ذلك.
* عن «تروثديغ»،
مجلة إلكترونية يسارية